منذ كاليغولا حتى دراكولات عصرنا كان للتوثين السياسي منظّروه ومتعهّدوه وتعددت ورشات صناعته لكن الكيمياء واحدة، وما كان لعبادة الفرد وتشريع مَعْصوميّته بصفته استثناء من البشر أن تصل إلى ذروتها، لولا استثمار الميل الفطري لدى الناس نحو البحث عمّن ينوب عنهم في التفكير والحلم، لكنهم ينوبون عنه في الأخطاء وتحمّل نتائجها، فمن دفعوا ثمن حماقات عسكرية لجنرالات هم النّاس الذين لم يكن لهم ناقة أو جمل في قرارات انفرادية تلبي هاجس المغامرة لدى قادة يعانون من فائض النّرجسية، والتحليل السيكولوجي التقليدي لهذه الظاهرة يذهب إلى جذرها، وهو التكوين النفسي والاجتماعي والتربوي لدى الطاغية.
لكن هذا لا يكفي، لأنه يعفي الناس من عبء العصيان والنقد، وبعد مرور قرن على كتابين كان لهما تأثير واسع على الرأي العام، هما «طبائع الاستبداد» للكواكبي و»سيكولوجيا الجماهير» لجوستاف لوبون تغير العالم كثيرا، وتناسل فيه الطغاة على نحو أميبي، وأصبح الكتابان بحاجة إلى استكمال، فـ»طبائع الاستبداد» لا بد من استكماله بصنائع الاستبداد، لأن الاستبداد الآن صناعة، أما «سيكولوجيا الجماهير» فهو بحاجة إلى إضافة ما طرأ على العالم من ثقافة القطعنة، والتبشير بالامتثالية كمضاد لحقّ الاختلاف والتنوع.
نعرف أن البشر يبحثون عن بطل، سواء اخترعوه من خيالهم أو نبشوا المقابر بحثا عنه، لأنه يفتديهم أو هكذا يتصورون، فهو خارق ومتجاوز للشروط التاريخية والطيّعة، وعصّي على الانكسار، ويزدهر البحث عن البطل في فترات الخمول والاستنقاع وتراكم الإحباطات، وصناعة الطغاة أو التوثين السياسي قديم قدم الدولة، لكن تجلياته في عصرنا اكتسبت بُعدا جديدا من خلال الأيديولوجيا، فالطاغية يبدأ مجسدا لحلم وطني وقومي، ثم يصدّق بأنه محرر من القدر البشري، لأنه خالد ومعصوم وملهم، وقد يكون ما كتبه سارتر عن طفولة لوسيان أو طفولة الزعيم مُدْخلا نموذجيا لتقصي مفهوم الزعامة عندما يضاف اليه بُعد ميتافيزيقي سواء كان مستعارا من الدين أو عالم الغيب بشكل عام، وصناعة الطاغية وتوثينه سياسيا يبدأ من زمرة تتحلق حوله، وتربط مصيرها به عضويا، لهذا يبدأون بتبرير أخطائه ثم ينتقلون إلى مرحلة أخرى هي تزيين هذه الأخطاء، ولديهم حاسة شم كلبية لا تخطئ رائحة مزاجه فيسمعونه ما يود سماعه، إنهم ما يسمى مجازا الحاشية التي عبّرت عنها حكاية «مأمورية الزير» وتتلخص في أن الحاكم زار منطقة يعاني الناس فيها من الظمأ لشحّة الماء، فأمر ببناء زير عملاق يملأ بالماء كلما فرغ وتشكلت لجان لهذا الهدف وأنفقت أموال ليكتشف الحاكم بعد عدة أعوام أن الزير لم يُنجز، وأن الظمأ ازداد، حتى أمات الناس. وهذه الحكاية هي المعادل الشعبي للتعقيد البيروقراطي في دولة الطاغية، لأن من يعملون بإمرته يخشون الخطأ أو تأويل المواقف ويولوذون بالصّمت طلبا للنجاة.
إن أخطر ما تنتجه صناعة الطاغية أو التوثين السياسي هو الدمج العشوائي بين الحاكم والوطن، وأحيانا يصبح الحاكم أعلى شأنا من الوطن، كما حدث في حروب انتهت إلى هزائم فاجعة، لكن محترفي التوثين صوّروا المشهد على نحو معكوس وقالوا إن العدو كان يستهدف الزعيم، وفشله في القضاء عليه هو نصر مُبين.
