في كتابه المعنون «شاي وخبز» الصادر عن دار سطور للنشر والتوزيع في مطلع عام 2017 يؤكد مرة أخرى الروائي العراقي خضير الزيدي على أنه مُغامر سردي لا يستكين عند حدود جغرافية الحكي الروائي، ما إن يجد هذه الجغرافيا عاجزة عن أن تمنحه ما يطمح في الوصول إليه من مساحات جديدة، يريد لها أن تكون قادرة على استيعاب صور حافلة بالغرابة والدهشة والمتعة يزخر بها الواقع، رغم أن سماء السرد الروائي شاسعة بما تحمله خزانتها التقنية من آليات متنوعة في البوح، تتيح له أن يطلق العنان لخياله في أن يبتكر عوالمه السردية، إلاّ إننا وجدناه بين فترة وأخرى يحلّق بعيدا عنها، فأصدر مجموعة كُتب غرّد فيها خارج حدودها «سلّة مهملات، أمكنة تدعى نحن، الباب الشرقي، ابن شارع، سيد أسود باذنجان، تمر ولبن».
عتبة العنوان
يمتلك الزيدي مهارة في اختيار عناوين كتبه بالشكل الذي تتحقق عملية تواصل وتفاعل مباشرة ما بين القارئ والكِتاب، في إطار ما يتضمنه من محتوى، وهو بذلك يحرص على أن يكون العنوان متآلفا ومنسجما مع المحتوى، من هنا تكون اختياراته مختزلة وبسيطة، بما يريده لها أن تكون إشارات موجِّهة لما يتضمنه الإصدار من أفكار وموضوعات لا تكسر توقّع القارئ، ويأتي عنوان هذا الإصدار «شاي وخبز» وفق هذا المنظور، فالشاي، كما يعتقد العراقيون يعمل على»تبريد النفوس الساخنة»، ويشكل في حياتهم طقسا يوميا قبل الأكل وبعد الاكل، سواء في ساعات الفرح أو الحزن، ولهذا يقول الزيدي بهذا الخصوص، «جاء العنوان بصيغة (شاي وخبز) ليتقدم الشاي ببسالة على بركة الخبز».
خارج التجنيس
الكتابة هنا تنهض على التلصص وفن الأصغاء لحكايات الآخرين، ليقف المؤلف في هذا الإصدار في المسار السردي الأنثربولوجي «بعيدا عن مكتشفات كلود ليفي شتراوس أو مقاربات الفرنسي المعاصر مارك أوجيه».
من وجهة نظره يجد الزيدي أن ما يشكله «نظام الحكايات الشعبية من أنساق لتمثلات البيئة ومحيطها العراقي في تقاليدها وأنماطها وثقافتها وحفرياتها، ترسيخا لأنماط السلوكيات داخل وخارج البيت، وحكايات الأزياء وطعامهم»، على ذلك أسس الزيدي مملكته الفنية الخاصة، ليعود إليها بعد كل رحلة يقوم بها في عالم السرد الروائي، ليمارس فيها حريته الذاتية عبر عالم الكتابة بعيدا عن الأنماط السردية السائدة، وكأنه يسترد أنفاسه من جديد في مملكته الخاصة، بعد أن احتبست أثناء عملية الكتابة الروائية، بذلك تكون هذه المغامرات الكتابية أشبه بعملية هروب طائر حر من القفص إلى فوضى الحياة، بأصواتها وألوانها وحكاياتها المتشعبة من بعد أن فرض الكاتب على نفسه عزلة اختيارية أثناء عملية الكتابة الروائية. يقول المؤلف عن هذا النمط من السرد «كتابة قائمة على فضيلة التلصص لحركة أفراد الجغرافية والتاريخ المتلبسين».
