قرأت الكثير من الترجمات حول سوناتات شكسبير، وكان كل مترجم له نهجه وطابعه ووسمه الخاص في الترجمة لتلك المقطوعات شبه الموسيقية، كونها لها الطريقة النغمية الموزونة موسيقياً، في طابع التأليف، ومن هنا صمدت تلك الأشعار والموتيفات والمُقطَّعات الشعرية، أمام رياح التحوُّلات وعوامل التعرية اللغوية على مرّ الأزمنة التي تعاقبت، منذ ستمئة سنة على أقل تقدير، بعد كتابتها على يد شكسبير في تلك الأيام، فتركها شكسبير كلآلئ، تضيء حياة القادمين من القراء على هذا الكوكب الأرضي، حيثما كان القارئ، لأنها تتحدَّث عن محنة الوجود البشري، وعن ملابسات الحياة ومشكلاتها اليومية، عن الشك واليقين والغدر والموت والاستئثار والغيرة، والحب والغرماء والملوك والقادة والمحاربين والجنود الذين يذهبون ضحية حكم ملك غير عادل، وضحية قائد أهوج يفتقر لصوت العقل والحكمة، ويفتقد حس التروِّي وحس التعامل الإنساني. فسوناتات شكسبير مثل مسرحياته التي ظلت تتعايش معنا كأنها مكتوبة اليوم لنا، لتواكب مسيرتنا وتشير إلى مأساتنا وملهاتنا في آن، كبشر أجمعين نعيش حياة واحدة لا غير، وتوجَّب علينا أن نعيشها ونتقاسمها، رَغم الموت كوظيفة فيسيولوجية، أبدية تحيق بالكائن الإنساني على نحو عام .
من هنا وجدنا الكثير أيضاً مَن يكتب السوناتات في العالم، وبطريقة نغمية فيها الكثير من الموسيقى والإيقاع والدوزنة، كسوناتات الشاعر الايطالي بترارك على سبيل المثال، إذ ثمة بحور وثيمات وإيقاعات معينة لها علاقة بالسوناتا، حتى ظهر هناك بعض الشعراء العرب مَن كتب تحت هذه اليافطة، ليقرِّب الفكرة الشعرية من عالم التلوين الموسيقي الذي يتميز به العروض العربي، الفاتن والقادر والمتمكن، على تطويع الأفكار والرؤى والأخيلة، إلى سياقه الوزني المتسم بالهرمنة، حيث الانضباط والتقطيع والتوليف الإيقاعي .
يبرز من بين هؤلاء البارعين في تطويع هذا الفن، إلى خياله وموضوعه ورؤيته، الشاعر السويدي ماغنوس وليام أولسون، هذا الشاعر الذي قدَّم في لغته السويدية، لغة الشاعر الفذ توماس ترانسترومر الحاصل جائزة نوبل، والسويدي أيضاً، هذه السوناتات المرهفة والغنيَّة والمُعبِّرة، والتي قام بترجمتها عن السويدية الشاعر إبراهيم عبد الملك، وهو شاعر مطبوع ومتمكن وقدير من لغته العربية، ومن عروضها الشعري، حيث قدَّم لنا الشاعر ماغنوس وليام أولسون، بحُلة عربية متينة وقشيبة، وعبر موسيقى الشعر العربي الغني بثروته الإيقاعية، قدَّمه موزوناً، ومُقطَّعاً على طريقة السوناتا، تلك التي تحسب النبْر وعدد النغمات والكلمات في المقاطع المُراد تحويلها إلى العربية. وأجدني هنا قد لمست عن كثب هذا السياق الهارموني، الجميل والمتآخي موسيقياً وإيقاعياً، مع الصوت والنبرة والحكمة والمعنى الذي تنطوي عليه سوناتا أولسون، وبطريقة فيها الكثير من فنّ التخييل والمُحاكاة والتواشج، وفيها المجهود المبذول من ناحية الأسلبة في ربط الصلات والأمشاج والروابط بين لغتين متباعدتين، ولكن المقدرة اللغوية والفنية والجمالية التي يتمتَّع بها ابراهيم عبد الملك، قد ساعدت من دون شك في تمهيد الطريق اللغوي، من أجل أن يكون سالكاً بين السويدية واللغة العربية، لغتنا القادرة على الاحتضان ترجمياً للغات الأجنبية، وذلك نعزوه لشساعتها التعبيرية، وقوة طاقتها الجمالية، المتمثلة بالرنة الموسيقية، ولطبيعة تقبلها للوافد والغريب والأعجم، وهذا ما يُذكر بالنشاط الترجمي العربي أيام الخليفة المأمون، إبَّان الفترة الذهبية من الحكم العباسي، حيث ازدهار العلم والفنون وآفاق الترجمة.
