مشهد المندوب الروسي وهو يرفع يده معلناً استخدام الفيتو ضد مشروع قرار أممي بوقف قصف حلب مثير للاشمئزاز. والحقيقة أن كلمة اشمئزاز لا تكفي من أجل التعبير عن عبثية المشهد السوري الذي تتناهشه الذئاب، وصار اليوم عنواناً لعقم النقاش السياسي ولاجدواه، بعدما صارت السياسة لعبة أمم، لا مكان فيها لأية مرجعية أخلاقية.
وهذا ليس جديداً، فالسياسة كانت دائماً هكذا، موازين قوى ومصالح، ولا مكان فيها للعواطف أو المرجعيات الأخلاقية. لكن الجديد، هو ولادة لغة سياسية سائدة، يصير معها النقاش الأخلاقي بلا جدوى ونافلاً. وهذا يشكل كارثة ثقافية على كل المستويات، لأن وظيفة الثقافة كما عرفناها منذ «اني أتهم» لزولا، هي تصويب السياسة بالقيم الأخلاقية، وبذا تحمي المجتمع من السقوط في اللامعنى.
ولقد تبلور الدور النقدي – الأخلاقي للثقافة مع صعود الفكر اليساري، الذي قدّم النقد الأكثر جذرية للسلطة، بما فيها السلطات الشيوعية نفسها، فنقد الستالينية جاء من قبل شيوعيين منشقين عن المنظومة السوفياتية، وكان بمثابة اطار اخلاقي سمح للثقافة بأن تحافظ على دورها الاجتماعي، وأن تشكل منظومة قيم أخلاقية انسانية، لعبت دوراً كبيراً في دعم نضالات حركات التحرر الوطني في العالم الثالث من فيتنام إلى جنوب افريقيا.
وفي المقابل، لم تستطع منظومة الفكر المدافع عن حقوق الانسان، منع الانهيار الثقافي الأخلاقي الذي يعمّ عالم اليوم. فهذه المنظومة التي لعبت دور بديل اليسار، على المستوى الأخلاقي- السياسي، وتمددت في العالم بأسره عبر الجمعيات غير الحكومية، وجدت نفسها أمام حائط مسدود. فمرجعيتها الأخلاقية هي الفكر الليبرالي الغربي الذي يشهد ضموراً ملحوظاً، لمصلحة صعود تيارات قومية شعبوية، وتمويلها الأمريكي والغربي ليس خارج الشبهات، خصوصاً وأن دور الولايات المتحدة في الاطاحة بالقيم الأخلاقية الليبرالية وصل إلى ذروته في معتقل غوانتنامو، الذي لم يُقفل، وفي السياسة الأمريكية اللاأخلاقية تجاه المأساة السورية.
قدمت منظومة القيم الثقافية الأخلاقية ما يشبه شبكات الأمان للشعوب المضطهدة، وعبر منظوماتها الفكرية، استطاعت قضايا النضال ضد الكولونيالية أن تجد قوى داعمة في مجتمعات دول المتروبول، هذا التلاقي بين النضال التحرري والدعم الأخلاقي-السياسي، شكّل اطاراً لدحر الاستعمار في العالم بأسره.
قد يُقال ان هذا الضمور الأخلاقي جاء نتيجة تغير شامل في المجالين الثقافي والسياسي بعد نهاية الحرب الباردة، مع ما رافقها من تحولات اقتصادية واجتماعية قامت بتسييد قيم النيوليبرالية، وانتصار الفكر الهوياتي الذي بشرنا بصراع الحضارات، وانهيار مقولة العدالة الاجتماعية لمصلحة إله السوق، وهذا صحيح. لكن الصحيح أيضاً هو ما يمكن أن نطلق عليه اسم الاحباط الثقافي، وهو مزيج من الضحالة الفكرية ومحاولة الالتحاق باللغة السائدة، جعل من استلحاق الكثير من المثقفين اليساريين بالركب السائد، أشبه بوصفة جاهزة من أجل الظهور بمظهر معاصر وما بعد حداثي.
وإذا كانت الدول تستطيع التأقلم مع هذا الواقع الجديد، فإن الشعوب التي لا تملك دولاً أو تعيش في ظل دول فاشلة أو تخضع للديكتاتوريات الاستبدادية سواء أكانت عسكرية او قبلية دينية، مهددة بالمعنى الحرفي للكلمة. واللافت أن شعوب المنطقة العربية، هي الأكثر تعرضاً لتهديد الامحاء أو التشرد أو الهجرة. أو الإفقار المطلق من سورية والعراق إلى فلسطين ولبنان وصولاً إلى مصر واليمن وليبيا وإلى آخره…
فما كشفه انفجار الثورات العربية، هو غياب المبنى الأخلاقي- السياسي، الذي يقدم تصوراً جديداً لعلاقة المجتمع بالدولة، ولدور الأفراد الأحرار في صوغ حاضرهم ومستقبلهم. انهيار المشروع القومي بعدما قام الاستبداد بالسيطرة عليه وتحويله إلى أداة قمع وحشية، قاد إلى فراغ أخلاقي لم تستطع القوى التي أنتجتها العولمة: التيارات الهوياتية- الدينية والتيارات الليبرالية التي تبنتها شرائح من الطبقة الوسطى، أن تملأه. الاسلام السياسي بشقيه الإخواني والجهادي كان عامل انقسام بدل أن يكون عامل توحيد، مثلما ادّعى أصحابه طويلاً، والمشروع الديموقراطي الليبرالي، الذي استند إلى طبقة وسطى مدينية متعلمة، اثبت أن بنيته عاجزة عن مقاومة آلة السلطة الوحشية، اذ سرعان ما تلاشت التنسيقيات الشعبية السورية لمصلحة القوى المسلحة، ليجري بعدها تهميش الجيش الحر لمصلحة الأصولية الجهادية وممارساتها القمعية الوحشية.
المأزق الأخلاقي السياسي الذي يعيشه العالم، في ظل تنامي الإمبراطوريات الكولونيالية الجديدة كروسيا والصين، ومشاريع الامبراطوريات الصغرى كإسرائيل وتركيا وايران، يتخذ في المشرق العربي شكل الكارثة. اذ أصبح الخيار المطروح هو بين طاعون الاستبداد وكوليرا الاستبداد الأصولي المضاد. والمفارق أن الطاعون والاستبداد قد يلتقيان في حمّى الاقتتال الطائفي، فتصير الاصولية الشيعية رديفاً للاستبداد الاسدي في سورية، مثلما تصير الأصولية السنية رديفاً لأنظمة الاستبداد النفطية.
الخروج من هذه الكارثة صعب ولكنه ليس مستحيلاً، وهو يفترض التحرر من الخطاب الإنسانوي المعولم على الطريقة الامريكية، ومن الخطاب الاصولي الديني بشقيه المتصارعين.
هذا هو التحدي الفكري والسياسي الذي تطرحه هذه المرحلة الصعبة والسوداء من تاريخنا، وهو تحدٍ لن يجد احد له حلاً سوانا. فلقد انتهى زمن الأبطال والقادة التاريخيين، وانتهى زمن الاتكال على توازن دولي يحفظ للشعوب العربية الحد الأدنى من حقوقها. انه زمن لن يستقيم في بلادنا الا اذا صنعنا مبنى أخلاقيا- سياسيا جديدا وسط هذا الخراب الشامل الذي يحاصرنا.
الياس خوري