في كثير من التقاطاته يبدو الزيدي وهو يمارس عملية تلصص على صور الحياة ومظاهرها المتنوعة، وفعل التلصص تعلمه من الطفولة، كما يشير إلى ذلك ليعود بعدها إلى البيت ليسجل ما شاهده بطريقة منتقاة. من حيث التجنيس يتحرك فعل الكتابة هنا في مساحة حرة لا يخضع فيها للوقوف أو التراجع أمام حواجز فنية تضعها أجناس الكتابة السردية، بل يتنقل في ما بينها دون عوائق، وهذا يعود إلى انه يتقن مفردات لغاتها المختلفة، وكان من نتيجة ذلك أن أصبح بين أيدينا إصدار يجمع في أسلوبه بين الكتابة الروائية والكتابة السوسيولوجية. بالإضافة إلى المقدمة يضم أربعة فصول ولكل فصل منها عنوان فرعي:
1- عراقيون سوابق
2- في البيت
3- الأزياء
4- في الطعام
في كل فصل من هذه الفصول يسرد المؤلف حكايات تتعلق بحوادث وشخصيات واقعية تتحدث عن موضوعات مختلفة لها صلة بالعنوان الفرعي للفصل، على سبيل المثال ما جاء في الفصل الثاني:
1- عراقيون في المسكن.
2- مخطط البيت والمدينة.
حكاية: دليل البيت، حكاية: عباس الحلاق، حكاية: صورة ثمانينية.
ثانيا: في عمارة البيت.
حكاية: الدار للبيع، حكاية معلم الشبابيك، حكاية: الرَّديون.
ثالثا: غرفة المعيشة.
حكاية: عادل موشان .
رابعا: الحمّام.. رطوبة جسد، حكاية: أعمى البيت.
سرديّة سوسيولوجية
في هذا المنجز السردي يسعى الكاتب إلى أن يفككك تركيبة الذات العراقية بطبقاتها المختلفة اجتماعيا وسياسيا، في محاولة منه لمنحها اسما، وصولا إلى فرزها عن بعضها، فهناك ذات مَلَكيَّة وذات جمهورية وذات ناجية، مغتربين/مهاجرين/ معاقبين/أسرى عائدين. والعراقي هنا كما يشير الزيدي إلى ذلك ليس المقصود به العربي فقط، إنما يشمل ذلك كل هويّاته المتعددة، فالذات العراقية سردية كبرى، أكبر من حكاية، كما يقول عنها في الفصل الأول الذي حمل عنوانه الرئيس «عراقيون سوابق» ثم تبعه عنوان فرعي «إدراك الذات ضمن سياق الأنسنة». ويضيف الزيدي حول هذا الموضوع: «إنها ذات رزحت تحت نير حقب الجمهورية في أطوارها الثلاثة.. وفي كل طور تسعى جاهدة لتغيير شكل الدار من دون المساس الجوهري في شكل البيت بكائناته من الداخل.. أسميتها ذات الجمهورية تميزا عن ذوات ساعدت في تبلور حقب غائمة أخرى».
يتوغل الزيدي في منطقة سردية سوسيولوجية تبدو وكأنها تقف على مسافة من الكتابة الروائية، إلاّ إنها تشتبك معها في كثير من المشاهد الحياتية للذات العراقية التي يستعيدها المؤلف ويعيد بناءها بقصد إعادة تفكيكها. «أول مرة أسمع بكلمة الجمهورية عندما تعرّفت على واحدة سوابق في بيوت الدعارة الرسمية تسمى جمهورية، وكانت شهيرة بلسانها الباشط والسباب المستحدث والفشار القادح الذي ترتجف له الأبدان.. قم أبو الكذا.. ابن الكذا.. أمك وأختك الكذا بنت الكذا.. والزبون فوقها يرتجف من لسانها وعلو صوتها، جمهورية تشبه جمهوريتنا هذه بالضبط».
يأتي هذا الكتاب في صلب المشغل السردي للروائي خضير الزيدي، ليدخل في إطار سعيه الحثيث لفهم الذات العراقية»كان عباس الحلاق يسكن بيتا صغيرا جدا يتكون من غرفة واحدة ومطبخ صغير وله خمسة أولاد وبنتان، وكلما احتاج إلى ساعة وصل وجماع مع زوجته، يقوم بإخراج أطفاله إلى الشارع بحجة اللعب الجماعي، خاصة عند ساعة القيلولة، حتى اعتاد أهل الزقاق مشاهدة أولاد وبنات عباس افندي بهذا المنظر في الظهيرة، وقد اكتشفوا سر خروج الأطفال ظهرا، ما حدا بنسوة الزقاق تحريض رجالهن بعباس وقوته الجنسية التي أصبحت وبالا على أهل الحي».
