لندن ـ «القدس العربي: كان هجوم يوم السبت الانتحاري في مدينة حمص والذي أودى بحياة 20 شخصا تذكيرا بأن الحياة في المدينة التي كانت عاصمة الثورة لن تعود لما كانت عليه قبل عام 2011.
فقد ظلت هذه المدينة التي تعتبر ثالث أكبر المدن السورية شاهدا على تقلبات الثورة السورية، دمرت قصبتها القديمة وقتل فيها صحافيون فرنسيون وأمريكية وجوع مقاتلوها في حي بابا عمرو وخرج من بقي منهم في هدنة الأسبوع الماضي من حي الوعر.
وفي زيارة لكبيرة مراسلي هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» ليز دوسيت، وجدت صورا عن بقايا مدينة تتظاهر بالعودة للحياة.
ففي مقال نشرته صحيفة «أوبزيرفر» قالت دويست «عادت إشارات الطرق للتوهج من جديد، المقاهي تعج بالناس وأضواء أعياد الميلاد تتلألأ في زوايا الكنائس الحجرية والفنادق الجميلة» لكن ليست هذه هي كل حمص فهناك «زوايا مظلمة أيضا» حيث «لا تزال أحياء بأكملها فضاءات فارغة وبنايات مسودة وعليها علامات الرصاص أو سويت بالتراب بسبب القصف الشرس وتحولت إلى قطع تشبه الفطائر ولكنها رمادية اللون، فحمص هي مكان يجفل فيه الناس من عودة الضوء ويخيفهم الظلام».
وتشير دوسيت لعودة المدينة ولأول مرة منذ بداية الثورة في 15 آذار/مارس 2011 لقبضة الحكومة السورية حيث خرج المقاتلون من آخر معقل لهم في حي الوعر.
وتم نقل 300 منهم ومعظمهم ينتمي إلى جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة بالحافلات إلى إدلب. وسافرت عائلات المقاتلين معهم فيما بدا الاطفال الحائرون وهم يحملون لعبهم، وحثتهم أمهاتهم على ركوب الحافلات. وقالت امرأة وقد أجهشت بالبكاء «لا أريد ترك بيتنا» و «لكن ابني مقاتل ولهذا يجب أن أرحل معه». وحاول مسؤول في الأمم المتحدة دعم هذا الإتفاق التخفيف عليها وقال لها «ستعودين عندما يحصل اتفاق لوقف إطلاق النار في سوريا» ولكن لا عزاء للمرأة.
وتقول دوسيت إنه بعيدا عن الوعر مسيرة 15 دقيقة بالسيارة هناك عالم آخر، في وسط حمص حيث عبر السكان عن ارتياحهم من نهاية القتال وقالوا لها «أتذكرين عندما لم يكن باستطاعتنا المشي في الشارع لأن الوضع كان خطيرا». ولاحظت الصحافية عودة الحياة الطبيعية للمدينة القديمة حيث تم التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار العام الماضي وبدأ الناس يعودون من جديد.
ونقلت عن حكمت خباز، طالب وأحد أبناء المجتمع المسيحي فيها «كان علينا أن نغادر بيتنا وفي قلبنا كنا نشعر بأننا سنعود»، «لقد ولدنا ونشأنا هنا وذكرياتنا هنا».
لا حياة بل مجرد خراب
وفي الوقت الذي تجري فيه بعض الإصلاحات في البلدة القديمة إلا أنه لا توجد في الشوارع القريبة حيث بيت خباز أي إشارة عن بداية الإعمار، فشارع وراء شارع هناك مساحات واسعة من الأنقاض، وهي مناطق كان يعيش فيها المسلمون والذين شكلوا عصب الثورة السورية.
وتنقل عن ناشطة اسمها رزان من حي بابا عمرو قولها «لقد شرد وسجن واختفى مئات الألوف أو قتلوا بالقذائف الصاروخية أو رصاص القناصة». وفي رسالة عبر الإنترنت اتهمت الحكومة بممارسة «سياسة تشريد منظمة» لسكان هذه الشوارع.
وتقول دوسيت إن اتفاق حي الوعر يعتبر إشارة مليئة بالمرارة في مدينة كانت يوما عاصمة الثورة. فمع دخول الثوة السورية عامها الخامس تعتبر المدينة تجسيدا للصراع الذي مزق أجزاء كبيرة من البلاد ومزق كذلك نسيجها الاجتماعي. فقبل الثورة كانت المدينة صورة ميكروسومية عن سوريا حيث عاش فيها السنة والشيعة والعلويون والمسيحيون في فضاء مشترك.
