«سيرة المعتوه» وتيار الوعي

حجم الخط
0

هذه الرواية واحدة من الروايات المتوجة بجوائز كومار عشية السبت 30 أبريل/نيسان 2016 في تونس، وقد آلت إليها جائزة لجنة التحكيم مناصفة مع «المصب» لشادية القاسمي، ويذكر أن الجائزة الرئيسية ذهبت مناصفة بين نبيهة العبسي عن روايتها «زمن الغياب» وآمنة الرميلي عن روايتها «توجان» إضافة إلى جوائز أخرى…
عتبة العنوان:
عادة ما تشكل العتبات خطابا مختزلا يدفع بنا داخل النص الروائي، ولكن نظرا لضيق الحيز نكتفي بالتوقف عند عتبة العنوان، الذي يتركب من كلمتين أولاهما تجنيسية تدخل في باب اشتغال الخطاب الميتاسردي في فضاء العتبات، وتحديدا في تحديد النوع السردي، حيث تكون هذه المفردة إلى جانب التصنيف الأجناسي رواية محددة للنوع السردي الداخلي، لذلك تعدنا العتبات بنص سيري متمركز حول الذات وتجاربها، أما الكلمة الثانية وهي «المعتوه» فتحيل إلى الراوي، وهي إحالة مخاتلة فلطالما وصف الروائيون رواتهم بالجنون والبله والشذوذ والتمرد، سخرية من المقاييس والتصنيفات الرسمية، وعادة ما يكون النص السردي دحضا لهذه الأطروحة… إنه هروب رمزي إلى اللاوعي له مبرراته واستراتيجياته، فالكاتب اختار شخصية المعتوه لرواية هذا النص بحثا عن راو متحرر من القيود، وخارج عن النمط لإثراء النص ورفع منسوب الوعي.. وعموما فالعنوان أحالنا إلى رواية تستخدم تقنيات تيار الوعي وتميل إلى البوح والاعتراف… ولكن كيف تجسد ذلك في النص وما هي التقنيات السردية التي وظفها المولدي ضو لإنتاج نصه؟
تقنيات التداعي:
إن اندراج الرواية ضمن تيار الوعي يفرض علينا التوقف برهة عند هذا التيار الروائي الغربي، الذي انتقل منذ عقود إلى الرواية العربية، وهو من التيارات المهمة في الرواية، ومن خصائصه التمركز حول الذات واعتماد الاستبطان والتداعي الحر والغوص في أعماق الذات وممارسة نوع من المونولوج الداخلي، فاتحا الباب للحلم والهذيان والتذكر والاعتراف، فتستحيل الكتابة الروائية إلى سكب لمخزون الذاكرة، ولعل هذه الممارسات السردية تبلورت في هذه الرواية، حيث اختار الراوي أن يكون في موقع الاعتراف وتمثل لذلك وضعية سردية محتملة تدخل في باب التخييل الواقعي القائم على سرد الممكن والمحتمل منتقيا صورة مرجعية، وهي صورة السجناء والمعارضين السياسيين الذين كان يزج بهم في مستشفى الأمراض العقلية نكاية فيهم… واستعمل تقنيات الاستبطان والتداعي فعاد إلى الذاكرة وقد استعان بشخصية مساعدة على التداعي وهي شخصية الطبيبة النفسية الأجنبية التي تزوره بانتظام لمحاورته واستجوابه وقد شكل دخول هذه الشخصية بداية الحكي والاعتراف… «قال لي بعض الأطباء هنا: أن آنسة تريد مقابلتك، وهدّدني بعض الممرّضين بصدمات الكهرباء إن لم أحسن التعامل معك، يظنّون أنّني مفترس مثلهم. لم أصدّقهم في البدء. لماذا لم أصدّق الخبر؟ أنا لا تزورني في هذه الغرفة إلاّ الصّراصير والجرذان وأشباح الموتى. من تكونين؟ ..أخصّائية في علم النّفس؟.. هذه حيلة قديمة معروفة، هل تحسبين ذلك ينطلي عليّ؟ «.
سردية القمع
