لأيام طويلة سوف يملأ شعار «أنا شارلي» المكتوب بالفرنسية فضاءات الإعلام والشاشات والجرائد، أما الوقفة التي جمع لها الرئيس الفرنسي اولاند، أو أراد أن يجمع لها، كل قادة العالم، فقد تم نقلها عبر الفضائيات المهمة في كافة أنحاء العالم.
في العالمين العربي والإسلامي اعتبر زعماء المنطقة، أن الأمر يعنيهم لأن من قام بالجريمة مواطن من أصل عربي مسلم، وإن كان قد عاش حياته كلها في الغرب، وبالغوا تبعاً لذلك في جلد أنفسهم ولوم «المتطرفين» و»المغالين» المحرضين على العنف في بلدانهم وحول العالم، ثم ظهرت صور أولئك الزعماء في مسيرة العزاء التي أشرفت عليها الرئاسة الفرنسية، وتم نقل كلماتهم المتضامنة والمستنكرة لهذا الحدث المشين. كانت المسيرة خليطاً كبيراً جمع بين نتنياهو، الذي سوف يستنكر أردوغان لاحقاً وجوده فيها، ومحمود عباس، وبين مناصرين للمجلة وللحريات من المثقفين والإعلاميين وصناع القرار. ظهرت في المسيرة أيضاً مجموعات معادية للإسلام استغلت الفرصة لرفع شعارات مناهضة له لم يستنكرها من بين المشاركين العرب إلا وزير خارجية المغرب الذي أعلن انسحاب وفده. لقد ركزت الشبكات الإعلامية على هذا الحدث الذي أريد له أن يشغل العالم، وقد اشتعلت طاولات البحث فعلاً خلال تلك الأيام، واستمرت المناقشات التي حاولت تحليل ماحدث من خلال وضعه في خريطة العمل الجاهزة للحرب على «الإرهاب».
ما أريد أن أقوله هنا ليس التقليل من شأن الاعتداء الدامي الذي قام به الأخوان كواتشي، والذي وجد إدانة من العلماء المسلمين الثقات قبل غيرهم، الذين اعتبروا أن الإساءة للإسلام، وحتى سب النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس مبرراً كافياً للوصول إلى أحكامٍ وتنفيذها بشكل فردي وبدون مراعاة لحجم المصالح والمفاسد، التي أقلها شهرة وارتفاع توزيع الصحيفة المغمورة من آلاف إلى ملايين النسخ بعد الحدث.
أنا فقط أشعر بأننا، كمواطنين في هذا العالم، لسنا سوى مشاعر تتحرك بالريموت كنترول.. بضغطة زر تتوجه مشاعرنا إلى المكان الذي تسلّط عليه الكاميرا أضواءها.. أذكر كيف تناقلت المحطات التلفزيونية مشهد سقوط التمثال الضخم للرئيس العراقي صدام حسين.. كان حدثاً يرمز إلى انتهاء حقبة الديكتاتورية والقمع والإرهاب، وبداية عهد الديمقراطية والسلام والحرية التي سينالها العراقيون بمساعدة الحليف الأمريكي، الذي لم يأت إلى لإجراء هذه النقلة مضحياً بماله ونفسه في سبيل المواطن العراقي. وأذكر أيضاً سقوط البنايتين الشاهقتين بطريقة بطيئة ودرامية في الحادي عشر من سبتمبر وأصوات الهلع ومنظر الرماد المنثور والغبار..
لم يكن أحد يملك مع هذه الصور السحرية أن يعترض على الدخول الأمريكي للعراق، خاصة وهو يرى ما نقلته الكاميرات من فرحة المواطنين وحرصهم على تكسير التماثيل وضربها بالأحذية وشتمها. ولم يكن أحد يمتلك إبان الحادي عشر من سبتمبر أن ينتقد السياسيات الأمريكية التي أدت إلى وضع الدولة الأكبر ومواطنيها ومصالحها تحت تهديد غامض مباشر.. لم يكن ذلك ممكناً والرئيس الأمريكي المنفعل يقول قولته المشهورة: «إما معنا أو مع الإرهابيين».
ولأن لا أحد من أولئك الزعماء أو السياسيين أو المثقفين حول العالم يرغب في أن يكون مع «الإرهابيين»، فإن ذلك كان يعني منح الولايات المتحدة شيكاً على بياض للتصرف والتدخل بالشكل الذي تراه مناسباً، بل ومنحها كل احتياجاتها المادية واللوجستية والإعلامية التي تساعدها على تحقيق أهدافها. ذلك كان الحال الذي تكرر أيضاً مع حادثة «شارلي».. وكان في ذلك المشهد الدرامي عدة لقطات لا يمكن أن نمضي بدون أن نقف عندها.. كان مشهد ذلك «الملك» العربي الذي لم يحتمل المشهد فتساقطت دموعه حزناً.. هو الذي لم نره يبك من قبل إثر أي مأساة في سوريا أو العراق أو فلسطين أوغيرها.. وكان هناك مشهد العلماء المقربين من السلاطين، الذين رأوا أنه لا غضاضة في الخروج في هذه المسيرة أو أي مسيرة منددة بالحدث الذي يسيء للإسلام، والطرافة هنا أنهم يمنعون أي مسيرة في بلادهم حتى إن كانت متضامنة مع القدس بحجة حرمة المسيرات والتظاهرات. وحتى لو كنت تمنع المظاهرات في بلدك فإننا سوف نراك وأنت تخرج في هذه المسيرة بخشوع وحزن، ستخرج لأن الكاميرا مسلّطة على ذلك المكان، ولأنه يجب أن تكون هناك للتضامن وإظهار الحزن، وإلا فسوف يتم فهم موقفك كتضامن مع «الإرهابيين».. لا خيار ثالث..