وتنقل عن طلال البرازي، محافظ المدينة «كل واحد عانى في حمص»، و «لهذا السبب دعمت نسبة 95% من السكان اتفاق حي الوعر». وقبل أن يصبح محافظا كان البرازي رجل أعمال يقيم في دبي ولعب دورا قياديا في اتفاقيات وقف إطلاق النار المحلية التي تم التوصل إليها.
وتقول إنه تعرض في الماضي لانتقادات من كل الأطراف بما في ذلك هجمات لفظية ومحاولات اعتداء من العلويين في حمص، ولكنه بقي في منصبه نظراً للدعم الذي يلقاه من الرئيس السوري بشار الأسد.
أصوات من الوعر
وتنقل دوسيت أصوات الغضب والاجهاد من حي الوعر، وتقول إمرأة شابة «لن نترك الوعر وستبقى الثورة لآخر نفس».
وبالمقابل هناك شعور بالارتياح العميق، فالهدنة التي تم التوصل إليها مع الحكومة وعدد من الفصائل المقاتلة ستسمح بدخول المواد الغذائية والأدوية للمنطقة التي كانت شبه محاصرة. وبالنسبة للسكان فقد كان الحصول على المواد الأساسية صعب وفي بعض الأحيان بأسعار باهظة.
ومن أجل بناء الثقة دخلت قوافل تابعة للأمم المتحدة الحي وحملت معها الطعام والمياه. ووفرت منظمات الإغاثة بمن فيها جمعية الهلال الأحمر السورية والصليب الأحمر الدولية المواد الدوائية. ونقلت عن يعقوب الحلو، مسؤول الإغاثة الإنسانية التابع للأمم المتحدة «ندعم وبشكل كامل الاتفاق».
ويرى ان الهدنة هي «اتفاق إنساني» «ندعمه لأنه يعني أشياء جيدة للمدنيين وأشياء جيدة لأكثر من 60.000 نسمة لا يزالون يعيشون في الوعر».
وبموجب الإتفاق خرج المقاتلون بأسلحتهم وهؤلاء من رفضوه ولكنهم وعدوا بعدم التشويش عليه، فيما اختار مقاتلون من جماعات معتدلة البقاء مع عائلاتهم وسيتخلون في الأشهر المقبلة عن أسلحتهم الثقيلة والمتوسطة وسينضمون للجنة عامة تدير الشؤون المدنية للحي.
ولكن وثيقة الاتفاق التي تم التوصل إليها كانت واضحة من ناحية أن الأمن سيكون مسؤولية فرع المخابرات العامة في حمص والشرطة. وأكبر امتحان للاتفاق يتعلق بمصير المعتقلين والإفراج عنهم ومخاطر تعرض المقاتلين للاعتقال.
ويعلق دبلوماسي غربي يعمل في المنطقة ويزور سوريا بانتظام «هذا ليس اتفاق وقف إطلاق النار، بل هو استسلام» مضيفا «على المقاتلين التخلي عن فكرة استئناف القتال لأن الظروف بالنسبة لهم ولعائلاتهم سيكون بائسة».
وعندما سألت دوسيت المحافظ عن معنى الاتفاق قال «لا نراه استسلاما» و»لكننا نرى أن معظم الجماعات المسلحة في الوعر وافقت على التسوية والمصالحة. وسيتخلى أفرادها عن أسلحتهم ويجلبون السلام من جديد لحمص».
وهناك من لا يتفق معه، لكن لا يهم. ويقول الحلو «هو اتفاق مهم ولم يوافق عليه بالضرورة كل شخص لأنه ذا أهمية».
والحلو هو من السودان ولديه خبرة في مناطق الحرب ووجهت له انتقادات بسبب دعمه لاتفاقات وقف إطلاق النار المحلية ولكنه مصمم على مواصلة دوره «ننتهز أية فرصة للتخفيف عن المدنيين».
ذكريات
وتختم دوسيت مقالتها بالقول «بعد خمسة أعوام تقريبا، يشعر السوريون بالإنهاك بسبب الحرب ويحاولون بيأس البحث عن بصيص أمل. والتقيت بحكمت، الطالب ذو الوجه العذب أمام كاتدرائية السيدة العذراء أم الزنار. وعندما زرتها في أيار/مايو 2014 بعد بدء وقف إطلاق النار المحلي كانت المقاعد الخشبية المكسرة مبعثرة على الأرضية الحجرية المدمرة، ولم يكن هناك ضوء سوى الشموع التي تتوهج وقدمها الزوار في صلواتهم الصامتة. أما اليوم فقد تم وضع مقاعد عسلية اللون في صفوف منظمة. فيما تلألأ سانتا كلوز بقبعته الحمراء في زاوية من الكاتدرائية. وفي زاوية أخرى شجرة عيد ميلاد متلألئة في مكان مشهد ولادة السيد المسيح».
وقال حكمت «بعض أصدقائي هاجروا وآخرون قتلوا». ويقول «زرت مدرستي القديمة وشاهدت صورنا على الجدران، ونحن بحاجة لبناء ذكريات جديدة كي تحل محل القديمة». ولكن في سوريا اليوم تظل الذكريات القديمة مثيرة للإنقسام وللدمار ولا يزال الكثيرون يرون أن خلق ذكريات جديدة يظل أمرا صعبا».
فسوريا القديمة لن تعود وستحل محلها سوريا مقسمة وممزقة إلى إمارات ودويلات. ولعلنا نعود بالذاكرة لمشهد آخر شهده منطقة البلقان في عام 1916 فسوريا 2016 هي بلقان الحرب العالمية قبل قرن من الزمان.
وفي هذا السياق يكتب باتريك كوكبيرن في صحيفة «إندبندنت أون صنـداي» نقلاً عن تقـييم قـديم كـتبه مـحلل في المخابـرات المـركزية الأمريكية «سي آي إيه» وبدا فيه واثقا وقدم سيناريو حـول مجرى الأـحداث في سـوريا ولكن قـبل 35 عـاما.
وجاء في التقييم الذي يعود إلى 17 آذار/مارس 1980 أن «الأسد يلعب آخر ورقة كبيرة لديه لكي يبقى في السلطـة».
ويضيف التقييم أن حكومة الأسد ستزيد من جهـودها لإثـبات أن أعداءها «تتحكم بهم قوى خارجية»، وهناك إمكانية للانقسام داخل النخبة الحاكمة داخل سوريا وهو ما سيقود للإطاحة بالأسد مع اعترافه أن بديلاً عنه غير متوفر في الوقت الحالي.
ويعلق كوكبيرن على ورقة المخابرات الأمريكية تحت عنوان «سوريا: احتمالات الأسد» بأنها منطقية ومقنعة رغم أنها تبالغ بالحديث عن مصير الأسد والذي تقول إن أيامه باتت معدودة. والأسد في الوثيقة القديمة هو حافظ والد الرئيس الحالي بشار.
وكانت المخابرات الأمريكية قد أفرجت عن الوثيقة السرية هذه عام 2013 وبناء على قانون حرية المعلومات. ويعلق كوكبيرن أن ورقة «سي آي إيه» مهمة للقراءة لأنها تكشف عن أن الكثير من العناصر في النزاع الحالي كانت موجودة في سوريا من قبل ولكنها لم تتجمع بنفس الطريقة اليوم وأدت لانفجار كبير على شكل حرب رهيبة. ففي الثمانينات من القرن الماضي افترض كاتب التقرير أن السياسة السورية متمحورة حول الخلافات الطائفية بين السنة والعلويين. وبناء عليه فالخلاف بين الطائفتين سيكون سبباً في انهيار نظام الأسد.
ويقول كوكبيرن إن «سي آي إيه» كانت راغبة برحيل الأسد وكان لديها عدد من الأفكار حول كيفية الإطاحة به مثل «انهيار الجيش المنضبط تحت وطأة تظاهرات واسعة»، و»ما قد يقود إلى حرب دموية بين الوحدات العسكرية السنية والعلوية، وقد يقرر العلويون التخلص من الأسد والحفاظ على مناصبهم قبل حدوث هذا الاضطراب».
ويعلق كوكبيرن أن الجملة الأخيرة كان يمكن ان تكتب في أي وقت منذ عام 2011 كملخص لما رغبت الولايات المتحدة بحدوثه في سوريا.
فواشنطن كانت تريد الإطاحة بالأسد ولكن بدون أن تدمر أو تضعف الدولة السورية بطريقة تفتح الباب لكل من «تنظيم الدولة» أو «القاعدة» الدخول منه. ويقول أيضا أن الدول العظمى تتعلم من التاريخ ولهذا تريد الولايات المتحدة والدولة الغربية المتحالفة معها تجنب تكرار التفكك الكارثي للعراق عام 2003. ويرى كوكبيرن أن محلل «سي آي إيه» حصل بعد عقود على الحرب الطائفية التي تكهن بها ولايزال الأسد في مكانه فيما اكتوى السوريون بنارها.