وقد لا تفي حتى صورة الأخ الأكبر في رواية أورويل بتجسيد الطاغية كما أنتجته الثقافة ذات البعد الواحد، لأن أورويل حين كتب روايته عام 1948 لم تكن الحرب العالمية الثانية قد أنجبت من حبلت بهم من طغاة النصف الثاني من القرن العشرين، لهذا فإن ما كتبه الشاعر الروسي يفتشنكو في سيرته عن الستالينية ومناخاتها المشبعة بالهلع لم يتوصل إليه أورويل أو سواه، خصوصا ما يتعلق بالشعراء الذين طردهم أفلاطون من جمهوريته، لكنهم لم ينتحروا كما فعل سيرغي يسنين وماياكوفسكي وآخرون في جمهورية الفولاذ، ومهما بلغ الرقيب من قسوة في زمن الشاعر الروماني أوفيد، لم يصل إلى ما وصل إليه جدانوف الرقيب الستاليني الذي فرض على شاعر كتب عن الحب كأعمق عاطفة بشرية أن يطبع نسختين فقط من ديوانه، واحدة له والأخرى للمرأة التي يحبها.
وإن كان نيرون قد أحرق روما فإن من استولدوا بأنابيب التوثين السياسي أحرقوا البشرية كلها، من حيث الأفكار والإبادة الرمزية. إن عدد ضحايا التوثين السياسي والأيديولوجي في عصرنا يتجاوز ضحايا الحروب كلها بأضعاف، لأن من لم يُقتل أو يسجن أصيب في عقله، وهنا نتذكر ما قاله برتولد بريخت عن الرّيبة التي يخلقها الطغاة، بحيث يتحول الابناء إلى جواسيس على آبائهم وكذلك الزوجات على أزواجهن!
أما الطبعة العربية من التوثين السياسي فلها رواية أخرى، فالحروب والأزمات المحلية لم تشرّد وتقتل واحدا بالمئة من ضحايا الطغاة وقراراتهم الحمقاء، وحين استولى هؤلاء على كل شيء لم يبق أمامهم إلا السطو على دور المثقف في بلدانهم، فاستأجروا من يكتب لهم وبأسمائهم، وتحولوا إلى فقهاء في كل مجالات الحياة… وبسبب فقههم الاقتصادي تحول فائض الثروة إلى مديونيات، وحوّلوا الشعوب إلى متسولين وغرباء في عقر أوطانهم.
يفصلنا قرن عن الكواكبي وكتابه «طبائع الاستبداد»، وكان هذا القرن كافيا لإنتاج صنائع الاستبداد، وورشات للتوثين مما يتطلب إضافات نوعية في هذا السياق لأن الاستبداد قبل قرن لم يكن قد سخّر التكنولوجيا ومنجزات الفكر الإنساني لخدمته وتجميله واستبدال اسمه بأسماء أخرى. كما أن ما كتبه لوبون في الفترة ذاتها عن «سيكولوجيا الجماهير» ليس سوى مقاربات أولية لما انتهى إليه العالم منذ شملته العولمة بثقافتها العوراء التي حوّلت الإنسان إلى رقم والبشر إلى قطع غيار كالمسامير لا تختلف إلا من حيث الطول.
كاتب أردني
خيري منصور
تحية حب وأحترام للاستاذ خيري مع بالغ الود : – الطاة رقدوا هناك , في بئر لا قعر له , الرقده الابديه , حيث لا أنيس ولاضوء , ملفوفون بثيلب من ظلام , راحوا , تركوا فينا … ألم الضياع , تمزق الاوطان , تشتت الناس في الأفاق ….. أصيح في الليل , أين هم .. من ضيعوا مني أرض وجودي , أفقدوني سلام روحي , أختنق في لحظتي هذه , أبحث عن مخارج لهواء , يغيبها الظلام عني , يشتد علىَ ضيق صدري , أتصارع مع مكاني , مع الجدران من حولي علني أعثر على منذ فيها , يصتدم رأسي في الجدران من حولي , يدفعني كياني على المواصله , للمحافظه عليه, شدة الظلام , أمحت عني مخارج الدروب , أصرخ في الظلام , يأتيني رجع مخيف , قادم من بعيد , من السماء … زمجره مرعبه …. أتمالك نفسي , أستعيد رغم ضيق تنفسي , صفاء ذهني … أنصت … فوقي طائرات الأمريكن .. أتأ فف .. أقول لعنة الله على الطغاة والأمريكن .. هذه الكلمات مهداة الى الأستاذ خيري , علها تحظى بأ عجابه .