ولعل هذا المقطع الافتتاحي إذ يعلن بدء السرد فإنه يعلن في الوقت نفسه مرارة الواقع ويصوب الأنظار نحو الفضاء وما فيه فهو فضاء صحي ولكنه يعج بالجلادين ويتحول كل شيء في داخله إلى أداة قمع… إنها سردية القمع في سجون الحكم السابق مثلما رددتها الروايات والتقارير الأجنبية… «لن تعودي فارغة الوِطاب يا آنسة. في هذا المصَحّ وفي كلّ ليلة يتوافد ناس من وراء السور ملثّمون يغتصبون النزلاء في هذا الطّابق، أجل أسمع صراخهم وعويلهم حتّى مطلع الفجر، كأني بأحدهم مازال مختبئا تحت السرير، هو الآن ينظر إلى ساقيك، «أولاد قراد الخيل كفاكم صخبا»!.. تفقّدي تحت السّرير يا آنسة، هذا المكان جحيم، أنت لا تعرفين عنه شيئا».. يستمر الراوي بعد ذلك في تداعياته واعترافاته وذكرياته حاملا مرارة الذكرى والواقع، ساردا معاناة جيل مر بالظلم والقمع … متطلعا إلى ذاكرة الهامش. ذاكرة الحياة الطلابية.. اندفاع الطلاب وهمومهم.. الوشاة.. التتبعات والملاحقات الأمنية.. الاتهامات السياسية… وغير ذلك من المرارات.
التناص
ولكن الخطاب الروائي في هذه الرواية وهو يعتمد الهذيان والثرثرة والتداعي، لم يكن خطاب حكاية فقط ولم يكن خطابا يعتمد المتخيل المرجعي فحسب، بل كان التخييل متنوعا ففيه بعض العجائبية مثلما نجد ذلك في مقاطع الحديث عن الكلب، وهو مقطع بقدر ما يشكل حضورا للعجائبي في الرواية فهو يحيل إلى تناص مع الموروث الحكائي الشعبي الذي تحضر فيه شخصية الكلب وتأخذ رمزية خاصة: «ما كدت أحكم الحبل حتّى طفر لي كلب من التجاويف، وجعل ينبح عليّ نباحا لا ينقطع، فسارعت وألقيت بنفسي والحبل حول عنقي، فاختنقت وغبت عن الوعي. ثمّ أفقت على أصوات نساء وشيوخ من البلدة، وإذا هم يصبّون الماء على وجهي. تفحّصت وجوههم الحائرة، وجلت بناظري في الدّاموس. فما رأيت كلبا ولا بقي نباح. ألم يكن ذلك من نكد الأقدار على الرّاغب في الخلاص؟ نعم السّخرية المركّبة ذاتها.. لولا ذلك الكلب اللّعين استرحت وأرحت منذ أزمنة… أمّي علّقت على الحدث وهي تلومني، قالت المسكينة: ليس أنت من تختار ميتتك يا ولدي. وذلك الكلب لم يكن كما ظننت. إنّه تابعتك، وتتوصّف في صور شتّى. كانت ـ وأنت رضيع ـ ثعبانا يلتف قرب مخدعك. ولمّا كبرت صارت طائر خطّاف. حتّى إذا بلغت مبلغ الرّجال صارت حوريّة لا تأتي إلاّ عند منامك. لذلك يفوح من غرفتك الطِّيب، كطِيب الجنّة تماما. تقول أمّي هذا الكلام واثقة، كأنها شمّت ريح الجنّة من قبل أو كأنّ الجنّة موجودة أصلا…». كما يبرز التناص من خلال استحضار نصوص أدبية وفنية مثل أغاني فيروز أو شعر معين بسيسو الذي ساق الراوي مقطعا من قصيدته الشهيرة:

زَمَنٌ
زَمَنْ
الهُدْهُدُ المخْصِيُّ كاتِبُهُ
وحاجِبُهُ ذُبابهْ
زمنٌ تكون به وحيداً
كالفراشة في سحابهْ
ياَ من يعلّمني القراءة والكتابهْ
ياَ من يُسمِّنُني بأشرعتي وأجنحتي
لسكينِ الرّقابهْ
تحيا الكتابهْ
تحيا الرّقابهْ
يحيا على فميَ الحجرْ
سَفَرٌ
سَفَرْ…»

يمكن القول ختاما إن سيرة المعتوه شهادة روائية أخرى على زمن مرير تتعدد تقنياتها السردية وتنفتح مشاغلها واهتماماتها على مواضيع عديدة ..انها استحضار لروح جيل دهسه الزمن وشرده ومحاكمة أخرى للنظام القمعي وفتح للمحظور، وبذلك تنضم «سيرة المعتوه» إلى روايات السجن والقمع التي مازالت تبوح بها المدونة الروائية التونسية الجديدة ولعلها تندرج في باب الشهادة على انتهاكات مرحلة وممارسات نظام..

٭ كاتب تونسي

«سيرة المعتوه» وتيار الوعي

رياض خليف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية