تعتبر شخصية شرلوك هولمز من الأكثر ارتباطا بالشخصية والتراث البريطانيين والأكثر ظهورا في تاريخ السينما والتلفزيون، فقد مثل دور المحقق العبقري أكثر من سبعين ممثلا وبعضهم من أشهر ممثلي عصرهم مثل بيتر أوتول وكرستوفر بلمر وكان ذلك في أكثر من مئتي فلم، ناهيك عن آلاف العروض المسرحية والتمثيليات الإذاعية وحتى ألعاب الفيديو وتطبيقات أجهزة الهاتف المحمولة. وتخيل الكثيرون من المعجبين شخصية هولمز وكأنه شخصية حقيقية وازدادت المناقشات حول حياته وماضيه وبحث الكثيرون عن منزله استنادا إلى العنوان المذكور في قصصه، ولكنهم عادوا خالي الوفاض لاكتشافهم أنه عنوان خيالي. وكتب الكثيرون قصصا عنه بعد وفاة المؤلف الأصلي فاقت ما كتبه هو نفسه. وهناك جمعيات كثيرة في جميع أنحاء العالم لهولمز وأكبرها في اليابان حيث تضم أكثر من ثمانين ألفا في عضويتها.
ولكن من هو هولمز؟ إنه شخصية خيالية أسست مفهوم المحقق الخاص private detective في الأدب البوليسي وهو نوع من الأدب يحتل مكانة مرموقة من حيث الشعبية على الرغم من أنه لا يعتبر من أنواع الأدب الراقي. وقد اخترع الشخصية الطبيب البريطاني آرثر كونان دويل (1859 ـ 1930) بعد محاولات أدبية متواضعة ولكن شخصية هولمز حولته إلى أشهر كاتب في بريطانيا في عهده مما شجعه على كتابة أنواع أخرى من الأدب بغزارة. وقد كتب آرثر كونان دويل 56 قصة قصيرة وأربع روايات عن هولمز.
ظهرت شخصية هولمز إلى الوجود للمرة الأولى عام 1887 عندما أخذت مجلة أدبية بريطانية بنشر أول قصة عن المحقق الخاص، على شكل سلسلة. وقد كلفت المجلة رساما مقتدرا لرسم صور تصاحب القصص. وهنا بدأت شهرة الشخصية سريعا ومعها شهرة الكاتب والمجلة نفسها وقد استمر المؤلف في النشر حتى عام 1927.
وأكثر ما اشتهر في شخصية هولمز كانت طريقة عمله والتي اعتمدت على ما سمي بالأسلوب العلمي في حل الجرائم، وكان قاسيا لا يعرف العاطفة أو الحزن أو أي نوع من المشاعر وحتى تجاه أجمل الفتيات، بل أنه يبدي بعض الاحتقار تجاههن. ويمتاز بثقته الكبيرة بنفسه وبأدبه الجم ولكن المؤلف الأصلي كان يغير قليلا في صفاته أحيانا حسب القصة، فهو هاو للملاكمة في إحدى القصص أو ماهر في استعمال السيف أو المسدس في أخرى ولكن العنف لم يكن أبدا من سماته بشكل عام وسلاحه الأساسي كان دائما ذكاءه وملاحظته الدقيقة. وشملت هذه التغييرات الطفيفة مجالات أخرى، فهو مثلا يتكلم الفرنسية ببراعة في إحدى القصص ولكنه يجهلها في قصة أخرى.
