مع نهاية القرن التاسع عشر، تزايدت القناعة داخل مؤسسات الدولة العثمانية بضرورة أن تكون هناك سياسات تعليمية جديدة، بالشكل الذي يساعد من خلاله على الحفاظ على خلق نخبة جديدة من العثمانيين المتعلمين والمتطورين من جهة؛ ومن جهة ثانية ألا تقتصر هذه السياسات على النخب الحضرية التقليدية، بل أن تعمل على جذب أبناء وجهاء المناطق الحدودية والريفية (مثل جبل لبنان وجبل الدروز) بالشكل الذي يضمن ولاء هذه المناطق في المستقبل. ومن جهة ثالثة، جاءت هذه السياسات، خاصة في فترة السلطان عبد الحميد الثاني (1909- 1976) في سياق الرد على المدارس الأجنبية التي أنشأتها الجاليات التبشيرية الفرنسية والبريطانية والأمريكية.
ولذلك جاء الرد العثماني على هذا الواقع الجديد في التنافس على قولبة رعايا مخلصين عبر فتح المدارس التحضيرية مثل مدرسة «غلاطة سراي» في إسطنبول، أو كما في حالة «مكتب عنبر» أو المعروف رسمياً باسم «مدرسة دمشق التحضيرية المدنية»، التي شغلت بيتاً ًضخماً بناه تاجر يهودي دمشقي صادرته الدولة بعد إفلاسه. وقد أدّت هذه السياسات وفقاً للمؤرخ الأمريكي وليام كليفلاند في كتابه المترجم حديثاً للعربية «شكيب أرسلان والدعوة إلى القومية الإسلامية»، ترجمة محمد هيثم نشواتي، إلى تشكيل جيل جديد تلقى تدريباته وأسس لحياته المهنية وخطط لمستقبله في عالم الإمبراطورية العثمانية المتأخرة. لكنه أُجبِر بعد عام 1918 على إعادة تأسيس حياته في عالم جديد لم يكن من اختياره. وربما تعد شخصية الأمير شكيب أرسلان (1869-1946) من أهم الشخصيات التي مثلت هذا الجيل، فقد تلقى تدريباته وخبرته الدبلوماسية في كنف الدولة العثمانية، إلا أنه اضطر لاحقاً وبصعوبة إلى التلاؤم مع عالم ما بعد الحرب، عالم الشرق الأوسط الحديث وسياسات الانتداب.
في عام 1879، انتسب شكيب إلى مدرسة الحكمة المارونية، وهي المدرسة الرائدة في بيروت. أسّس المدرسة يوسف الدبس، مطران بيروت عام 1874. وكانت السنوات السبع التي قضاها شكيب في مدرسة الحكمة ذات أهمية خاصة بالنسبة له. فعلى الصعيد الاجتماعي انتقل من بيئته الريفية الأصلية. وفي المدرسة افتتن أرسلان بسحر الشعراء والأدباء، وكان ينتقي الكتب انتقاء، ما مكّنه من إعداد ديوانه الشعري الأول «الباكورة» وهو في عمر السابعة عشرة، كما أتاحت له المدرسة إتقان اللغة الفرنسية، وهي اللغة التي استعملها أرسلان على نطاق واسع وبيسر وسهولة لبقية حياته.
بعد فترة التأسيس، انتقل شكيب أرسلان للدراسة في مدرسة السلطانية في محلة الباشورة في بيروت، ويعزي وليام كليفلاند سبب هذا الانتقال إلى رغبة عائلة أرسلان في أن يدرس الأمير الصغير العلوم الإسلامية، بالإضافة إلى اللغة التركية العثمانية. لكن بالعودة إلى سالنامة بيروت الصادرة في سنة 1892 مثلاً، التي يأتي على ذكرها المؤرخ العراقي فاضل بيات في كتابه «المؤسسات التعليمية في المشرق العربي العثماني» نجد أن الهيئة التعليمية للمدرسة تألّفت من معلم واحد لمادة العقائد واللغة التركية، بينما نجد أن منهج المدرسة كان يرتكز على تدريس الجغرافية والكيمياء والجبر والفيزياء والعلوم الفنية واللغات (الفرنسية، الفارسية) ما يدعم الفكرة التي أشار إليها المؤرخ الأمريكي مايكل برفنس من أن وجهاء المدن والأرياف غالباً ما سعوا إلى تدريس أبنائهم في المدارس العثمانية الجديدة (صانعة القادة) بالشكل الذي يضمن لهم ولأبنائهم وجوداً ونفوذاً في مؤسساتها وسياساتها الإصلاحية الجديدة. وبالفعل سرعان ما عُيِّن أرسلان من قبل المتصرفية ليشغل منصب مدير ناحية الشويفات، بعد وفاة والده في عام 1887، على الرغم من صغر سنه آنذاك (18 عاماً). وقد شغل هذا المنصب زمناً يزيد عن السنتين، لكن هناك انطباعا يتولّد عند قارئ مذكراته ـ كما يرى كليفلاند- بأنه لم يكن مستعداً للمكوث طويلاً في أداء الدور المتوخّى منه، بوصفه أميراً درزياً معزولاً. وكانت الظروف قد شاءت بأن يحظى أرسلان بالرعاية والدعم من قبل الإصلاحي محمد عبده (الذي كان منفياً آنذاك في بيروت)، ولذلك عندما قرر أرسلان البحث عن دور غير تقليدي، زار القاهرة، وهناك أتاح له عبده أن يقابل شخصيات مصرية مهمة مثل سعد زغلول، بالإضافة إلى مقابلة الخديوي توفيق؛ بعد ذلك توجّه للإقامة في إسطنبول زهاء السنتين، وسعى جاهداً لتأكيد بقاء علاقات أسرته بالسلطة العثمانية علاقة ودية، وبعد هذه الإقامة غادر أرسلان في 1892 العاصمة العثمانية متوجهاً إلى أوروبا، في رحلة باتت إلزامية تقريباً بالنسبة للشباب المثقفين، الذين كانوا يتطلّعون إلى قادة المجتمع العربي العثماني. ولعل ما يلفت نظر كليفلاند هنا، أن أرسلان لم يبد أي افتتان أو اعجاب بالغرب، إذ كان قد تربى على عدم الثقة بالغرب، بحكم التدخلات الأوروبية في جبل لبنان، كما لم يشمل حديثه عن مراكز الثقافة الغربية أي وصف لهندستها المعمارية، أو نقاشاً مقارناً حول الأخلاق أو السلوك، كما فعل بعض الإصلاحيين أمثال رفاعة الطهطاوي أو خير الدين التونسي. مع ذلك، يبدو أن الأسفار قد أقنعته بالعمل من أجل إصلاح الإسلام والمحافظة على الإمبراطورية العثمانية. وبعد عودته من أوروبا، عمل أرسلان في الصحافة، ما مكّنه من الوصول إلى جمهور أوسع.
قدوم حركة الاتحاد والترقي
التطور الجديد الذي طرأ على حياة أرسلان، وساعده في أن يلعب دوراً كوزموبوليتانياً، كما كان يطمح لذلك، جاء مع الأحداث التي شهدتها الدولة منذ عام 1908- 1918 مع قدوم حركة الاتحاد والترقي. وعلى الرغم من أنه كان ملتزماً بالولاء للسلطنة، فقد دعم أرسلان نظام الحكم الجديد، انطلاقاً من أن بقاء الدولة العثمانية على قيد الحياة يعتمد على نجاح الأداء العسكري. واكتشف قادة الجمعية بدورهم أرسلان رجلاً وطنياً بارزاً لا يرقى للشك، فعهدوا إليه مهمة شرح أهدافهم لجماهير المجتمعات العربية. وعلى مدى معظم عام 1913 غدا أرسلان مبعوثاً متنقلاً لخوض غمار جولات من المناقشات والجدل السياسي مع انفصاليين عرب، وحتى مع أكثر الداعين إلى لامركزية الحكم العثماني اعتدالاً، منبهاً بشدة إلى مخاطر التقسيم وإلى أهمية الدولة العثمانية بالنسبة إلى العرب بوصفها ملاذاً يستظلّ حماه.
