تحيل سيرة الأمير المغربي مولاي هشام بن عبدالله بن محمد العلوي الصادرة ترجمتها في بيروت حديثا، القارئ إلى مفاصل مهمة ومحن مرت على «المخزن» المغربي في العصر الحديث أي منذ نهاية الكفاح ضد الإستعمار الفرنسي وعودة الملك محمد الخامس من منفاه حيث لبس جبة الملك وخاض غمار معركته الخاصة مع الحركة الوطنية وضدها ومع ولي عهده الملك الحسن الثاني.
وقراءة مولاي هشام في «سيرة أمير مبعد» لتاريخ المغرب هي استكشاف لفكرة المخزن/القصر المغربي الجامعة بين إمارة الدين والدنيا وعلاقتها بفكرة الحكم الحديث أو صلتها بالنظريات ونظم الحكم الحالية. وهي محاولة للبحث عن الطريقة المثلى لإصلاح العلاقة بين الحاكم والمحكوم وفكرة المواطنة وصلاحيات الملك والبحث عن فلسفة حكم جديدة للمخزن تضمن استمراره واستقراره. فالأسرة العلوية الحاكمة لها تجربة ضاربة في القرون الماضية ومرت عليها محن وإحن وهي سنة الله شاملة للتجربة البشرية. وما يهم في الممارسة العلوية هي استمراريتها منذ القرن السابع عشر حتى الوقت الحالي وهي بذلك تعتبر مؤسسة مغربية حددت لنفسها موقعا في الرواية التاريخية وصقلت من خلالها الشخصية المغربية. وهي تعبر عن خصوصية متميزة في السياق التاريخي للمغرب العربي.
بوح
كل هذا لا يعني أننا إزاء سرد تاريخي يأخذنا من خلاله أمير برحلة بتاريخ بلده أو معركته للخروج من الإستعمار. بخلاف هذا فنحن أمام اعترافات أمير وبوح أحد أعضاء السلالة العلوية وحديث عن ظلم ذوي القربى، وفيها جمع بين الشخصي والهم العام. فمولاي هشام يكتب عن تجربته كأمير ظل يغرد خارج السرب، وبقي ذلك «المافريك» الذي يريد تأكيد شخصيته وفكره ولكنه كما يعثر الكاتب لم يتخل عن حبه وولائه لوطنه. وهو أمير إصلاحي يبغي الخير ولكنه ابتلي كما يكتشف القارئ ببطانة الملك وحاشيته التي لا يعنيها سوى مصلحتها وإشاعة الفساد. وفي عصر الإعلام اتهم بشتى التهم، فهو أمير أحمر وتارة أخضر ومرة أصفر، وهو داع لقلب الملكية إلى جمهورية وأخرى متحالف مع أعداء الملك سواء كانوا نقادها في الحركة الوطنية أو أعداءها الخارجيين. وما يهم في تجربه مولاي هشام ليس ما تكشفه عن توتر وتجاذب في علاقته مع المخزن- سواء كانت مع الحسن الثاني وخليفته محمد السادس- مجايله وصديق طفولته حيث تربيا معا، ولكن ما تفصح عنه من محاولات للبحث عن مكان للتمرد والرفض ضمن العائلة سواء بالمعنى الخاص أو العام. ولكن كعادة كل الذين يرفعون أصواتهم يختار الأمير في مرحلة معينة الخروج عن رسوم الملك ويتم تغييبه من صورالعائلة الرسمية ويبعد نهائيا من نظام الملك الحالي حيث تتوتر العلاقات لدرجة يطلب منه في عصر الملك الحالي أن لا يغشى القصر بدون دعوة رسمية.
