عند انتصاف نهار الحد الماضي الموافق الخامس والعشرين من يناير، كنت أطالع الصحف على مقهى «الامفتريون» القديم على بعد أمتار من قصر «الاتحادية» الجمهوري في القاهرة، التي بدت لي كـ»مدينة أشباح»، إذ خلا شارع الميرغي وميدان روكسي من المارة، فيما وقفت سيارة شرطة وعدد من رجال الأمن «السريين» بالقرب من المدخل الرئيسي للقصر.
وباستثناء أحاديث الجالسين على المقهى، التي لم يكن لها علاقة بذكرى الثورة، وأصوات اللاسلكي الصادرة عن شخص يفترض أنه «شرطي سري» عند ناصية شارع «الثورة»، كان الإنصات الى صمت المدينة التي ملأت العالم ضجيجا، مبعثا لشجن وذكريات لم يحن بعد موعد فتح ملفاتها. وكان لافتا ان أجهزة الأمن قررت عدم اغلاق المنطقـــة المحيطة بالقصر، رغم انها كانت اغلقت ميدان التحرير امام المارة والسيارات منذ الليلة السابقة، الى جانب الوجود الامني الكثيف في عدد من الميادين، ومنها ميدان طلعت حرب الذي قتلت فيه شيماء الصباغ القيادية في التحالف الشعبي يوم السبت، ما ألقى بظلال كثيفة من الحزن والاحباط على ذكرى الثورة قبل ان يحل موعدها. لقد تكاتفت عوامل عديدة ضد الذكرى الرابعة للثورة، ما جعلها تمر بدون ان تنال ما تستحق من تأمل وتفكر أو حتى احتفال، بالنظر الى ما كان لها من أثر كوني لا يختلف عليه، رغم الصراعات المريرة التي كانت ومازالت تخيم على المشهد الذي خلقته. وعلى الرغم من الخطاب المرتجل الذي ألقاه الرئيس عبد الفتاح السيسي في إحياء الذكرى، مشددا على أهمية تحقيق أهداف الثورة، إلا أن أبواق النظام الرسمية وغير الرسمية كانت تعزف لحنا مختلفا، تراوح بين اعتبارها «مؤامرة وليس ثورة»، وحتى الذين أقروا بانها ثورة، اختزلوها في أنها «الثورة التي صوبت مسارها ثورة الثلاثين من يونيو»، ناهيك عن الجحود الذي ناله شهداء الثورة الذين ضحوا بحياتهم، فاذا بهم يتحولون إلى «ضحايا مؤامرة»، بينما حصد آخرون المكاسب والمناصب والمزايا. وبالنظر الى فترة الحداد الرسمية بسبب وفاة الملك عبدالله، وأن الاحد يوم تغلق فيه معظم المحال التجارية اصلا، كما ان الدولة اعلنته إجازة رسمية احتفاء بـ»عيد الشرطة» و»ذكرى الثورة»، التزمت الأغلبية الساحقة من المصريين بيوتها.
في وقت لاحق انتشرت الأنباء عما أصبح يعرف بـ»معركة المطرية» بين قوات الأمن ومتظاهري «الإخوان» التي سقط فيها نحو عشرين قتيلا، سماعيا وليس عبر وسائل الإعلام الرسمية التي بدت وكأنها تنفذ «اتفاقا ضمنيا» على التعتيم الجزئي على اخبار الاشتباكات او الانفجارات، بهدف عدم إثارة القلق أو الذعر بين الناس. وسرعان ما قامت قوات الشرطة بإغلاق كافة الطرق المؤدية الى ميدان المطرية، وحتى اولئك الذين نجحوا في المرور، لم يتمكنوا من تغطية الاحداث بسبب القيود التي فرضت عليهم. كما انتشرت الانباء عن عشرات القنابل التي إما انفجرت او تم العثور عليها في عدد من المحافظات، الى جانب حرق عدة قطارات ما اوقف حركة النقل، ناهيك عن حرق ترام الاسكندرية التاريخي. وهكذا اكتست ذكرى الثورة بالدم والحزن والغموض بشأن ما سيفضي اليه هذا المشهد المأساوي.
على المستوى الشخصي كان الشيء الأكثر إيلاما هو «ازدهار ثقافة القتل» من جانب كافة الاطراف، سواء من جهة مقتل متظاهرين بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، او انتشار الاعمال الارهابية التي لم تعد تستثني حتى اكثر طبقات الشعب فقرا مثل ركاب القطارات ومترو الانفاق.
لقد وقع طرفا الصراع، النظام والاخوان، في دائرة جهنمية من العنف والعنف المضاد، تبدو بلانهاية مع افتقارهما معا إلى أي رؤية او مشروع سياسي واضح قابل للنقاش. أما الغالبية غير المسيسة من ابناء الشعب الذين هم الاصحاب الحقيقيون لثورة يناير، فيشعرون بالخذلان وخيبة الأمل من كل شيء، بعد ان دفعوا الثمن باهظا من دماء الشهداء والمعاناة الأمنية والاقتصادية طوال السنوات الاربع الماضية بدون مقابل يذكر.
والغريب ان الطرفين يصران على مواصلة الحفر، رغم ادراكهما بل وتأكدهما انهما واقعان في حفرة، بل أن بعض أبواق النظام لا تتورع عن تحريض الأهالي على قتل الإخوان، فيما لا يتورع محسوبون على الجماعة عن استهداف من كانوا يوما السند الحقيقي لهم، في مشهد مشبع بالكراهية. أما النتيجة فهي أن النظام يفشل عمليا في القضاء على العنف، وإن تحسنت الأوضاع الأمنية نسبيا، وفي المقابل تحول «الإخوان» الى «مشكلة أمنية» بالنسبة للكثيرين، ما يعني نهايتهم، حتى إشعار آخر، كقوة سياسية.
إنها لمأساة حقيقية ان تحل الذكرى الرابعة للثورة لتجد مبارك «بريئا» من القتل ومن الفساد، ونجليه طليقين، فيما يقبع ثوار شرفاء في المعتقلات، وتقتل متظاهرة يعترف النظام نفسه بأنها سلمية في عز الظهر، بينما تعود الوجوه القبيحة إياها في الإعلام والاقتصاد والسياسة من مخابئها لتتصدر الساحة. وعلى الطريقة المصرية، يسخر كثيرون في منطقة «الزاوية الحمراء» الشعبية الشهيرة في القاهرة من أن أحد رجال مبارك في البرلمان الذين أدينوا وسجنوا بعد الثورة بدأ في تعليق اللافتات الانتخابية استعدادا لخوض الانتخابات. وللحديث بقية.
٭ كاتب مصري من اسرة «القدس العربي»
خالد الشامي
شكرا أستاذ خالد على هذا المقال المتوازن كالعاده
لكن أحوال مصر أصبحت أسوأ بكثير من أيام مبارك
والفضل طبعا للسيسي وعصابته من الأشرار والمنتفعين
اليوم مصر تغرق بظلام دامس حزين ولا يوجد ضوء بنهاية النفق
ولا حول ولا قوة الا بالله
مقال رائع من الواقع ويشخص المرض بدقة بعيدا عن التطبيل لهذا الطرف او ذاك.