هذا المسعى لتفكيك الذات جاء نتيجة مراقبة يومية لتفاصيل صغيرة في مسرودات الحياة اليومية في أوجهها المختلفة، وتكاد أن تكون بمثابة كشف حساب يحتوي على مفرادات أفرزتها حقبة النظام الملكي والجمهوري والمابعد «كان كاظم عريبي موظفا فقيرا يعيش في أحياء الناصرية طحنه الحصار طحنا مميتا، وقد فاتحه أحد دعاة السلفية للانضمام لهم مقابل 200 دولار شهريا، ومقابل أن يرفع دشداشته فوق كعبي القدمين، وفعل كما ينبغي منه أن يفعل وأطال اللحية وحلق الشارب وكوى الجبهة بحجارة ساخنة، لكن المشكلة حصلت عندما تأخر التموين المالي الشهري فذهب لهم مهددا بإعادة الدشداشة إلى سابق عهدها ليجعلها ما تحت القدم إن لم يسلموه المبلغ فورا». في هذه المراقبة كانت عين الراوي تدقق مليا في متغيرات سايكولوجية عميقة لحقت بالشخصية العراقية، بعد أن تعرضت خلال القرن العشرين، وما تلاه من أعوام إلى محن وكوارث، تركت بالنتيجة آثارا واضحة عليه، وفي هذا السياق يطرح الزيدي أسئلة كبيرة نحتاج إلى إعادة طرحها والإجابة عليها:
هل كانت الذات العراقية ذات قيمة كبرى؟
هل هي ذات ميتة؟
هل هي ذات حية؟
فرادة الكتاب تكمن في الشكل الفني الذي اختاره الزيدي لطرح أفكاره وهو يرصد بشكل يومي تحولات المزاج والسلوك والقيم، من خلال رصده للتحولات في الزي والملبس ومحل السكن، في بيئات مختلفة توزعت ما بين الحياة في البيت والزقاق والشارع والمدرسة والسوق، وليمتد رصده إلى الحياة العسكرية التي أخذت من الذات العراقية الكثير من أحلامها، بعد أن التصقت بها جيلا بعد جيل.
كتابة اجتراحية
إن خاصية البناء السردي في هذا الإصدار جاءت ضمن «مرويات حكائية عراقية سرية، لم يلتفت إليها المدون العراقي السادر في هواية الأدب اللاأدبي للواقع المزري في بقعة الجمهوريات الخمس الثورية».
بذلك يأتي جهد الكاتب في إطار البحث والتقصي عن المؤثرات التي تركت أثرا عميقا على الذات العراقية في الزي والمأكل والعمارة، وغيرها من الموجهات في السلوكيات العامة في فرحها وحزنها وسكونها داخل روحها المتمردة والخانعة.
نختتم استعراضنا لما جاء في هذا الإصدار من محتوى وشكل فني بفقرة جاءت على لسان الكاتب تعليقا على هذا النمط من الكتابة الاجتراحية السوسيو اجتماعية: «هذا الكتاب خاص جدا عن الذات في لحظتها العراقية الغائمة وخلفيات المشاهد المؤثرة، وربما قد أخفقت هنا أو هناك في فهم تلك الخاصية، في مطبخ الذات النهمة، أو في زيها الداخلي أو الخارجي، أو هيكلية عمارة سكنها.. لكن يشفع لي إني دوّنت.. كم فقدنا بالشفاهية في تاريخنا الدامي؟ وذاتنا العراقية مصابة بعطب النسيان المقيت، كم أساءت الشفاهية لتاريخنا اليومي من مبالغات وأكاذيب وديماغوجية قاتلة؟ كم هي المحاولات الجادة في الابتعاد عن تاريخ السلطة ودهاليزها ومحاولاتها المرعبة في تزييف التاريخ؟».
٭ كاتب عراقي
مروان ياسين الدليمي