شاطئ العلامات

أجلس على الشاطئ لأقرأ. أنا لا أقرأ كتابا لأنّ الكتاب المفتوح على الشاطئ بين جمهرة المصطافين السباحين وفي بلاد يغترب فيه الكتاب أمر يصيب السباحين بدوار البحر. سيقرأ الأمر على أن حامل الكتاب مثّقف مسكين على هامش الزمان، وقد تُرمى جميع الكرات على الشاطئ باتجاهه رغبة في إثارته أو في اختلاق حديث فضوليّ مع هذا الكائن القادم من كواكب القراءة. سيرمى بالكرة وسيسرع إليه أحد الشبان متظاهرا بطلب الصّفح وهو يغمز أصدقاءه وهم يراقبون بعين هازئة موقف حمّال الكتاب من كرة هوجاء. وقد يُرمى بكرة نسائيّة فتأتيه فاتنة بلباس البحر لتراه عن كثب وما يقرأ. يا ويله إن كان الكتاب بالعربية فسيكون كرجل فرّ من كهف الرقيم أو ككلبه الباسط ذراعيه بالوصيد.
أجلس على الشاطئ كجاسوس يقرأ العلامات التي تنثر هنا وهناك على الشاطئ، فتجعل منه مكانا ثقافيّا مصغّرا قابلا لأن يقرأ علاميّا. لن أكون حارسَ السلامة على البحر لتقتصر قراءتي على علامات المنع والجواز القليلة الموضوعة على كل شاطئ والتي قد تختصر في راية بيضاء وأخرى سوداء عادة ما لا يلتزم بها السباحون. سأجعل كلّ شيء علامات تقبل القراءة فأنا سأصطاد العلامات على هذا الشاطئ.
أقف بصنارة عيني على الشاطئ وأستحضر قول رولان بارت في أسطوريّاته: «أنا الآن أمام البحر: هو لا يحمل [لي ] بلا شكّ أيّة رسالة. لكن لو تعلمون كم يوجد على الشّاطئ من أدوات سيميائية: فههنا الرّايات والشّعارات الإشهارية والإشارات والملصقات الصغيرة والثياب وهي جميعا عندي بمثابة رسائل». أنا صيّاد لا تستهويني في هذا الخضمّ إلا الأجساد المتحرّرة أو المثقلة بالثياب؛ الثياب وما أدراك ما الثياب التي لا تلعب ههنا وظائفها الجمالية أو النفسيّة أو الإيديولوجية التقليدية التي لها على البرّ بل لها وهي على البحر وفي الصيف وظائف أخرى.
يتحدّث الناس وهم على شاطئ البحر في كرنفال السباحة كما يتحدّثون في كلّ مكان لكنّهم يتحدّثون أقلّ ممّا يتحدّثون في وهم في مكان آخر؛ إنّهم يتركون الفرصة لعيونهم لكي تسرح وتسبح ولسيقانهم الحافية أن تغازل رمل الشاطئ ولأجسادهم العارية أن تبتلّ وتجف بالتداول. العيون ترى بلا حجب والأذان تسمع بلا تصفية والجسم في شوق لحالة بحرية ليست في الأصل من طباعه فهو سيجرب الغوص هو الذي لا يطفو ولا يطير.
بما أنّ البحر مقابل ثقافي للبرّ فإنّ فيه علامات تقابله تظهر في مواسم السباحة، نراه في سلوك السابح فهو لا يمشي بل يسبح ولا يقف بل يطفو ولا يلبس بل ينزع ولا يخفي بل يكشف. غير أنّ من السابحين من يحافظ على سلوك البرّ في البحر فهو يمشي بدل أن يسبح لأنّ القاع في ذهنه أصل البحر؛ ويقف بدلا من أن يطفو لأنّه لا يصدّق أنّ الماء سيطفو به ـ إنّه لا يأمن شرّ الماء فيظل ثقيلا مثلما كان على الأرض ؛ ويظل لابسا فلا ينزع لأنّه يظلّ متشبّثا بأخلاق الأرض التي لا تميل إلى العري في الأماكن العامّة. يخفى الجسد تماما كما هو على اليابسة لأسباب عقديّة ولكن أيضا لتشبث بثقافة البرّ.