تعلم من الدروس
ويلاحظ الكاتب هنا أن مسؤولي الاستخبارات الأمريكية يتحدثون اليوم بصراحة أقوى من نظرائهم البريطانيين حول فشل التدخلات العسكرية في السنوات الـ 12 الماضية.
ففي مقابلة للجنرال المتقاعد مايكل فلين، مدير وكالة الاستخبارات العسكرية السابق مع مجلة «دير شبيغل» الألمانية قال إن حرب العراق كانت «خطأ فظيعاً، فرغم وحشية صدام حسين إلا أنه كان من الخطأ الإطاحة به وكذا الإطاحة بمعمر القذافي حيث تحولت ليبيا إلى دولة فاشلة. والدروس التاريخية هي أنه فشل استراتيجي حصل بالذهاب إلى العراق، ولن يكون التاريخ ويجب ان لا يكون رفيقاً مع هذا القرار».
ويعلق كوكبيرن أن دولاً كبرى مثل الولايات المتحدة يمكنها وبسهولة الاعتراف بأخطائها أكثر من بريطانيا الصغيرة وغير الواثقة في وضعها كقوة عظمى. ولكن هناك ثمناً للسكوت أو الالتزام بحالة إنكار حول الأخطاء العسكرية والدبلوماسية والسياسية. فلو كان البريطانيون اعترفوا بحدوث أخطاء في الحروب الأفغانية والعراقية والسورية إلا أنه اعتراف جاء بصيغة عامة.
وينقل ما قاله دبلوماسي سابق في الخارجية البريطانية لاحظ وبشكل مثير للدهشة أن أحدا لم يتحدث في الخارجية عن قرار الحرب أو ماذا حدث من أخطاء».
وقد يكون السبب أن معظم المسؤولين عارضوا الحرب وبشكل سري منذ البداية. وبعد أربع حروب كارثية وإساءة تقدير لم يتم التعامل مع المعلومات التي قدمتها المؤسسات الأمنية بنوع من الشك.
وكان آخر هذه الفصول حكاية الـ 70.000 مقاتل من الجماعات المعتدلة في سوريا الجاهزين للزحف نحو مدينة الرقة عاصمة ما يطلق عليها «الخلافة». وزعمت الحكومة أن المعلومات جاءت من اللجنة الأمنية المشتركة، وكأن المصادر التي استقت منها معلوماتها لا تدعو للشك.
وربما جاءت الثقة هذه من استمرار الحديث عن انتصارات المخابرات البريطانية في الحربين العالميتين وقدرتها على فك شيفرة الألمان الحربية بالإضافة لأفلام العميل السري جيمس بوند الذي نشر سمعة المخابرات البريطانية القوية في العالم.
ويشير الكاتب هنا إلى أن قادة الدول الأجنبية عادة ما يشكون في تقديرات مؤسساتهم الأمنية. فقبل بداية الحرب على العراق أخبر الرئيس الفرنسي جاك شيراك زائرا له بأنه لا يؤمن بامتلاك صدام أسلحة دمار شامل.
ولكن الزائر قال «سيدي الرئيس ولكن رجال الاستخبارات يعتقدون بهذا»، فرد شيراك «إنهم يحاولون تسميم بعضهم البعض» وبعبارات أخرى، فما تقوله الإستخبارات يصبح صدى لإيمان منفصل عن الواقع. فالسرية التي يغلفون بها أنفسهم تفيد عندما يرفضون تحمل مسؤولية الفشل. ويصبحون عرضة للاتهام عندما تحاول حكومات أو مسؤولون تقديم نصيحة تتلاعب من خلالها بالمعلومات.
ويذكر تصريحات الرئيس باراك أوباما العام الماضي عندما حاول التقليل من قوة «تنظيم الدولة» ووصفه بأنه فريق كرة سلة صغير يحاول لعب دور الفريق الكبير وذلك بعد أن سيطر التنظيم على معظم شمال العراق.
وكان السبب وراء هذه التصريحات ما كشف عنه هذا العام عن توقيع 50 محللاً يعملون لصالح «البنتاغون» رسالة اشتكوا فيها من قيام المسؤولين الكبار بإخفاء الحقائق التي توصلوا إليها وتفيد بأن «تنظيم الدولة» أصبح أكثر قوة وليس ضعفاً كما قال أوباما. وفي النهاية أصبح النزاعان السوري – العراقي بالنسبة للقرن الحادي والعشرين ما مثلته منطقة البلقان للقرن العشرين. وفي مقاييس العنف المتفجر اليوم وعلى قاعدة دولية فقد يصبح عام 2016 هو عام 1914 الذي بدأت فيه الحرب العظمى.
إبراهيم درويش