غيداء ماهر: الحواس تخدعنا من وقت لآخر، ومن الحكمة ألا نثق كليًا في الذين خدعونا ولو لمرّةٍ واحدة»- رينيه ديكارت
أتذكر أوّل مرّة مشيت فيها مطولا لوحدي في شارع فيه ناسٍ كثر. وجوههم، أحاديثهم، ملامح عجلة، وعلى صفحات وجوه أخرى بعض الحماس. أُصبت بدموعٍ عشوائيّة، وإحمرار عينين خفيف. الوليد يَتحسس أيضًا لدى خروجه من الرحم. أما الدموع لم تتوقف حينها أمام المارين، ولو حاولت. تقول ها نحن سننبثق قبل الأوان من قوقعة تكونت سابقًا.
بعيدًا عن الرماديات بعضنا يخلق لوائح تُبين أي الأمور هُراء، وإياها تُوضح رموز وشروط الأشياء لأن تكون ذا شأن. أُدون ابتداءً سلسلة من: رَحم، دموع، ركبة مجروحة ومبلولة بالكحول، وشارع.. ثم أخيرًا ولادة ثانية وحيوات..
إذ يأتي هنا دوّر شعر البنات، بائعها وسيم بتجاعيده السمراء، قلبه يضحك للأصابع الصغيرة، يَغمز، نُخرج أكثر من خمسة قروش على كيس شعر البنات الواحد. فينتهي بمن يشاركني العبث بداء سكر لحظي، وفراغ كبير، وصفر أكبر لا يحتوي على قرش ولا على عشرات الفلسات.. أما كذبة الهروب من تأنيب الأمهات على تسوس الأسنان اللبنية تكون أن مصروف المساء دائمًا ما يُفقد تحت السجادة أو تحت خزان ماء البيت بطريقة أو أخرى، وليس سعيًا إلى مذاق السكر المذاب.
صُداع، صداع.. كان الصداع يعاني معي، من ماذا؟ من العطور والروائح المختلطة، وشواخص المرور، ومحاولات تمييز نوتات صادرة من آلات وتريّة في ذات الوقت، وعندما أفكر في كذبة أكذبها عند خشيّة أو خوف، فأحفظها مثل جدول ضرب أتخيلهُ معلقًا على حيط غرفتي، بعد أسبوع تُمسي الكذبة حقيقة.. ذاك هو السبب، وقاع السخرية. فلاحٌ يَحصد حاسة تخيل سلبيّة واسعة الأفق؛ فتُوجب عليه إقتلاعها من الجذر.
فراغٌ، وصفر مرتاح بتخلصه من حبّات الباندول، رغم الونس في اقتراف كذبة بريئة، وتَشكلها صلصالاً قد يتشقق، فتتكسر معه آخر الزوائد المُعالة الفائضة عن اللزوم.
الكذب رحم من نوع آخر.. يوم ميلادك الثاني لابد يكون شيئًا أقرب إلى قطع شارع سريع، إلى قول الحقيقة أمام سلطويّ، أو هبّة نارٍ مضيئة، لا أن يبتعد كثيرًا عن أن يكون مثل منظومة دقات القلب السريعة لحظة أن تُفاجئ موجة كثيفة وباردة قدميّ شخص سارح الفكر..
الرحم مدرسة الحواس، لابد للرحم أن يرحم الكينونة، وللحواس أن تتحسس وتتوخى الحذر من مُثيراتها، أن تتخلى عن كلّ ذلك. أن تضحك كثيرًا بعد أن تُفرغ كلّ ما في جيب صاحبها من قروش تجاه سُكر ملون يعيش لثوان. خارج الرحم تبدأ مُهمة التفكير في كيف نختار أن نحيا خارج قالب تأثير المحفزات الحسيّة المحدودة والنسبية الذي أُعد سابقًا.
«العقل كالقاضي والحواس كالشهود؛ وكما لا يستطيع القاضي الحكم دون شهود؛ لا يستطيع العقل أن يحكم إلا بما قدمته له الحواس» – أبو حامد الغزالي
أعود في الذاكرة إلى ذات الشارع، إحدى المارات همهمت إلى نفسها، ثم همست إلى أخرى بصحبتها، إذ قررت الإثنتان إيقافي، بعد إلقاء السلام، اقترحت إحداهما المساعدة في توضيح أيّ الطرق الفرعيّة تُخرجني من الشارع إلى وجهتي أيًا كانت. إذ اعتقدتا أنني ضائعة، وأن الدموع بكاء. انما بكشف الحجاب يكون التحسس وراءه.
قد يجتمع الناس على أحد مفاهيم ماهية الحواس وتصنيفها التقليدي إلى خمس. أو يختلفون وقد يضيف البعض الحاسة السادسة. في مخيلة السيدة كنت ضائعة، في مخيلتي أضاعت حاسة الرؤية خاصتها بوصلتها في إمكانية وجود احتمال آخر يلغي احتمالا سابقا. ليس كل الدموع بكاء، ولا كل الشوارع نافذة. رينيه ديكارت مثالا: لم يثق بشهادة الحواس وآمن بالعقل والبحث عن الحقيقة. أما أبو حامد الغزالي شكك بالمعارف الحسية بالإضافة إلى العقل أيضا، أي بمعنى أن الحواس تعمل على نقل معلومات غير دقيقة بالغالب الأعم من العالم الخارجي إلى الذات، وبذلك يبني العقل حكما مغلوطا بناء على معلومات غير دقيقة.
غبار الطلع أنتج ماء عيون، وماء العيون حملني إلى شارع غير نافذ، حارة صغيرة، دكانة، ودحنون، وعشب اصفر يصر على الحياة بين الارصفة، وكيس سكر ليس الأخير بالتأكيد، بكل القروش، دون أمهات وكذب تلون بلونه، المذاق والذوبان، فأنسى ديكارت والغزالي. وأكتفي برجوع الحواس إلى أطفال صغار ينتظرون بمخيلة الصبيان ميلادا جديدا فور مرور ثوان قليلة.