وقد أثار هذا الموقف استياء العديد من الأوساط، وفي مقدمتهم رشيد رضا الذي وجّه له انتقادات عديدة عبر مجلته «المنار»، لكن رغم هذا الهجوم لم يتوانَ أرسلان عن دعم قدوم جمال باشا (الذي لقبته بعض الأوساط القومية بالسفاح) إلى سوريا في شهر ديسمبر/كانون الأول عام 1914، وقد زاد رأي أرسلان من حجم الانتقادات له، للحد الذي قيل فيه إن أرسلان تعاون مع جمال باشا بتنفيذ الإعدام في أحد عشر شخصاً في بيروت، في اليوم الحادي والعشرين من شهر أغسطس/آب 1915 وفي واحد وعشرين شخصاً آخرين في كل من بيروت ودمشق في اليوم السادس من شهر مايو/أيار عام 1916. هنا يرى كليفلاند، أن أرسلان ورغم قربه من جمال باشا آنذاك، بدا غير قادر وعاجز عن فعل أي شيء للتأثير في قرار جمال، إذ زعم أرسلان بأنه جادله بشأن أحكام الإعدام بإصرار إلى الحد الذي جعل جمال باشا في نهاية المطاف يهدّد أرسلان بالإجهاز عليه. رغم ذلك بقي أرسلان وخلال السنتين الأخيرتين من زمن الحرب، منشغلاً بسياسات أكثر كوزموبولبيتانية، وكان شغله الشاغل وهمّه الرئيس معرفة الموقف الألماني حيال الأقاليم الشرقية للإمبراطورية، وهي المنطقة التي طالما كان مهتماً بها اهتماماً خاصاً. ولكن وبينما كان أرسلان في أحد جولاته في برلين، دخلت قوات فيصل إلى دمشق في شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 1918، فانضم كما فعل العديد من قادة الاتحاد والترقي إلى برلين، وانتقل لاحقاً إلى سويسرا، حيث أمضى بصعوبة السنة الأولى التي أصبحت لاحقاً 28 سنة قضاها في المنفى.
سقوط الإمبراطورية والعيش في مدينة صغيرة
مع سقوط الدولة العثمانية، كان أرسلان قد بلغ خمسين عاماً، وقد شعر يومها بالتهميش وبعدم القدرة على تقبّل فكرة انهيار الإمبراطورية العثمانية. ولذلك حاول بالتعاون مع بعض القادة الفارين لحركة الاتحاد والترقي العمل على إحياء دورهم في ظل رغبة كل من ألمانيا وروسيا بإعاقة الاستقرار الذي كان يتبلور بعد الحرب، لكن انتصار الكماليين الذي حققوه على الغزاة اليونانيين وتوطيد دعائم وضعهم العسكري، وقيام بعض الأرمن في شوارع برلين بالانتقام من طلعت باشا (1921) ولاحقاً من جمال باشا (1922) ساهم في فشل مشروع الاتحاديين في إعادة تشكيل حركة ذات قاعدة إسلامية. ولذلك في ظل هذه الظروف الصعبة، عاد أرسلان واستقر في مدينة مرسين القريبة، حيث أمضى الأشهر الثمانية الأولى من عام 1924. وكما يشير في أحد رسائله إلى رشيد رضا، فقد عانى أرسلان (الأمير وصاحب المهام الكوزموبوليتانية) من ضيق العيش في مدينة صغيرة لدرجة «لو أردت أن أخرج إلى السوق بالقفطان ما لاحظ ذلك أحد، وتمضي الجمعة والجمعتان والثلاث جمع ولا يأتيني زائر. ولمدة خمسة أشهر ما أدبت إلا مأدبة واحدة».
ما بعد الإمبراطورية العثمانية:
أحداث وأدوار متعددة
بعد تفكيك مملكة فيصل في سوريا ودخول الفرنسيين، قامت فرنسا بملاحقة أعضاء مجلسي فيصل الاستشاريين، فضلاً عن الناشطين الذين قاتلوا تحت لواء الثورة العربية. وقد أسهم هذا الوضع – وفقاً لكليفلاند- في تضاعف عدد اللاجئين السوريين كثيراً، وازدياد عدد المنظمات السورية في المنفى. وكان من بين هؤلاء الملاحقين، الإصلاحي رشيد رضا الذي لعب دوراً رئيسياً في إعادة إدماج أرسلان من جديد في السياسة، إذ كتب إلى أرسلان من برلين: «أنه مضى الذي مضى، وصار علينا أن نجتمع ونتفق لأجل معالجة الحال الحاضرة». وتعزّزت عملية إصلاح ذات البين أكثر عبر المؤتمر السوري الفلسطيني الذي انعقد في جنيف أواخر صيف عام 1921، وجاءت لاحقاً أحداث 1925/ 1926 في سوريا لتدفع به إلى مقدمة الأحداث من جديد، وليحتلّ مكان الصدارة في ما يتعلق بالقضية العربية في أذهان مواطنيه وفي أذهان القادة الأوروبيين.