ضحية؟
كقراء نحب التعاطف مع الضحايا، ولكن الأمير هنا لا يستجدي عطف القارئ ولا يطلب منا أن نرثي لحاله. فهو يريد منا أن نفهم كيف يمكن لابن السلالة الحاكمة أن يكون أميرا ومواطنا في درجة واحدة مع أبناء الأمة. ويريد أن يعرض علينا أن الخروج على سمت الحكم و»التقاليد» له ثمنه الكبير قد يدمر صاحبه إن لم يكن مؤهلا للمواجهة وإن لم يجد من يقف إلى جانبه في المعركة. ويريد منا أن نفهم أن خلاف الرأي كما يفهمه يجب أن لا يفسد للود قضية وأن الخسارة في معركة لا تعني الخسارة في المعارك كلها. فقد اكتشف مولاي أن أرض الله واسعة وهاجر فيها وطاف الشرق والغرب وعمل ضمن ما تسمح له سمته وموقعه في وظائف في أبو ظبي وعمان وكوسوفو وأنشأ مؤسسات ورضي في النهاية بموقع الأمير المبعد. والحقيقة أن القراءة الدرامية لسيرة الأمير تقدم لنا رؤية عميقة عن دنيا الملك. فها نحن أمام سرد واقعي لحياة القصر وعلاقاته وبنيته المغربية الداخلية وطقوسه من الحريم إلى المهرجين والحكواتيين/القصاصين وتربية أعضاء السلالة على الحكم منذ الصغر إن بتعليمهم السباحة والرماية وركوب الخيل أو بتلقينهم دروس الدين وتاريخ البلد في مدارس خاصة أو بتعليمهم لغات أجنبية. والبوح عن معنى المخزن ودوره الديني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي يدفع الأمير للحديث عن معنى الملكية المغربية وما يمكن أن تقدمه في ظل جيل الربيع العربي والانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
ملك تغير
يكشف لنا الأمير مولاي هشام أن الملك الحسن الثاني فهم التغيرات على المستوى الشعبي وظروف ما بعد الحرب الباردة فحاول التغير والتغيير وأرسى قواعد للحكم جديدة. ويبدو فهمه من قراءته الذكية لمرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والدور الذي لعبه المغرب تقليديا كونه الحليف المقرب لفرنسا والولايات المتحدة. وبرز فهمه للتغيرات الجيلية من قوله أنه يعرف التحدث عن ثقافة جيله «البيتلز» ويجهل ثقافة شباب أمته «الراب» ولكنه كان سريع التكيف مع تغيرات المرحلة سواء بظهور القنوات الفضائية واكتشافه «سي أن أن» أو منافع النيوليبرالية التي باتت تعبر عنها مرحلة ما بعد الشيوعية باعتبار «نهاية التاريخ» كما أراد منظرو العهد الجديد في الغرب توصيفه. والمهم في الأمر أن سيرة الأمير هي في النهاية سيرة شخصية مفعمة بالذاتية والتوتر وأحيانا يتساءل القارئ عن تفسيراته خاصة في الطريقة التي عامل فيها الحسن الثاني أبناء أخيه الأكبر مولاي عبدالله وتلميح الكاتب إلى دور العم في «نشر» الشائعات الفضائحية عن والده. ولهذا فمن علاقة الحب والكره بين الأمير وعمه يبرز اعتراف وامتنان بأن التجربة صقلت شخصيته. والكاتب هنا منصف رغم المرارة التي يحملها لإرث وتراث عمه.
مواجهة الموت
ولعل أجمل ما يصفه الأمير هو المرحلة الأخيرة للملك الذي أخفى مرضه عمن حوله ورفض تناول الأدوية المهدئة وواجه قدره بعزيمة وقوة. كان الحسن الثاني في سنواته الأخيرة يعرف أنه ملك ميت يمشي ولكنه واجه كما يكتب مولاي مصيره بنفسه وحافظ على يقظته حتى اللحظة الأخيرة وتصرف كملك شجاع وأيقن في النهاية أن مخدعه الأخير ليس في المسجد الكبير الذي شيده بل إلى جانب والده وشقيقه الذي نقرأ تفاصيل عن ظلم مارسه الملك على مولاي عبدالله. فهذا الأمير يبدو في تفاصيل الإبن معذبا مقموعا يحاول أن يؤسس له مكانا تحت شمس المغرب ولكنه لا يلقى سوى الحرمان. هل كانت معاملة الحسن الثاني لمولاي عبدالله نتاجا لمخاوف الملك الجديد الذي كان في بداية حكمه غير واثق بنفسه ويخشى الناس بمن فيهم شقيقه؟ ربما يقول مولاي هشام إن الحسن الثاني بعد وفاة الملك محمد الخامس المفاجئة نتيجة عملية بسيطة وما أشاعه البعض من دور للحسن في الوفاة، خاصة أن العلاقة بين الملك وولي عهده لم تكن جيدة، شعر الملك أنه أمام امتحان للسلطة وإثبات جدارة وهو ما يفسر نزعة الملك السلطوية التي أنعكست على علاقته مع شقيقه. والأخير وإن لم يكن قادرا للدفاع عن نفسه أمام تجبر الأخ وجد في زوجته لمياء الصلح عزاء ومدافعا قويا ضد رغبات الملك الجامحة وسلطويته التي تريد تدمير حتى علاقة الشقيق مع زوجته اللبنانية. فبعد وفاة مولاي عبدالله وقفت لمياء الصلح وهي سليلة عائلة الصلح المعروفة، ووالدها رياض كان أحد من أرسوا دعائم لبنان الحديث، أمام محاولات الملك الحسن التدخل في شؤون العائلة وفرض سيطرته على الأبناء.
