أصدر الروائي التونسي نبيل قديش رواية «شارلي» عن دار فضاءات في عمّان (2016) بعد روايته الأولى «زهرة عباد الشمس» التي فازت بجائزة الكومار الذهبي في تونس، ومجموعته القصصية «العبث مع نيتشه».
وقد أحدثت الرواية الجديدة جدلا إعلاميا بسبب ما حفّ بترشّحها لجائزة معرض الكتاب في دورته الأخيرة من أسرار فصّلها لنا الروائي بقوله «وقع خلاف كبير بين أعضاء لجنة التحكيم قبل الإعلان عن الفائز بجائزة الرواية. كانت هناك منافسة قوية بين روايتي ورواية «ريكامو» ليوسف رزوقة، مما استدعى تدخل مدير المعرض ليُنهي هذا الخلافَ. وقد خرجت تسريباتٌ عن تتويج روايتي بالجائزة قبل ليلة من الإعلان عنها. ثم أُعلنَ في ما بعدُ عن فوز رواية يوسف رزوقة بها». وهو تفصيلٌ إذا ما تأكّدت صدقيتُه صار مُفسِّرًا لما قيلَ عن وَهَن معرض الكتاب التنظيميّ، من حيث مقاطعةُ الفاعلين الثقافيين التونسيّين له بسبب إقصائهم من أنشطته، ومن حيث تهافتُ مضامين الندوات الثقافية المُنجَزة، وطغيانُ الشلليّة في تحديد أسماء الضيوف الأجانب.
تُوغل روايةُ «شارلي» في أعماق محافظة «باجة» في الشمال الغربي التونسي، وتتخذ بلدةً فيها نائيةً فضاءً أثيلاً لحكايتها التي تمتدّ من آخر زمن نظام بورقيبة إلى بداية زمن حكم بن علي، وهي فترة من تاريخ تونس المعاصر عُرفت بهشاشة مؤسّسات الدولة وتنامي الاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي انتهت بانقلاب 7 نوفمبر/تشرين الثاني. وقد توزّعت الرواية على ثمانية وثلاثين فصلا في كل واحد منها سردٌ لحكاية صغرى هي من الرواية إيقاعٌ ينضافُ إلى إيقاعاتها السرديّة ومشهَدٌ يعضد نماءَ أحداثِها التي راحت تتخلّق وفق تقنية كرة الثلج؛ إذْ ما إن تدخل شخصية جديدة في حلبة الحكاية حتى تستدعي شخصيةً أو شخصياتٍ أخرى لها صلةٌ بأفعالها، فإذا الرواية كثيرة الشخصيات، ثرّة الأحداث، لا تغفل عن أيّ تفصيل يمكن أن يُثري شعريتها، وإذا بقارئها ينشدّ إليها ويستجمع جهد ذاكرته حتى لا تختلط عليه حبال السرد بفواعله ومفاعيله. ولئن بدا واضحا في الرواية اتكاؤُها على حكيٍ خطيٍّ فإننا لا نعدم في بعض فصولها وجودَ تهشيم لتلك الخطية التي نُرَجّح أن الكاتب قد لاذ بها سبيلا إلى منع ما يمكن أن يعتور كتابتَه من ملل.
اختارت الرواية أن تُعيدَ إنتاج منظومة الحكم التونسية المُهترئة ضمن حدود البلدة الصغيرة النائية لكي تُسائلَ أسبابَ ذاك الاهتراء، ولِتُفكِّكَ الذهنية الاجتماعية التي تعتاش منه وتحافظ عليه وترى فيه قَدَرًا سياسيا محتوما، وإذْ تفعل ذلك تفعله دونما حشرٍ منها للأيْديولوجيات داخل متنها أو سعيٍ إلى تطهير فئة من الناس على حساب أخرى، فالكلّ فيها مُدانٌ، والكلّ يشي بالكلّ ويُراقبه، والكلّ مسؤولٌ عن تردّي الوضع الاجتماعي الذي بات معطوبًا، وأضحى المكرُ فيه والخيانةُ وقِلَّةُ الحياء أسبابا ضروريةً للعيش.