يوضِّح المترجم مَن هي «إنغر» في الخاتمة التي وضعت للكتاب، ولكننا من خلال القراءة الدقيقة للعمل، وقبل قراءة الخاتمة، استطعنا الوصول إلى أنّ «إنغر» هي امرأة تعرّضتْ لحادثة غرق، بعد إصابتها بمرض الزهايمر، أو هكذا تخيلها الشاعر، أو هكذا نحن نتخيَّلها، سارداً حكايتها، بصيغة الحكايات الشعرية المحبوكة، على هيئة سوناتات مرنانة، إذ يبدو من خلال السياق الفني والتعبيري والنفسي، أنها أمُّ السارد أو بطل هذه المقطوعات الميتا ـ نغمية، المصوغة بدينامية شعرية، مقرونة بالنسق الكلاسيكي الحي، والمتوافق والمتنامي نصيَّاً مع الصنيع المكين للشاعر السويدي، وللمترجم العربي الذي وفِّق على نحو ملفت، في استدعاء البراعة والإتقان والحرفنة في تقريب المُناخ النغمي للرنة الشعرية السويدية، وذلك عبر مزجها بطريقة مدافة وسحرية مع سماحة العربية، التي أدتْ إلى سياق صائت وبوليفونيّ مُهرمَن، رسم بوضوح تام، هذا التعدَّد الصوتي والنبرة المائلة إلى الانزياح المنبور. فعلى سبيل المثال يرد في السوناتا الأولى التي صيغت بالعربية على البحر البسيط، لتأتي المقطوعة الشعرية، أو السوناتا هكذا:
«خطُّ الحياةِ الذي في الكفِّ من أينَ؟
نهايةٌ لوَّنتْ نظراتنا، ريحها هبَّتْ من العَدَمِ
ميْتٌ من السمكِ يطفو على جدول النسيانِ والألمِ
هذا رمادُ السما ملقىً على الوجنةْ».
ثم يُنوّع الشاعر السويدي الذي يفتتح نص السوناتات وطقسها، بساحل البحر والجثة التي طفت مع السمك الميت، يُنوِّع المَشاهد والمواقع والصور، ويدعمها بالميثولوجي لتكون الجملة الشعرية أقوى وأبقى وأسمى من ناحية البوح المأساوي، فهو يعرف أن كرونوس والد زيوس في الأسطورة الإغريقية، وحضوره في النص يعين على استدراج الزمن الأبدي، ليُجسدها المُترجم في السوناتا السادسة على بحر الكامل:
« أني رأيتكِ عبر نافذتي خيالا
يُسراكِ تحتضن الكتابَ، وفي اليمينِ
سيجارةٌ، جالتْ مع النسيانِ نظرتكِ التي لا تستكين
لا تقلبين الصفحةَ، الحاليُّ يعني الكمالا».
