■ «أنضجت قلوبنا هذه الأوطان، غادرناها نهاراً إلى المنافي البعيدة، وما أن هبط الليل حتى نامت في قلوبنا».
كتبت هذه العبارة منذ زمن لصديق وزميل دراسة يعيش مثلي في المنفى، مكثنا، ليلتها، نتذاكر أيام زمان في جامعة صنعاء. وقبل أيام أرسل لي أحد أصــــدقائي المقربيــــن في صنعاء، يقول: «أنت رجل خائن، أيدت العدوان السعودي على وطنك، كان الحوثيون على حق، عندما قدموا في حقك لائحة اتهام بالخيانة العظمى، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، الموت لك»…
انتهت الرسالة التي حكم عليّ الوطن فيها بالإعدام، من دون مرافعات، أو اعتبار لمحبة لا يحملها له أحد مثلي، ولم أحملها لأحد مثله. انتهت المحاكمة بالحكم الذي جاء قاسياً، لأنه جاء من صديق، لأنه جاء من وطن، وطن يحكم بالإعدام، بعد أن تم اختصاره في خريطة جغرافية، ونيشان عسكري، وعمامة رجل دين دماغه علبة سردين، وقلبه بيت عنكبوت.
يحدث أحياناً أن تتحول الأوطان إلى كومة من التراب والأحقاد والدموع وقذائف الكاتيوشا، التي يطلقها الوطن على رؤوس المواطنين، يحدث أن يتحول الوطن إلى رأس طفلة تحول ـ بدوره ـ إلى كرة من الدم تتقاذفها فوهات بنادق المتحاربين، يحدث أن يختصر في قبيلة مختصرة – بدورها – في شيخها، ونزواته، ونهمه الدائم إلى مشيخة العشيرة، وأموال فقرائها، ويحدث أن تقتصر آمالنا في الوطن،على كوخ صغير نؤوب إليه، إذا غرب النهار، ولـَحْد صغير نأوي إليه عندما تغرب الروح.
كان زعيم الوطن يفصل الولاء الوطني على مقاساته هو، وكانت مقاساته شخصية وصغيرة، وظل الزعيم يختصر الوطن إلى أن أصبح هو الوطن والوطن هو، ولما رأيت تلك الصورة التي تمت إعادة منتجتها، رفضتها، فاتهمني الوطن بالخيانة، وحكم عليَّ بالإعدام.
كيف بحق الله أكون خائناً لوطن تمت إعادة منتجته، ليصبح معلباً مثل مخ عبدالملك الحوثي، كيف يتهمني بالخيانة وطن ذهب إلى الكهوف والمغارات، وطلب مني أن أقدم الولاء الوطني لمغارة تعيش فيها الأساطير الدينية وخفافيش الليل. هذا بالطبع ليس وطناً، هذا مجرد قطعة أرض زعم أصحاب الكهوف أن الله كتبها لهم، كما زُعم أن الله أعطى إبراهيم وعداً بأن يعطي أرض الكنعانيين لشعبه المختار.
يطيب لي في ليالي لندن الدافئة النادرة أن أذهب إلى بعض المقاهي المطلة على النهر، لأنسى أوجاع صنعاء، ووجهها المجروب، وصدرها الذي أصابه السُل على رأي شاعرها البردوني.
القهوة والمداد هما وسيلتا من حكمت عليه الأوطان بالخيانة العظمى، لكي يترافع ويدافع عن نفسه في محكمة الأوطان التي تم تجسيدها في شخوص دموية، باحثة عن السلطة والمال. وذات ليلة كنت اكتب، والقهوة تتلاشى روائحها في نسيم النهر، وأنا اكتب. مرت النادلة، قالت: أنت زبون غريب، تطلب القهوة، ثم تنشغل عنها بالكتابة، هل أنت رجل أعمال، مشغول إلى هذا الحد؟ قلت: لا، أنا رجل حكم عليه وطنه بالخيانة. قالت: وماذا فعلت؟ قلت: قصة طويلة يا سيدتي، قد لا تفهمينها، بفعل الفوارق الثقافية والحضارية. قالت: من أين أنت؟ قلت: من اليمن. قالت: أين يوجد اليمن على الخريطة، هل هو قريب من دبي؟ قلت، وقد بلعت حسرة بحجم مأساة اليمن: لا، اليمن بعيد جداً من دبي، بينهما مسافة شاسعة. قالت: أين هو؟ قلت: في قاعة المحكمة يصدر أحكاماً بالإعدام ضد مواطنيه. أدركت النادلة أنه لا جدوى من الحديث مع مجنون مدان بالخيانة، ومحكوم بالإعدام، وذهبت لخدمة الزبائن الذين انتهوا منذ سنين طويلة من فكرة سحق إنسانية المواطن لصالح مجد وطن مختصر في زعمائه.