الشواطئ كالمدن أو الأحياء في المدن يمكن أن تعرف أحوال رفاهها أو فقرها من لباسِ أهلها وحتى من وجوههم. حتى لباس البحر يمكن أن يكون دليلا على طبقة أو على إيديولوجيا كما في أماكن أخرى. لا قيمة ههنا لرفعة القماش وللطافة النّسيج ولا لخروج طريقة النسج على المألوف لبيان طبقة اللابس الاجتماعية ؛هنا يصبح التخفّف من اللباس طولا وحصرا للمستور هو المعبّر عن الطبقة الاجتماعية وعن الحرّية التي ليست بالضرورة ذات منابع إيديولوجية. ليست السباحة في البحر ثقافة نسائية في الثقافة العربية وليست السباحة في البحر في التاريخ القديم عادة عامّة. لذلك فإنّ ثقافة السباحة ولا سيّما المشتركة ثقافة وافدة ليست متاحة إلاّ لمن فصل الثقافي في السباحة عن الأخلاقي والإيديولوجي.
أرى على الأجساد لباسين: لباس البحر الكلاسيكي : البيكيني والمايوه ولباسا ساترا يكسو الجسد من الرأس إلى القدمين هذا اللباس حادث بالنسبة إلى الأوّل وليس العكس لأنّه لباس يراد به أن يحجب في مكان يراد له أن يكشف. اللباس الموحي بالتديّن شيء والموحي بالمحافظة شيء آخر. الجمع بين الالتزام بالمبادئ الأخلاقية وحبّ السباحة البحرية يخلع على اللباس الذي لا يمنع الماء عن جسد عطش رغم تستره لنشوة سباحة علنية. حين يبتلّ الثوب على الجسد يعيش هذا الجسد علاقة أخرى مع الماء غير تلك التي يعرفها في الغسل أو الوضوء: السباحة على مرأى ومسمع من الناس مع المحافظة على الستر.
إنّ قراءة البيكيني أو ثوب السباحة النسائي علاميّا أمر يظلّ مربكا. فهو مربك لغويّا لأنّه إلى اليوم لا يوجد لهذا اللباس اسم عربيّ حتّى لكأنّ اللغة ترفض أن تفرد له اسما عربيّا؛ لكن يقلّ شأن هذا الأمر حين نعلم أنّ معجم اللّباس العربي الحديث والمعاصر هو في عمومه فقير؛ إذ يلبس النّاس ثيابا أجنبية بأسماء أجنبية في الغالب ولا أحد يتبادر إلى ذهنه أن يناقش أصالة التسمية أو انبتاتها. يتألف البيكيني من قطعتين تسمّي العربية القطعة العليا الصديريّة أو حاصرة الثديين أو مشدّ الصدر وهذه تسميات يرشح فيها معنى الحصر والقصر وليس كما في التسمية الفرنسية التي تجعل اللباس دعامة وشدّا لما يخفي. وتسمّى القطعة التحتية بالسراويل القصيرة أو السراويل النسائية التحتانية وهي تسميات ثقيلة مرجعيتها قديمة استعيرت من غير مراعاة لخصوصية اللباس البحرية. وما يطرحه اسم البيكيني يطرحه اسم المايوه. والحديث عن البيكيني أو المايوه مربك ثقافيّا لأنّه في اللحظة التي يحاكي فيها ثقافة التحرّر الجسدي يصيب الجسد اللابس بسلوك لا يتناسب ضرورة مع التحرّر المطلوب. ثقافيّا ينقل الجسد العربي اللابس للبيكيني تمزّقا بين ثقافة التحرّر والخوف من الرمي بالتّحلّل أو تمزّقا بين الثقة في البحر الذي يطلب لهذا الجسد أن يعرى وقلة الثقة من عين ذكورية تصطاد جمالا كان مخفيّا. هذا المكان هو المكان الوحيد الذي يباح فيه ثقافيّا وباسم ضرورة إنجاز نشاط السباحة أن يلبس ما يلبس. الثقافي في لباس البحر المخفّف يسيطر على العقديّ والأخلاقي ولكنّه يسيطر عليه بحرج كبير ثقافيّا فالعري ههنا ضرورة وليس تبرّجا أو رغبة في إظهار الفتنة التي أوصينا في ثقافتنا المحافظة بإخفائها.
لقد اختارت العين التي تقرأ العلامات أن تتوقف عند اللباس بما هو علامة على سلوك في مكان موسميّ يهاجر إليه الجسد جماعيّا لينسى البرّ القاتل بعلامات السجن والانكفاء. كانت العين ستقول أكثر لو أنّها توقفت عند نشاط الأكل على الشاطئ أو الاسترخاء على رماله أو حتّى عند الألعاب المشتركة على الشاطئ وهي جميعا نصوص حروفها علامات مرئية وقارئها صيّاد كثرت أسماكه وليس له إلاّ صنارة وحيدة هي عينه.