وقد تمسك جميع من تناول شخصية هولمز بمظهره المميز، فهو طويل القامة، سريع الحركة ويرتدي دائما القبعة نفسها والمعطف ويدخن الغليون المعقوف. ومع ذلك فإنه ليس شخصية أصلية جدا، فالمحقق ذو الأسلوب العلمي ودقة الملاحظة كان قبل ذلك من صفات الشخصية الخيالية مفتش الشرطة الفرنسي الشهير أوغوست دوبن والذي كان من ثمار مخيلة الكاتب الأمريكي الكبير إدغار آلان بو (1809 ـ 1849) وظهر إلى الوجود للمرة الأولى عام 1841. ولكن دوبن كان محقق شرطة بينما كان هولمز محققا خاصا، أي مستقلا، ويقدم خدماته لمن يستعين به مقابل أجر، وهو أول محقق خاص في تاريخ الأدب وتكررت هذه المهنة كثيرا لاحقا بالنسبة لشخصيات خيالية أخرى. واقتبس مؤلف قصص هولمز بعض الصفات الأخرى من شخصية خيالية فرنسية أخرى وكانت ذات شعبية في ذلك الوقت. وأما صفات صرامة الشخصية وانعدام إظهار أية عواطف تجاه الآخرين أو حزن وعدم وجود صديق واحد له إلى درجة أنه كان يتفاخر بوحدته وعدم حاجته للآخرين. وكانت هذه الصفات متداولة في أوساط المجتمع البريطاني الأرستقراطي للرجل البريطاني المثالي في ذلك الوقت، ولذلك فقد مثل هولمز الشخصية المتميزة والمثالية حسب مفاهيم العصر. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار النجاح الهائل لقصص هولمز فإن المرء يستطيع أن يستنتج مدى تقبل القارئ البريطاني لهذه الصفات الشخصية. ولكن المؤلف الأصلي لم يتطرق إلى الصفات الأخرى لمظهر هولمز. ولذلك فإن هذه الصفات كان منبعها مصادر أخرى، فقد أتى المعطف والقبعة المميزين من الرسوم التي رسمها الرسام البريطاني في المجلة التي نشرت قصص هولمز. وأما الغليون المعقوف فقد كان من أفكار أول من أشتهر بتمثيل دور هولمز، وهو الممثل الأمريكي وليام جيليت (1853 ـ 1937) والذي مثل الشخصية أكثر من ألف مرة على المسرح في جميع البلدان الناطقة باللغة الإنكليزية. وقد أختار وليام جيليت الغليون المعقوف لأنه اعتقد أن الغليون العادي سيعيق الجمهور من رؤية وجهه جيدا وهو على خشبة المسرح وأعاد تمثيل الدور في أول فلم عن هولمز، وكان صامتا. وأضاف وليام صفة الأدب الجم واللهجة الإنكليزية الراقية للشخصية والتي لصقت بها حتى الآن.
لقد استمر الإعلام الغربي في إنتاج القصص والأفلام عن هولمز وسخره لخدمة أهداف مختلفة، كما ألصق مقولات بالشخصية أصبحت من أهم ما يتذكره الكثيرون عنها، بينما لم تذكرها على الإطلاق القصص الأصلية عن هذه الشخصية. وانحرفت بعض الأفلام بشكل جذري عن الشخصية، فالممثل الشهير روبرت داوني جونيور في فيلميه الأخيرين قدم شخصية لا تمت بصلة إلى هولمز عن طريق إضفاء جانب عنيف مبالغ به جدا، بل إننا من الممكن أن نستنتج إنه قدم شخصية جديدة تماما. ولا تعرف شخصية هولمز، الزمن فبعض الأفلام والمسلسلات التلفزيونية عن هذه الشخصية تدور أحداثها في زمننا الحاضر.
ولا يمكن تجاهل المتناقضات عن هولمز، فقد كان هو الذي يتباهى بحبه للوحدة وعدم حاجته للآخرين ولكننا نجده يسكن مع صديقه العزيز الدكتور جون واتسن والذي كانت أغلبية القصص بلسانه. ونجد هولمز يعبر عن احتقاره للأماكن التي يجتمع فيها الناس لتناول المخدرات ولكنه في الوقت نفسه كان يتناول المورفين وأحيانا الكوكايين، والذين كان تناولهما مسموحا في بريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر.