واصلت ذاكرتي تداعياتها، وحضر معي المرحوم عبدالعزيز عبدالغني رئيس الوزراء الأسبق، الذي لقيته في لندن، في آخر زيارة له قبل أن يغتاله الوطن ذاته الذي حكم علي بالإعدام، أخذني من يدي، بعد محاضرة ألقاها، في أحد مراكز الأبحاث، وذهبنا عقب المحاضرة لتناول بعض الطعام، كان يضغط على يدي بدفء وطن موجوع، أو وطن يدرك أنه سيقتل في عملية تفجير ما، قال لي ضمن حديث طويل: مشكلة اليمن أن عدد حملة السلاح أكثر من عدد حملة الأقلام. ودعت الرجل الدافئ الذي عاد إلى صنعاء لينفجر، وهو واقف بين يدي الله يبحث عن وطن غير مزيف. كان عبدالعزيز عبدالغني واحداً من الصامتين في زمن تكلمت فيه الشوارع، واحتدم السلاح، وملأ عبدالملك الحوثي الفضاء وعيداً وتهديداً.
وعادت النادلة لتأخذ كوب القهوة الذي برد، تبسمتْ، وقالت: هل وصلت إلى الحل؟ قلت: بل وصلت إلى المشكلة؟ قالت: ما هي؟ قلت: «مشكلة اليمن أن عدد حملة السلاح أكثر من عدد حملة الأقلام». رددت عبارة المرحوم للنادلة التي أخذت القهوة الباردة، ومضتْ غير مكترثة، وللتو تذكرت عبارة قالتها الصديقة أمة العليم السوسوة، التي سمعتها في لندن تقول: البطالة تتسع، والجهتان الوحيدتان اللتان تعطيان الوظائف هذه الأيام، هما: «القاعدة» والحوثيون.
هكذا، إذن، خطف العقائديون المؤدلجون الوطن، وحولوه إلى مخزن ذخيرة يطلقونها في كل مكان، حتى رأينا الوطن يقاتل الوطن، ورأينا صنعاء تضرب عدن بالطائرات، إلى الحد الذي جعل عدن تفزع إلى الرياض من هول أمطار صنعاء، ولمـــا حضرت الرياض، قال الوطن إن عدن خائنة تؤيد «عدوان الرياض» على صنعاء. ليت هذا الوطن الذي وضعه الحوثيون في «علاقية القات»، يفهم أن قسوة الأخ على أخيه، تجعل المعتدى عليه يذهب إلى ما هو أبعد من ابن العم، الذي طلبت منه عدن النجدة ضد الوطن المختصر في «علاقية القات»، وصرخة «هيهات منا الذلة».
جاءتني قبل يومين رسالة نصية، تقول: تبرعوا لدعم إخوانكم المجاهدين الذين يقاتلون الدواعش والتكفيريين، بمئة ريال يومياً، في الأيام العشرة الفضيلة». قلت هذا من البلاء. وبعث لي صديق بـ»نكتة نصية»، تقول: مشكلة اليمن في رئيسين: واحد ما قدرنا نخرجه من البلاد، وآخر ما قدرنا نرجعه للبلاد». تبسمت بمرارة، على طريقة: «شر البلية ما يضحك».
كانت النادلة ترمقني مدهوشة، وأنا تمر على وجهي الفصول الأربعة في لحظة واحدة، وكنت أردد في خاطري: سلام عليك أيها الوطن، سلام عليك يا صنعاء وأنت تحكمين علينا غيابياً بالإعدام، لأننا خناك، وحاولنا أن نخرج من علاقية القات، وعلبة التبغ، ومخزن الذخيرة ومن قطران أحمد حميد الدين.
سلام عليك، وبيننا وبينك الله.
جاءت النادلة متلطفة، تقول: هل أحضر لك قهوتك؟ نهضت مودعاً، وقلت: أشكرك، قهوتي في صنعاء.
٭ كاتب يمني من أسرة «القدس العربي»
د. محمد جميح
الشئ المؤسف جدا والمحزن ان مافيش احدا ويكتب عن اليمن غير محمد جميح وكاءن اليمن بلد ليس عربي او بلد منبوذ ليس هناك اهتمام باليمن او مايجري في اليمن من المثقفين العرب والكتاب العرب شئ غريب ومحير جدا في حين اخذ موضوع القمامة في لبنان اهتمام الصحافة والكتاب العرب ودائما اتساءل ما هو السبب
هناك من يحب الزعامة الدائمة كصالح
وهناك من يحب القداسة الموروثة كالحوثي
وهناك من يحب الوطن حبا خالصا كمحمد جميح
ولا حول ولا قوة الا بالله
لافض فوك يا سيدي، حين يختزل الوطن في شخص يفقد الوطن طهره ويصبح عبأ على مواطنيه بدلا من يكون سندا لهم، وانظر حولك للأقطار العربية تجد الماسأة متكررة مع اختلاف الأسماء.
باذن الله قهوتك في صنعاء .