٭ أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية

شاطئ العلامات

توفيق قريرة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول دينا:

    العين لا تفكر .
    السمع والبصر والاحساس هي كلها مدخلات للانسان ليتكيف مع بيئته باستخدام عقله ونمط حياة الاسرة .
    لا القران وما بثه على امتداد حياتنا سواء كانت كلمات او جمل او سور قرآنيه فان ذلك كان بمثابة مدرس خاص للانسان المتحرر عقليا (اي انه منصف وبسيط), اتعلم كيف يكون الانسان بكل مكوناته الملموسه كالحواس والعقل والحياديه والمعرفه بهذه الحياة , والدفينه بما يحمله من اسرار الانسان وروحه وذاته التي سقلته بفعل الزمن الذي خاضه بمسيرة حياته و كذلك طبيعة ذلك الانسان وحقيقته الانسانيه , ان يتوفر لهذا الانسان مدرس خاص موثوق حقيقي عالمي مشبع بالحكم والانصاف والتنوع والاسرار وادوات تمكن طلابه الحقيقيون من التميز بين البشر سواء عن طريق الشم وتتبع الاثر او بالشم الروحي وتتبع الاشرار في حالات يحددها الخالق الله الذي اظن بانك لم تتعمق بالتحقق من مدار الوجود المتعلق بوجود المولى لك ولا ابالي بتحققك ام لا ولا بصدقك او مجرد كلمات تكتبونها لمجاراة سوق العمل..
    مدرسنا القران من الله, وملهمنا الله , ومحينا الله , ومميتنا هو الله , ومحاسبنا هو الله , الله هو المالك الحقيقي لكل السماء والارض والانسان لانه من خلقنا اي صنعنا فخر الصناعات صناعة الله لم يستطع اي طرف ان يتمكن منها , فمن يتحدى الله فانه يستطيع القتل والتشابه مع قدرت الله! ولاكنه شبه وليس حقيقي//
    اصنع يا متحدي لله كون وعالم واسع وانسان اخر لم تسرق جيناته من انسان لتخدع اخرين بانك انتجت انسان ,, بل اصنع من العدم ولا تسرق بذور الله لتنسبها لنفسك ,, فلتسرق حب السماء واصنع عالم حقيقي بما يفوق او يعادل حجم الارض لنصدق بانك متحدي يمكنه الاستمرار بالكذب او الخداع او الصناعه..
    ما يميزك انت عن زميلك الذي يكتب بنفس الموقع او غيره ؟؟
    انتم متشابهون متطابقون لان اعضاءكم واحده وجسمكم انسان وتمتلكون الحواس الخمس او الست ولديكم معارف وعلوم من مصدر واحد , اانتم واحد!!؟؟
    ام ان لكل واحدا منكم ما يفرقه عن الاخر ويبدء بالنفس المختلفه من داخلك حيث تشتاق وتحب امور لا يحبها هو , وترتاح لنظام لا يفضله هو , ويميز افكارك الحديثه بشكل يناقض ويعاكس افكار زميلك !!
    اتعلم لما !!!!
    اسأل النفس وتعلم عن اسرار الروح الطيبه الخيره والنفس والروح الشريرة او التي تحب الافتراء على الاخرين وهي وظيفته التي يحبها ويتقنها ويأكل منها ليشعر ببعض السعادة ..
    الحيوان ارواحهم )(

  2. يقول محمد العنابي الجزائر:

    شكرا على هذه الإنسيابية غير العادية التي يمكن ان تفجر ينابيع القلوب سقيا و ريا أما العيون فهي سلح دمار شامل ثلاثي الأبعاد نووي بيولوحي و كيميائي يزلقومك بأعينهم شكرا أستاذ.

إشترك في قائمتنا البريدية