مع ذلك سرعان ما أصبح أرسلان والطبيب والقيادي السوري عبد الرحمن الشهبندر (1882- 1940) عدوين لدودين. وكان الخلاف قد نشأ عندما قبل أرسلان في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1925 دعوة المندوب السامي هنري دو جوفينال لمناقشة القضية السورية في باريس. وقد أبدى أرسلان في هذا اللقاء مرونة كبيرة على مستوى القبول بأن تكون لبنان دولة منفصلة عبر إضافة مناطق هي سورية منذ القدم إلى حدود المتصرفية القديمة، وبأن يتم إدماج فلسطين في سوريا، كما قبل أرسلان بفكرة استمرار تدريس اللغة الفرنسية في المدارس السورية، وحصر المستشارين العسكريين الأجانب الذين يمكن لسوريا أن تتعامل معهم بالضباط الفرنسيين، ووعد من القوات السورية بمساعدة فرنسا في حال نشوب حرب، وإقامة تحالف بين البلدين مدته ثلاثون عاماً.
لكن مع إخفاق الثورة السورية لاحقاً، بقي أرسلان يركز على إبقاء القضية السورية الفلسطينية حيّة في أروقة عصبة الأمم، وفي هذه الأثناء طرأ تطور ساعد أرسلان، كما في مرات سابقة على العودة للعب أدوار جديدة في المنطقة، تمثل هذا التطور في الانتصارات التي كان يحققها عبد العزيز بن سعود في الحجاز، الأمر الذي أعاده، شأنه شأن رضا، إلى فكرة وجوب استعادة وضع الخلافة، لكنه خالف رأي رضا القائل إنه يتعين على الخليفة الذي سيستعيد منصب الخلافة أن يلبي كل الشروط المطلوبة التي كان قد وضعها صفوة الفقهاء. وقد أعلن أن ابن سعود هو المرشح المرجح أكثر لكي يظهر للغرب أن «الأمة العربية لم تمت» وبطريقته الخاصة ـ كما يرى كليفلاند- عقد أرسلان العزم على تعزيز سمعة عبد العزيز آل سعود من خلال أداء فريضة الحج، ذلك أن أداء هذه الفريضة من شأنه – وفقاً لأرسلان- أن يعزز هيبة ابن سعود عبر إظهاره قادراً على إبقاء الحج متاحاً وآمناً. ترافقت هذه الرؤية مع زيارات أخرى إلى إسبانيا ودول البلقان وصولاً إلى بودابست في سبيل إحياء واستعادة الخلافة (رغم أنه تفاجأ هناك بعدم حماسة البلقانيين وعدم مشاطرته الشعور ذاته) كل ذلك كان جزءاً من تصوره لمفهوم سياسة القومية الإسلامية. في هذه الأثناء أيضاً (1930)، أصدر أرسلان كتابه «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟» أقر فيه بالتخلف القائم في العالم الإسلامي بالمقارنة بالأوضاع في كل من أوروبا الغربية واليابان إلا أنه عزا ذلك إلى إخفاقات المسلمين، لا إلى خلل في دينهم. وقد وجد في هذا الكتاب أن المسؤولين عن هذا التخلف هم غلاة المحافظين التقليدين، والمتغربون العلمانيون أمثال طه حسن ومحمد حسين هيكل وعبد الرحمن الشهبندر وعلى رأسهم جميعاً مصطفى كمال أتاتورك. ورغم أن أرسلان ـ كما يرى كليفلاند- كان رجلاً كوزموبوليتانياً عاش أكثر من عقدين من عمره في كنف أوروبا، إلا أنه رأى ضرورة منع الرقص المختلط بين الجنسين لأنه ينطوي على «احتكاك، ولأن الاحتكاك هو أول مرحلة من مراحل الزنا». كما شنّ أرسلان، وهو الرجل الذي يرتدي زياً أوروبياً لا تشوبه شائبة، حملة دفاع شرسة عن الطربوش. وسخر من أولئك الذين حطّوا من قدر أنفسهم باعتمارهم القبعات لمجرد محاكاة الممارسات الأوروبية. ولعل في هذه الرؤية التقليدية التي عبّر عنها أرسلان ما يذكّرنا بالملاحظات التي أشارت إليها الباحثة التركية ميديا أوغلو في سياق قراءتها لتشكل الخطابين القومي التركي والجزائري في النصف الأول من القرن العشرين. إذ ترى صاحبة كتاب «استيهامات استعمارية» واعتماداً على رؤية بارثا تشاترجي، أن المبادئ التي ارتكز عليها الخطاب القومي/الإسلامي التحرري قامت على فكرة انفصال حقل الثقافة إلى مجالين: مادّي وروحي. فالمجال المادي يفسّر بوصفه الموقع الذي يحتاج المشروع القومي إلى عقلنته، وإلى تزويده بالتقنيات المتفوّقة للغرب في سبيل هزيمة مخططاته الاستعمارية. بالمقابل يجب أن يبقى المجال الروحي للثقافة غير ملوّث من الغرب، وذلك للحفاظ على الهوية الذاتية للأمة. هنا يغدو جسد النساء (السفور) أو اللباس (الطربوش) بمثابة الأرض التي يرتكز عليها خطاب الخصوصية الثقافية، وهذا لم يؤسس لمجرد تعريف جديد للجسد والنساء متباين عن الغرب، بل خلق أيضاً خطاباً قومياً متميزاً عن الخطاب البطريركي المحلي (هنا يمكن أن نقارن مثلاً بين صورة النساء في دمشق مع بدايات القرن العشرين كما تخيلها القادة القوميون، والصورة التي يرسمها لنا البديري في يومياته للواقع الاجتماعي للنساء في مدينة دمشق خلال القرن الثامن عشر، وكيف أن هذا الواقع شهد ممارسات جريئة ودنيوية في فضاءات المدينة رغم المعارضة الذكورية) . ولا بد من الإشارة هنا أيضاً إلى أنه حتّى النخب الوسطى المثقفة المولعة بالثقافة الغربية، غالباً ما نظرت للبعد الروحاني للأمة من الزاوية ذاتها ولكن بشكل معكوس؛ فمثلاً ينقل لنا جرجي زيدان في مذكراته، أن الجيل الجديد من الكتاب والمربين في بيروت القرن التاسع عشر كانوا «مقتنعين بأن الذين يرتدون البناطيل يتمتعون بذكاء أعلى وينطوون على معرفة أرحب، وأحكامهم أفضل من أولئك الذين يرتدون السروال». وبالعودة إلى سيرة الأمير، نجد أن أحلامه حول السياسات القومية الإسلامية سرعان ما تعثّر مسارها من جديد بسبب النزاع الذي جرى لاحقاً بين السلطة السعودية والإمام يحيى في اليمن.
الأمير «المفلس»
يروي كليفلاند أنه بعد هذه الأحداث، كان أرسلان قد بلغ الـ64 عاما وكانت سنوات النفي قد ألقت ظلالها عليه، وعلى كل ما أوتي من بيان وبلاغة حيال الإمبريالية الأوروبية، وقد أضيف إلى هذا الشعور مهمة صحافية محزنة كان لزاماً عليه أداؤها بوتيرة متزايدة في ثلاثينيات القرن العشرين – كتابة كلمات النعي والتأبين. فقد كان الرجال من أبناء جيله يموتون. وقد أثّر هذا في أرسلان تأثيراً عميقاً (لاسيما وفاة رشيد رضا) إذ كان يتذكر كيف حرمه نفيه من عشرة أصدقائه في سنواتهم الأخيرة. وبالفعل تلقّى أرسلان دعوة من الفرنسيين سنة 1937 للعودة إلى دمشق، في ظل الاضطرابات التي كانت تشهدها البلاد ولاعتقاد فرنسا أن في وسعها استغلال مكانة الرجل لمصلحتها ولتهدئة الأمور. حظيت عودته باحتفالات ضخمة في بيروت ودمشق وحلب، لكن سرعان ما قامت فرنسا بطرده من جديد من سوريا ثم تعرض إلى مزيد من الإذلال عندما رفضت الحكومة المصرية السماح له بالنزول من السفينة في ميناء الإسكندرية. مع ذلك لم يستسلم أرسلان وحاول أن ينسّق مع كل من إيطاليا وألمانيا، لكن حياة الرجل المادية كانت تزداد صعوبة، لدرجة أن خادمته في المنزل لم تتقاض أجورها على مدى سبع سنوات، وقد كان يصل العوز به أحياناً إلى حد يحمله على الشرب من النوافير العامة في فصل الشتاء، وعلى عدم دخول المقاهي لعدم امتلاكه ثمن فنجان قهوة. ولأسباب سياسة غير واضحة، أخضعته الشرطة السويسرية إلى مراقبة شديدة، ووصفته تقارير الشرطة بأنه رجل معمّر يعيش بعيداً عن زوجته وابنه في شقة فندقية، يطالع في صحفه، ويقابل عدداً قليلاً من زواره. وفي خريف عام 1946، سمح للأمير بالعودة إلى بلاده ووصل بيروت أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول، وفي الحادي عشر من شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 1946، قدّرت الشرطة السويسرية أنه بات آمناً إيقاف التنّصت على هاتفه في جنيف، ولم يكن قد نمى إلى علمهم بعد أنه مات قبل يومين في بيروت.
٭ كاتب سوري
محمد تركي الربيعو
أريد نسخة من الكتاب