على الرَّغم من الطابع النغمي الذي لحق بسياق العمل كله، يبقى العمل من خلال تطوِّر سياقه الفني، ملحمياً، حتى ولو بدت الشخصيات قليلة والزمن أقل والمكان شبه غائم، ولكنه متلبس بضباب بحري، إنه ضباب الزمن، ضباب الضياع الأبدي على ساحل بحريٍّ، ثمة اصطراع يلوح في العمل، ولكنه اصطراع ليس بطولياً مع شخوص معنيين، بل هو اصطراع وجودي، اصطراع الكائن مع مصيره، كائن فرد، يواجه المأساة وذروتها وحيداً، هو العالم والكائنات المحيطة، يواجه النهاية المحتَّمة، والقدر القافز الى الروح ليقنصها وتنتهي الحياة هكذا :
« شفة نداها ينقذ المفتون من عطش قليلا
والجبهة انكشفتْ كما لو فكرةٌ، ثمَّ اللسان،
لا تهربي، لا تجزعي، قفزٌ الى أعماقِ هاويةٍ بالجَنان
لجمُ الأمومةِ، روعة تَهَبُ الذُّهولا «
فإذا كان الشاعر أولسون قد أفاد من الأسطورة لتدخل في الملحميّ، فهو لا يَني يقدِّم بعد كرونوس جوكاستا وهي أمّ اوديب، ليملأ العمل بالإيهام والتورية، وإلحاق الرموز بنسيج النص، لكي يتماسك ويومئ بالإيحاء، ومن ثم الإيفاء بجمال التخليق وهو يجدل النص ويضفره الى عمل ملحمي، مختصر بكائن وبطل واحد، ومشهد مضبب، لا يوحي الا بالتيه والفقدان والضياع :
« الثوبُ داعبت النقاطُ بياضهُ حُمراً وسودا
حيثُ انحناءُ الخصرِ والثديانِ في حضن الحرير
لكنَّ صوتكِ فجأةً يحتدُّ، يأتي كالنذير
ولدي وداعاً كلّ ما قد كان لي يمضي بعيدا «
وحين يؤسطر الشاعر بعض السوناتات، ويُمَثلجُها عبر خيط دقيق من الميثولوجيا اليونانية، يتجلى هنا الصنيع البارع في الاستيهام وصوغ الأسطوري ليكون واقعاً، متماهياً مع لحظة حاضرة وواقعية، تُماهي الأسطوري بالواقعي، وتدمج الميتافزيقي بالحسي والملموس، غرق، جثة طافية، ساحل وشمس وكتاب، وثمة موت وزمن متجمد وأبدي، يُلهمه كرونوس لحظة التأبيد، ليغدو متصلاً مع زمان آخر لا نهاية له، إنه زمن الموت والحياة، إنه موت فلسفي، تمنحه الفلسفة الوضعية الكانطية، السموَّ والرفعة، كي يبقى خالداً ومؤسطراً ومُمَثلجاً، مع الواقع الحي والمرئي .
ففي السوناتا الثالثة عشرة، وهنا يحضر الرقم التشاؤمي، لدى المترجم الذي لم يستطع تقفية هذه السوناتا، فقط لا غير، من مجموع سبعة وعشرين سوناتة، تقفَّت بإتقان وعلى نحو بارع وموزون، فجاءت هذه السوناتا التي دُوزِنتْ على بحر الرمل، لتخبرنا بحضور كانط الفيلسوف :
« ها على صدركِ كانطٌ والسُّمُوُّ
ملعبُ المعرفة الأولُ صحراء غدا
رغم ذا اختاري، أشيري، وخذي
كانطُ اليومَ، وإدراكٌ مُضاع «
وبذا في السوناتا السابعة والعشرين، يُسدل أولسون الستار على مسرح السوناتات المُترع بالألفة والأسى والغياب، لتكون الخاتمة على بحر المتدارك :
« ما سوف يبقى هنا، مسرحٌ متعبٌ، سأمٌ، شاشة خاوية» .
حمل الكتاب مقدمة ضافية للمترجم، ومقدمة أخرى للشاعر، يكشف فيها طريقة كتابته لهذه السوناتات، موضِّحاً فيها ظروف عمله وسهره، وتلك الفجاءة التي هبطت فيها عليه هذه السوناتات، حتى وهو نائم، كانت تدهمه الأفكار الشعرية لغرض كتابتها، وبيّن أيضاً، أسلوبه ورؤاه والصيغة والشكل الذي توصل اليه، من أجل كتابة هذه المَغناة الرفيعة .
ماغنوس وليام أولسون: «سوناتات إنغر»
ترجمة إبراهيم عبد الملك
منشورات المتوسط، ايطاليا 2016
79 صفحة.
هاشم شفيق