لقد حاول المؤلف الأصلي أن يجعل شخصية هولمز مميزة ومثيرة. ومن الطرق التي استعملها كانت اختيار اسم فريد لها وهو هولمز، وكان قد اقتبسه من اسم عائلة قديم في إنكلترا. ومما ساعد على شهرة قصص هولمز هو كون الشخصية بريطانية وتبناها الإعلام البريطاني والذي يعد من أقوى أجهزة الإعلام في العالم، فأهم الشخصيات الخيالية في الثقافة الشعبية العالمية هي من مصادر بريطانية مثل جيمس بوند وفرانكنشتاين ودراكيولا وهركيول بوارو وهاري بوتر. ونستطيع القول إن الإعلام البريطاني أسهم بشكل فعال في تحويل شخصيات بريطانية حقيقية إلى أسماء عملاقة في الثقافة العالمية مثل وليام شكسبير وإسحق نيوتن وستيفن هوكنغ وآخرين. فلو أن هؤلاء ظهروا في دول أخرى لكان احتمال اشتهارهم أضعف بكثير. ولا تقل بقية الشعوب غزارة عن الشعب البريطاني في مجال الخيال ولكنها لا تملك ماكينة إعلامية بكفاءة الإعلام البريطاني.
كاتب عراقي
زيد خلدون جميل
استعراض ممتع من الاستاذ الكاتب لهذه الشخصية الملهمة عبر قرن من الزمان !
.
بل ان شخصيتي هيركيول بوارو و مس ماربل في روايات الرائعة اغاثا كريستي ، و بتصوري هو استلهاماً لتلك الشخصية.
.
كنت اتمنى ان يشير الكاتب الى آخر مسلسلين حول هذه الشخصية ، الأول البريطاني من تمثيل Benedict Cumberbatch و عرضت منها 15 حلقة على مدى 4 مواسم و لا اعلم ان كان هناك المزيد ، و حاز المسلسل على تقييم عالي جداً ، وهو يطرح فكرة جديدة من حيث انه يقدم شيرلوك هولمز كشخصية معاصرة ، و بأسلوب شديد التعقيد و بأحداث متسارعة يحتاج المشاهد الى تركيز عالي جداً للحاق بإيقاع المسلسل، و يعتمد بدرجة كبيرة على نفس احداث الروايات الاصلية و شخصياتها و لكن بإعادة احياءها في زماننا هذا.
.
المسلسل الثاني هو امريكي و بعنوان Elementary و من تمثيل الممثل البريطاني ، Jonny Lee Miller و الممثلة الامريكية Lucy Liu (من اصل صيني ) التي اشتهرت كـإحدى ملائكة تشارلي ، بنفس الطريقة يعرض المسلسل شخصية شيرلوك ، في الوقت الراهن و يستخدم التكنولوجيا الحديثة بشدة ، و الدور فيه كوميديا اكثر، و يبدو شيرلوك اكثر تحرراً ، لكن الجديد تماماً ، ان الدكتور جون واطسن هذه المرة ، امرأة و ليس رجل ! و تقوم Lucy Liu بأداء دوره ، المسلسل حقق و لا يزال يحقق نجاحاً جيداً منذ ان بدأ عرضه ، و عرضت منه 132 حلقة على مدى 5 مواسم ، و بإنتظار الموسم السادس!
.
انظر كيف نجح الادب الغربي في خلق تلك الشخصية النموذجية او شبه ذلك. لان الجمهور محتاج لمثل تلك الشخصية التي تمثل طموحاته والمثل التي يثوق الي اكتسابها نظرا لسعي اي شخص في السمو الي المكانة التي يرتضيها ا في المجتمع. في المقابل اتساءل لماذا لم ينجح الادب الحديث في البلدان العربية في خلق شخصية نموذجية تجسد ابهي ما نفتخر به ،نحن كعرب ومسلمين، من قيم جميلة ونبيلة. ان اكثر ما يقدمه لنا الادب والسينما العربيين ، انما هي نماذج عن اشخاص يجمعون خليطا من القيم المستهجنة، بل في غالب الاحيان ا خصال غاية في الخسة والضحالة. ولذلك لا غرو ان يقتقد شبابنا النمو ذج الملهم لمسيرتهم الحياتية في الزمن المعاصر. اللهم اذا رجعوا الي تلك النماذج التاريخية في العصر الزاهي للاسلام. ولكن للاسف الشديد، تبقي الحاجة الي نمادج متماهية مع اكراهات العصر الحديث. الشيء الذي نفتقده بكل مرارة، مع الاسف الشديد.