أمريكا
وإن نجح الملك في وضع شقيق وشقيقة مولاي هشام تحت جناحيه إلا أن الأخير ظل متمردا. فقد رفض منذ البداية البقاء في المدرسة المولوية التي أنشئت لتعليم أبناء الملوك والذوات وقرر الدراسة في المدرسة الأمريكية، وعندما أراد إكمال دراسته الجامعية قرر الذهاب إلى أمريكا. وهناك اندلعت مواجهة بين الملك وابن شقيقه حول قرار الذهاب إلى جامعة برنستون. ويذكر مولاي هشام أن الملك الحسن حذر ابن شقيقه بان التعليم في أمريكا «سيلخبط» عقله كما أثر على عقل قاتل الملك فيصل والذي درس هو الآخر في أمريكا. كان قرار مولاي هشام مرتبطا باختيار مساره الخاص وتحقيق استقلال عن تأثير عمه والمخزن. وبالنسبة للأخير فقد كان خروج شخص عن طوعه مسألة كرامة، فهو يريد أن يظهر بمظهر رب العائلة العلوية الكبيرة ولهذا لم يكن ليتسامح مع أي تصرف كهذا. ولم تتوقف المعركة بين العم وابن شقيقه، كانت تخفت مرة ونشعر أو يشعر الكاتب أن الأمور ستسير نحو التحسن وأن الملك يهيئ الملك لابنه ونجله رشيد وابن شقيقه ليكتشف الكاتب أن الملك الحسن كان يحاول إدارة لعبة سيطرة وفرق تسد. ففي الوقت الذي كانت فيه علاقة مولاي هشام مع الملك الحالي علاقة ود وحب وجمعهما أكثر مما يجمعهما مع الملك إلا أن الحسن الثاني الذي كان على علاقة مضطربة مع ولي عهده نجح على ما يبدو في كسر العلاقة. تماما كما نجح في تخريب علاقة عاطفية بين الكاتب
وأمريكية عندما جاءت باحثة عن حبيبها في الرباط ليقنعها الملك الحسن إن لم يكن أمرها بالعودة من حيث جاءت. وكشف لاحقا وبخبث أن الدجاج «البلدي» يظل أحسن من المستورد الذي يحقن بالهورمونات وطلب من مولاي هشام ترتيب علاقاته العاطفية. لم تتوقف المعركة عند الدراسة بل وعندما حاول الكاتب تأسيس مركز في جامعته لقضايا التنمية والبحث الجاد وقرر تسميته على اسم الملك محمد الخامس، اعترض الملك وأرسل حاشيته المتملقة لمضايقة الجامعة ومولاي نفسه، وعندها قرر إعادة جده العزيز إلى قبره لينام هانئا بدون مشاكل.
إنقلابات
لا بد من الإشارة إلى أن قسوة العم ليست نابعة فقط من الطريقة التي نظر فيها إلى شقيقه مولاي عبدالله الذي دفع بطريقة أو بأخرى لاختيار حياة لا معنى لها وبذر في مرحلة جزءا من ماله ولقي الإعراض رغم ما قدمه وبولاء لشقيقه الملك، بل هناك بعد آخر أخرج الوحش داخل الملك الحسن وهو ما تعرض له من محاولة انقلاب عام 1971 و 1972 حيث اكتشف القصر خيانة وغدر الجنرال أوفقير الذي كان أكثر من مجرد مسؤول في الحاشية بل صديق ومرشد للملك. وبعد الإنقلاب الأول زار الملك حسين المغرب للتضامن مع الحسن الثاني ونصحه الضرب بشدة على يد الفعلة وهو ما نفذه الملك بحذافيره بل وذهب أبعد من هذا حيث فتح الباب أمام فصل مظلم في تاريخ المغرب: الإختفاء والسجون السوداء «تازمامارت». لا ينفي الكاتب أن المحاولات الإنقلابية كان محاولة لمواجهة الفساد الذي استشرى ولكن بالقوة وأدت في النهاية لمذابح دموية ولم تقتلع الفساد. وما يهم في هذا الفصل الدامي هو شعور الملك أنه كان سيدخل التاريخ كآخر ملوك العلويين ولهذا بدا حريصا وبكل الوسائل على التمسك بالسلطة وقضى على المعارضة بل ودجنها في شكلها الاشتراكي بحيث أصبحت معارضة لا تعض. وهو ما فعله الملك الحالي حيث يقول إنه دجن الإسلاميين. ولكن الكاتب ناقد لملك الفقراء- الملك محمد السادس- لأنه لم يفهم حتى الآن ما تقتضيه المرحلة من إصلاحات وإعادة النظر في بنية العلاقة مع الشعب. وفي نهاية الكتاب نقرأ رسالة تحذير تبدو كصوت من يصرخ في واد سحيق تدعو للفهم والتعجل في تحديد وتحديث مؤسسة المخزن وإلا فالمصير مجهول.
مشاهد سيريالية
هناك الكثير من المفاصل المهمة في الكتاب تظهر سيريالية ملك قابل ملكا (حسين) بالشورت وترك طائرة ملكة بريطانيا تدور لساعة فوق أرض المغرب لتأخره عن الوصول للمطار وقطع الكهرباء في حفلة العشاء. وهناك ملك آخر يحب القديم ويتمسك بسبحته وسجادته القديمة وقفازات الغولف البالية وملك يحب الدارجة المغربية ويحب فرنسا. هذا هو تناقض الملك وربما ما تقتضيه الرسوم، تناقض رفضه مولاي فحظي بالإبعاد فهو أمير مبعد. ولكن الوثيقة التي يقدمها لنا المبعد كاشفة ليس عن تاريخ المخزن بل وعن تقلبات العالم العربي من حرب الخليج الأولى واحتلال الكويت ثم العراق. ورحيل رموز المرحلة وبداية ربيع سحق نواره قبل أن يزهر.
مولاي هشام العلوي: «سيرة أمير مبعد ـ المغرب لناظره قريب»
دار الجديد، بيروت 2015
450 صفحة
إبراهيم درويش