لم يعد مقبولا التستر على حالة الانكار المتجذرة في الخطاب السياسي العربي، التي تقف وراء مجموع كوارث المنطقة منذ نشأة أنظمة الحكم والأحزاب السياسية فيها، حيث ينكر الجميع على الجميع حقه في الوجود وفي التعبير عن نفسه، حد تهميشه وإلغائه من الوجود نفسه، لتتوارى مفاعيل الاحتكاك والصراع في الأماكن المعتمة، سواء تحت الأرض أو فوقها.
وتتكاثر الدسائس والمؤامرات وتطغى على المشهد كله، وتتلون القراءات والتحليلات بألوان أصحابها مبتعدة في كل مرة أكثر عن حقائق الأشياء ومسمياتها، مشكلة فجوات متزايدة الحجم سرعان ما تتحول إلى حفر عملاقة عصية على الردم والإحاطة، حفر تدفن في جوفها الفطرة السليمة للإنسان وتحل محلها نوازع الشر خلف حجب سوداء سميكة تقضم إمكانية رؤية الأشياء على حقيقتها ومعها إمكانية التواصل والحوار وإيجاد مخارج وحلول، فاتحة الطريق واسعا أمام تدخلات خارجية لم تعد غريبة على المشهد السياسي العربي، إن لم تكن قد أصبحت عنوانه العريض في متوالية لا نهاية لها ترتقي إلى مستوى الظاهرة الموضوعية، التي يمكن أن نطلق عليها « شعائر الانكار».
نماذج حالة الإنكار العربية كثيرة وتطال الجغرافية العربية من محيطها إلى خليجها، وتسيدها صارخ في المشهد السياسي، خاصة في فصله الأخير المتعلق بمخرجات ربيع عربي حالت قوى الظلام دون تفتح وروده، لكن يبقى النموذج السوري الأكثر حدة ووضوحا من بينها جميعا، لا لشيء إلا لأن المأساة السورية تجاوزت كل الخطوط الحمراء في دمويتها وديمومتها وانسداد آفاق أي حل لها في المديين المنظور والمتوسط، بينما توارت نوايا أصحاب محاولات الخروج من نفقها المظلم الطويل خلف حالة إنكار غير مسبوقة بدأت من المسرحيات ذات النص والاخراج والسينوغرافيا السيئة، التي تولى النظام السوري عرضها في دمشق، بعيد اندلاع الثورة السورية المعاصرة في شهر مارس 2011، مرورا بمسرحيات الجامعة العربية والأمم المتحدة، وليس انتهاء بمؤتمري جنيف واحد واثنين، على أن نلحظ أن هزلية كل محاولة سياسية كانت تمهد لتكريس حالة الإنكار نفسها، ومعها ترسيخ أقدام نظام الحكم في دمشق على أشلاء وجثث ومعاناة أبناء الشعب السوري، ليبقى هناك متربعا على عرش مملكة للرعب لا مكان فيها لأي مكون من المكونات الأخرى، التي رفعت الصوت عاليا في وجه الطاغية.
كل محاولة تجب ما قبلها، «جنيف 2» يجب «جنيف 1» بنقاطه الست، التي أجمع عليها السوريون جميعا، فأصبح دور الأسد في المرحلة الانتقالية، الشعرة التي قصمت ظهر تلك البارقة من الأمل، التي لو كتب لها النجاح، لكانت قد جنبت الشعب السوري الكثير من المعاناة، ولأعفت العالم من رؤية كل هذا القتل والدمار والتشرد في تكاثره الوبائي الممتد على مساحة البلاد وجوارها.