تبدأ الرواية بعودة الشيخ «صالح شارلي» وزوجته مريم إلى البلدة قادميْن من حيّ الطَّلايْن (الإيطاليين) في العاصمة تونس لأسباب مادية، حيث يكتشف القارئ أن «شارلي» كان ملاكما مشهورا، وعاش فترة من الفتوّة والصعلكة دخل بموجبها السجن مرات عديدة، وهو إلى ذلك لم يُنجب أطفالا ما خوّل خيانة زوجته له في مناسبات عديدة إثباتا منه لفحولته. ولا شكّ في أنّ شخصية بهذه المواصفات ستسعى إلى إثبات حضورها في مجتمع البلدة، وهو ما عارضه الناس، خاصة منهم «عبدالجبّار الفرعون» رئيس مركز الحرس الوطني الذي لا يرغب في ظهور مَن ينازعه الحكمَ في البلدة بعد أن قضّى فيها أزيد من عشرين سنة يفرض على الناس أوامره ويعرف أدقّ تفاصيلهم، ويدبّر الحِيَلَ ليزجّ بالبعض منهم في السجن حتى يختلي هو بزوجاتهم على غرار ما فعل بالشاذلي الطبّال، أو يُجبرهم على دفع الرشوة للخروج من السجن عبر قناةِ مُساعِده «كرشة» وبمباركة عُمدة البلدة «جعفر»، أو يفرض عليهم القبول بتزوّج بعض النسوة حتى يتخلّص هو من تبعات علاقته الحميمـــــة بهنّ مثلما تمّ الأمر مع «الوحش»، حيث أجبره بالقـــوّة على الزواج بالفـــتاة «شـــهوة» لكي يُغطّـــي على حَمْلِها منه. تنشأ مواجهة خفيّة بين «شارلي» و«الفرعون» تنصبُّ في أغلبها على مسألة نفوذ كلّ واحد منها بالبـــلدة، وهو ما حفز الفـــــرعون على تدبير مكـــــيدة تعاطي المخدِّرات للوافد الجديد ويدخله بموجبها السجن، وهي الحادثة التي ستصير موضوع حديث الناس، وستفجّر ثورة بعضهم على الفرعون.
غير أنّ الرواية لا تنسى أن تذكّر قارئها بمأساة الفرعون في إشارة منها إلى أن الظالمين كانوا بدورهم ضحايا ظُلم مّا، وما ظلمُهم ذاك إلا ردّ فعل للتعويض عن هزائمهم الخاصّة عبر إعادةِ إنتاجٍ مآسيهم الذاتية في شخصيات أخرى. إذْ نقف في الحكاية على حقيقة أن الفرعون تربّى في دار لرعاية اليتامى، وأنّه تعرّض إلى اعتداءات جنسية من قِبل أحد النظّار فيه، ويخبرنا صديق صالح الخضار بأنه رأى الفرعون وهو يستحمّ ولاحظ وجود شامة سوداء في طرف ردفه. وهو ما ستذكره عجوز من منطقة «سْرَاوَرْتان» في محافظة «الكاف» التونسية قدمت إلى البلدة باحثةً عن ابن لها قالت إنها حملت به من شخص كان وعدها بالزواج ثم هجرها، ولمّا خافت من الفضيحة وارت سوءَتها برميِ رضيعها في حقل بعيدٍ ولا تذكر من ملامحه إلا شامة سوداء في طرف ردفه، ثم إنّ الرواية تمكّن قارئها من أن يتعرّف ماضي «شارلي» خاصة منه مسألة كونه كان قد عشق امرأة من محافظة الكاف وحملت منه، ثم هجرها. وبهذا تكتمل صورة الفرعون، وتتضح صورة شارلي، فإذا هما ابنٌ وأبٌ يلتقيان ويتواجهان مواجهة أبقت الروايةُ على غموضها، كما لو أن الكاتب يرغب في كتابة جزء ثانٍ لها.
وبحدوث انقلاب 7 نوفمبر، ينسى العمدةُ حُبَّه للزعيم بورقيبة، وينشأ فيه حبٌّ جارفٌ لابن علي جعله يفرض على الناس الاحتفال بالتغيير النوفمبريّ، ويسوقهم كالقطيع في البلدة وهم يُطبّلون للرئيس الجديد ويزمِّرون. وكان هؤلاء يفعلون ذلك خوفا من سطوة الفرعون وأتباعه ممزوجا بحُلْمِ حدوثِ تغيير في واقع بلدتهم يخرجون بموجبه من حال الوجود الاجتماعي السلبي إلى حال الكرامة والحرية، غير أنّ الواقع لا يُنبئ بخير، وصورة ذلك ما نلفيه في المشهد الأخير من الرواية، حيث وقف الفرعون – بعد أن تمّ إبلاغه بأمرِ نقله إلى جهة أخرى- إلى جانب «هتلر» وهو الأمنيّ الجديد الذي سيعوِّضه وراحا يتبادلان حديثا هامسا حول كيفية الإمعان في قهر الناس والعبث بحقوقهم والتعدّي على حرماتهم الشخصية، ما جعل أمر التغيير السياسي الذي أعلن عنه بن علي مُجرّدَ كذبةٍ سياسية ستكون عنوانًا لكثير من الظلم والحيف الاجتماعيَيْن ليس أدلّ عليها من اسم الأمني الجديد (هتلر) وما فيه من إحالة إلى العنف والتسلّط والتفرّد بالسلطة والاستهتار بأرواح الناس.
وما نخلص إليه من عرضـــــنا لرواية نبيل قديش هو كونها، وإن شابتها أخطاءُ الرقن في طبعتها الحالية، قد نجحت في تقديم عيّنة مائزة من سردياتنا التونسية الجـــــديدة التي يكتبها الشباب من الروائيّين بلغة خالية من ادّعاء الفصاحة، وبأسلوب لا يحرص على الخضوع لوصايا نظـــريات السرد الجديد قدر حرصِه على أن تكون له حكايته الخاصّة، وشكله السرديّ الخاص، وأن يعبّر فيها عن موقفه الحرّ من الحاضر ومن التاريخ.
٭ ناقد تونسي
عبدالدائم السلامي