مقالة رائعة ، استمتعت كثيرا وانا اقرأ السهل الممتنع، لله درك .
تحية للكاتب المحترم
أفضل إختصار لمشكلة اليمن
* مشكلة اليمن في رئيسين: واحد ما قدرنا نخرجه من البلاد، وآخر ما قدرنا نرجعه للبلاد». *
لكل واحد فينا وطنه الدى يحيا من اجله ويسكنه اينما حل وارتحل فهو نبض القلب ونور العين والذين يدعون بامتلاك صكوك الوطنية ليوزعونها حسب ولاءاتهم هم مخطئون فاليمن السعيد هو لكل ابنائه شاءوا ام ابوا الم يحن الوقت بعد لهذة الفتنة ان تخمد فالله ارجو ان يمن على اليمن الشقيق بالامن والامان والايمان والسلام .
قلنا زمان .. هذا الكلام يا دكتور.. نعم أنا اصغر من حجم قلمك يا دكتور جميح ومن كل الاقلام التي في موطنُ اسمه اليمن .. لكن للاسف من فرعن هؤلاء حتى صار الوطن يصدر احكاماً لدوي الاقلام امثالك .. مثلاً .. من قال وصاغ .. ما لنا إلا علي .. الخ أين دوي الاقلام يا دكتور حينما قال المخلوع صالح عفّأش البلاطجي الذي احرق كرثه بيده والاحمق الذي فاته القطار ” مقال كتبته على الفيس بوك ” .. حينما قال في مقابلة .. ما بش جنوب بل فرع عاد إلى اصله .. لماذا تكممت افواه صنعاء .. ” الشمال ” ولماذا لم يكتبوا دوي الاقلام حينها ضد هذا الذي جعل الوطن هو وهو الوطن .. تعرف ليش لان دوي الاقلام امثالك .. تعذرنا يالغالي أن كنت قاسياً هُنا .. نعم لان عجبك انت وغيرك الإيقاع على هذا الوثر .. ” ما لنا إلا علي … ” صدق الفنان الربان عبّود خواه اللي قال .. يا ما نصحنا إنسان ما يسمع .. كلما نصحناه زاد طُغيانه ” .. الخ ، هذه النصائح جاءت من الشقيقة عدن لصنعاء .. ولكن .. تركتم فرعونكم يمرح ويفعل مشتهاه يا دكتور جُميح ، يصنّف الاوفياء والوطنيون بالخيانة والمرتزقة .. ويقتل القتيل ويمشي بجنازته .. من اللي فرعنه هو ومن على شاكلته .. واليوم اقصد في ثورة الشباب الـ 11 فبراير 2011 م .. قال المتفرعنيين لذلك الاحمق .. أننا بُراء منك .. ليضمنوا حياتهم عندما راؤوا ان مسيرة فرعونهم ” هُبل سقط ” او انتهت مسيرته .. هؤلاء المتفرعنيين ذهبوا إلى نتاج سياسي اخر ومنهم الوطن امتلاء ولا يزال يمتلي بالجراح .. واحتضنتهم الاقلام وبرءتهم .. بدلاً من ان تقول لهم أن كنتم صادقين مع اللوطن إلى هُنا اتركوا المسار السياسي لأجيال صاعدة وشخصيات جديدة لم يشهد عليها الوطن بالخراب .. الخ .. من فرعن ذلك الاحمق يا سيّدي جُميح .. انت وانا وغيرنا .. رغم اني قُلت انا قلمي صغير من يسمعه .. لم اراء قلم في شمال الوطن ينتقذ بشدة ويحارب فساد ذلك البلطجي صالح .. سواء االمدح والنفخ والنفاق … الخ .. على العموم يا دكتور استمتعت حقاً فيما كتبته هُنا .. تحياتي لك
حملة الاقلام او حملة البنادق ؛ القاتل أوالمقتول في عدن اوصنعاء ؛ التكفيريون او انصار الله ؛ يدينون بدين محمّد ويعتزون بانتمائهم الى العرب ؛ يدينون بدينهم ويتكلمون بلغتهم ؛ وينصهرون واياهم بتاريخ واحد وآلام وآمال واحدة وينزرعون على ارض واحدة ويستنشقون هواء” واحدا” ويشربون ماء” واحدا” ؛ حتى اذا اشتدت حرارة الشمس في آب وأيلول استبشروا بالحرية معا” ؛ واذا هبت عليهم عاصفة رملية ؛ تعفّروا بها جميعا” ؛ ولسان حالهم يقول : عسى ان يكون مع العسر يسرا” ( ان مع العسر يسرا” ) . . .. هذا هو حال العروبة ؛ مذاق بطعم العلقم ؛ونكهة بعبق البارود ؛ وظلم ذوي القربى اشد مضاضة .. . هنيئا” لك د. محمد جميح ؛ فنجان القهوة على سفوح جبل راس مسندم في عمان واكناف مسقط . . .