أما تدخلات فرنسا في أفريقيا وغيرها، التي بدأت قبل الأحداث بكثير، فستجد لها مسوغاً ومبرراً سياسياً وحتى شعبياً، فلا أحد يريد أن يتكرر حدث مؤسف كحدث «شارلي» الذي يريد حرمان فرنسا من حق حرية التعبير.
هذا هو الذي أعنيه بمشاعر الريموت كنترول.. نحن نتفاعل سياسياً وشعبياً في حدود المسموح به فقط، وبحسب ضوء الكاميرا الإعلامي الانتقائي الذي يتركز على مكان دون غيره.
جرح اسرائيلي واحد أو قتله أو أسره هو حدث مهم بالنسبة للإعلام العالمي يستحق التفاعل والاستنكار والاهتمام، لكن مقتل الآلاف من العزل والأبرياء هو مجرد خبر يلقى اهتماماً أقل، هذا إذا لقي على الإطلاق، وفي الحالتين فإن المقاومة هي المخطئة وهي السبب في المأساة.
وحينما يقتل الآلاف في ميدان «رابعة العدوية» في القاهرة وفي غيرها فإن كل أصوات أولئك «الإنسانيين» تصمت في تجاهل أو شماتة أو تشكيك، فلا بيانات رسمية ولا وقفات استنكارية ولا حتى دعوات للتحقيق، فهو مجرد «شأن داخلي» لا يخص أحداً. كذلك حين يرفع أحد الرياضيين أو الصحافيين أو الطلاب أو غيرهم شعار «أنا شارلي» أو يجعله وسماً لصفحته على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن ذلك يلقى استحسان الجميع لما فيه من تضامن إنساني ورقي في المشاعر، لكن هذا ليس الحال مع الرياضيين الذي رفعوا أصابعهم الأربعة أو رسموا شارة رابعة للتذكير بهذه المأساة الإنسانية التي لا مثيل لها في التاريخ المصري الحديث، حيث سيعاقب أولئك الرياضيون، وعلى رأسهم لاعب الكرة الأشهر «أبو تريكة»، بالفصل والشتائم والتشكيك بوطنيتهم وسيلامون بقوة على خلطهم بين الرياضة والسياسة..
لقد وقف العالم احتراماً لشارلي ولحياة رسامي الكاريكاتير، كما وقف في جمود وصدمة عقب مقتل الطيار الأردني معاذ الكساسبة، الذي تم اعدامه بواسطة «تنظيم الدولة» حرقاً وبشكل مؤلم ودعائي.. تداول العالم صور الحريق بكثافة وعبر الجميع عن صدمتهم إزاء ما حدث، لكن، رغم الاهتمام الكبير وأصوات الاستنكار، تبقى الحقيقة أن هذه الجريمة لم تكن الأكبر من ضمن جرائم تنظيم «الدولة» التي تراوحت بين قتل وسبي للنساء وانتهاكات مختلفة هذا غير الجريمة الأكبر بحق الإسلام وهي تكفير الخصوم حتى من المسلمين.
كما تبقى حقيقة أنها لم تكن الجريمة الأكبر التي حدثت بحق الانسانية في الأعوام الأخيرة، فمن مشاهد حرق المسلمين في بورما والتطهير العرقي في أفريقيا الوسطى، مروراً بمأساة حادثة سيارة الترحيلات في مصر التي راح ضحيتها 37 معتقلاً، أثناء نقلهم من قسم الشرطة بمدينة نصر إلى سجن أبوزعبل ونهاية بجرائم نظام بشار الأسد المتنوعة واليومية، بل حتى في بلد الحقوق، أمريكا، تتواصل الجرائم ويمكن لأحدهم أن يقتل ثلاثة طلاب مسلمين بدافع الكراهية، كما حدث مؤخراً بدون أن يجد الإعلام «الحر» في ذلك مادة جديرة بالتغطية والتناول، وبدون أن تصبح هذه الحادثة وغيرها ملهمة وسبباً في سكب الدموع والعبرات.
لماذا طغت صورة «الحريق» على ما سواها؟ لأنه هكذا أراد مخرج الصور؟ أو لأن «داعش» تمثل تهديداً حقيقياً للغرب بآيديولوجيتها العدائية وتدريبها لآلاف المقاتلين القادمين من مختلف أنحاء العالم؟ أو ربما لأن هذا العالم، ونحن جزء منه، يمتلك مجموعة من الضمائر الانتقائية غير المحايدة؟
«ليس من حق أي رئيس أن يقتل شعبه وإن فعل ذلك فهو فاقد للشرعية»..
هكذا تقول المفاهيم الدولية التي، ولفهمها أكثر، يمكن إضافة هذه العبارة:
«لكن ذلك يعتمد على من هو ذلك الرئيس وفي أي منطقة في العالم يكون ذلك الشعب..!»
أو باختصار فإن ذلك يعتمد على أولئك الذين يمسكون بالريموت كنترول..
٭ كاتب سوداني
د. مدى الفاتح
مقال رائع دكتور ( مدى ) … شكراً جزيلا .
مقال أكثر من رائع! و الاحظ انك تناولت القضايا الساخنة فى العالم بصورة موضوعية.