في السياق ذاته، تأتي المساعي الروسية الأخيرة، التي لم يحسم أمر تسميتها بعد إن كانت مبادرة سياسية متكاملة، أم أنها مجرد دعوة للحوار بين أطراف سورية ناقصة تفتقر أصلا لأبسط مبادئ الحوار لجهة تمثيل القوى السياسية والمدنية الحقيقية المعبرة عن الرغبة في تغيير سياسي ينتشل البلاد والعباد من الحفرة العميقة التي حشر النظام السوري وحلفاؤه الشعب السوري فيها، سادا الطريق أمام أي محاولة للتغيير السياسي في سوريا وفي عموم المنطقة، وربما العالم، من خلال تكريس مقولة عدم السماح للربيع العربي بتجاوز أسوار دمشق، لا بل أن هذه المساعي لا تخرج عن دائرة خطة المبعوث الأممي دي ميستورا المبهمة أصلا، التي لا ترتقي إلى مصاف مبادرة متكاملة للحل السياسي في سوريا، مثلما لا تخرج عن محاولة جس نبض فصائل المعارضة حيال الجلوس مع النظام في محاولة بائسة لإعادة تأهيله وتقديمه للمجتمع الدولي من جديد، وإظهاره على أنه جزء من الحل وليس الجزء الرئيسي من المشكلة وعقدتها الكأداء، التي لن يقبل الشعب السوري بأقل من إزالتها تماما، قبل أو بالتزامن مع الشروع في أي حل سياسي لاستعصاء السوري لم تظهر نذره بعد، لا في « المبادرة الروسية»، ولا في أي مسعى آخر لا يقوم على حق مشاركة جميع مقومات الشعب السوري وقواه السياسية في أي حل مستقبلي.
لكن، ألا يدرك الروس ومن خلفهم الايرانيون أن أوراق الأسد قد احترقت جميعا، وأن التعويل على بقائه في سدة الحكم ضرب من الوهم والخيال، بعد كل ما لحق بجغرافية سوريا وديموغرافيتها من تشرذم وانقسام لا يمكن ترقيعه بمبادرات عرجاء؟ لا بل أن السؤال الأهم في هذا المقام هو: ألا يدرك نظام الأسد نفسه أن فترة استثماره إيرانيا أوشكت على الانتهاء بعد التقارب الايراني- الأمريكي في ملفات اقليمية عديدة لا تمثل الحرب على تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام» وبوادر إيجاد تفاهم غربي- ايراني حول الملف النووي الايراني، إلا رأس الجبل الجليدي فيها، ما يقتضي، بداهة، اعتماد أساليب معالجة مغايرة للوضع الكارثي في سوريا، الذي يطال في كارثيته الجميع، وإلى إدراك واقع الحال، الذي يشي بأن سفينة الجميع تغرق هناك، وبالتالي، فإنه من مصلحة سائر الأطراف الخروج من دائرة العبث بمصير سوريا والمنطقة والولوج إلى دائرة رؤية الأشياء كما هي في الواقع وكما يجب أن تكون، لا كما يشتهي هذا الطرف أو ذاك منفردا، من خلال الانفتاح على كافة القوى السياسية والمدنية المؤثرة في الحالة السورية، وليس الانشغال في تفصيل مشاركين في الحوار الروسي، أو غيره، على مقاس رؤى ضيقة تعتمد على أوهام تحقيق مكاسب رخيصة في مركب غارق أصلا.
حال الإنكار كحال العنف الذي لا يولد إلا العنف، والتمادي فيه لن يفضي إلا إلى مزيد من الإنكار، إنكار الأنظمة للشعوب وإنكار الشعوب للأنظمة في متوالية لا تستثني أحدا، لن تجليها إلا لغة العقل والقبول بالتعايش السلمي بين مكونات المجتمع الواحد من جهة، وبين هذه وما يجاورها من مجتمعات من جهة أخرى، في متوالية إنسانية حدودها الكون ومفرداتها الاعتراف بآخر يرتحل على متن المركب عينه، والتسليم بمصير مشترك لا مكان فيه للمارقين من القتلة والطغاة والساديين، الذين استمرأوا لغة القوة والبطش والتنكيل والتفرد، سواء كانوا في موقع السلطة أم في موقع المعارضة، وراحوا يبحثون عن ملاذات وحواضن وشرعيات غريبة عن البيئات الاجتماعية والسياسية التي تدعي تمثيلها في عملية سطو على خيارات الشعوب وتطلعاتها للحرية والكرامة وبناء مجتمعاتها على أسس سليمة ضمن دولة المواطنة والقانون، التي تنطلق بخيارتها إلى رحاب تأمين المواطن في عيشه وحقه في المشاركة بتقرير مصيره ومصير مجتمعه، بعيدا عن متلازمة الانكار المستشرية بين ظهراني المجتمعات العربية وما يحكمها من نظم سياسية مهترئة.
٭ كاتب فلسطيني
باسل أبو حمدة