في الخطاب الذي تلا فوزه بجائزة الغولدن غلوب فئة أفضل مخرج (7 يناير/كانون الثاني 2018)، لم يخفِ المكسيكي جيريميو دل تورو (1964) ولعه بعالم الوحوش، العالم الذي استمرّ في السّير فيه وحيدا خلال ربع قرن، رغم بعض الخيبات التي واجهته. هذا العالم الفريد سينقذ سمعة المخرج في مناسبات قليلة فقط، لكنّها عوّضته عن كل ما فاته.
المناسبة الأولى هي فيلمه «متاهة بان» عام (2006)، وهو الفيلم الذي أعلن عن جدّية تجربة سينمائية مختلفة كان يُنظر لها سابقا بكثير من الاستغراب المصحوب بنظرة غير مؤسس لها، أما المناسبة الثانية التي جعلت اسم دل تورو الأكثر تداولا، وأعادت تسليط الأضواء على عوالمه، فهي فيلمه الجديد «شكل الماء» (2017) الذي مكّنه من التفوق على منافسين كبار، والفوز بأرفع جائزتين، جائزة أحسن فيلم وأحسن مخرج خلال حفل الأوسكار الأخير.
كلمته المقتضبة في حفل «الغولدن غلوب» لم تعبّر عن ولع بعالم الوحوش فقط، بل سلطت أيضا إضاءات على الكثير من الجوانب في تجربته، خصوصا الوفاء لمنحى لم يكن يشّجع على المضي فيه، أو لفت الانتباه إليه خارج مدار الترفيه! لكن دل تورو وصل إلى أقصى ما يمكن لمخرج بلوغه. هذا الكلام يعني أنه كان متحكّما في مساره، صحيح أنه أفلت منه أحيانا عبر قصص لم تكن قادرة على الوصول بعيدا، مثل فيلم «فتى الجحيم» أو (ميمك)، لكّن المخرج كان يعود عبر قصص أخرى إلى التعبير عن هوس شخصي لم يستطع أن يجاريه فيه أحد، والواضح أنه بلغ مداه في «شكل الماء».
في الفيلم تظهر «أليسا» (سالي هوكينز) وهي تعمل في مؤسسة أبحاث حكومية سريّة يديرها «ريتشارد» (مايكل شينون). في هذا المكان يتم احتجاز مخلوق غريب رجل برمائي، جيء به من بحيرة تقع في براري أمريكا الجنوبية، لإجراء أبحاث قد تفيد الحكومة الأمريكية في سباقها العسكري المحموم مع روسيا في الحرب الباردة، وهكذا يتحوّل هذا المخلوق بعد تكبيله بالسلاسل إلى مادة علمية تجرى عليها الأبحاث، وتتخلّلها فواصل تعذيب يقوم بها ريتشارد، تعبر عن كره غير مفهوم سوى بربطه بكره الآخر المختلف. وفي أثناء زياراتها لتنظيف المكان التي يحتجز فيها المخلوق، تستوقف أليسا الوحشية التي يُعامل بها فتحاول التواصل معه، وبعد ترّدد وخوف يتفاعل معها، فتتكرّر زياراتها له فتتعلق به، إذ استطاعت أخيرا أن تجد من يتواصل معها، رغم عدم قدرتها على الكلام. ريتشارد الذي يمثل وجه الشرّ في الفيلم كان يخطّط للإسراع بإجراء عملية تشريح للمخلوق لدراسة أعضائه والاستفادة منه، رغم معارضة البروفيسور روبرت هوفستيتلر (مايكل ستهلبارغ) الذي يرى أن المخلوق في حاجة إلى دراسة، لكي تعود بالنفع على الناس خارج الحسابات الدّموية لريتشارد، فلاحظ أثناء ذلك أن هناك شخصا يشاركه الخوف على هذا الكائن، إذ كانت إليسا تضع خطة لتحريره واصطحابه إلى بيتها.
ينقلنا المخرج بعد ذلك إلى مكان آخر، سكن مشترك بين أليسا وصديقها جايلز (ريتشارد جينكينز) بيت علوي فوق صالة سينما. هنا تتطوّر العلاقة بين إليسا وكائنها إلى درجة حبّ شديد، وأثناء وجوده في البيت سنكتشف قدراته الخارقة كأن يضع يده فوق رأس جايلز فينبث شعره من جديد، وهو الذي كان يضع شعرا مستعارا، وتشفى يده المجروحة بعد أن لمسها، فلم يجد جايلز من وصف أنسب له سوى إله! في الوقت نفسه كان ريتشارد يجري تحقيقاته لمعرفة مكان المخلوق، فأدى به ذلك أخيرا إلى بيت أليسا وبعد مطاردته لهما وصل إلى القناة المائية التي كانت أليسا ستحرّر فيها مخلوقها، حاول منعمها بإطلاق الرصاص عليهما، لكن قدرات الرجل البرمائي كانت أقوى من طلقات ريتشارد فقام من الموت من جديد وأخذ معه أليسا إلى عالمه –عالم المياه وحوّل آثار عنف في عنقها إلى حواس للتنفس تحت الماء!
«دل تورو» في عمله الجديد، أعاد الكثير من الأشياء إلى الواجهة، بدأ باسمه الذي خفت ذكره منذ «متاهة بان» سنة 2006 حتى صار يزاحم كبار المخرجين على أهم جوائز العام، فاز في الغولدن غلوب أمام كل من كريستوفر نولان، وستيفن سبيلبيرغ، وريدلي سكوت، وتردد صدى اسمه في كل مهرجانات العالم، وجعل الفانتازيا خاصّته تتوهج أمام ثيمات متنوعة، سياسة وتاريخا وحربا ودراما.
وكأنّ هذا النجاح رفع قبّعته لرجل أفنى عمره في درب بلغ نهايته فجاء تتويجا لمسار فني مختلف زد نضجا وصار اكثر اكتمالا.
يشتغل المخرج بالكثير من الرّمزية في فيلمه، كالقيام من الموت وشفاء المرضى، وكأنّنا أمام قصّة عن المسيح، يستمر الرمز في الحضور بإسقاطات أخرى كالعزلة، فهو يضع كل شخصياته في عزلتها الخاصّة؛ أليسا لا تتحدّث، فهي منبوذة إلّا من أصدقاء مقربين، صديقها جايلز في عزلة مضاعفة أيضا بسبب ميله الجنسي الذي بقي مكتوما، أو بسبب فشله كفنان تشكيلي. ريتشارد أسير لقسوته حتى مع نفسه أحيانا… وهكذا يضع الفيلم شخصياته ضمن سجون من العزلة، لكن عندما اقتحم الرجل البرمائي حياتهم صار الجميع يفكر خارج الأسوار التي يحيط بها نفسه.
تعاون دل تورو والمصور الدنماركي دان لوستسن قدّم نموذجا بصريا عظيما، مشاهد انتصرت للماء، وجعلته يقتحم المكان ويحتوي الشخصيات، المياه تسيّدت الفيلم، وشكلّت أقوى مشاهده وأجملها. وموسيقى ألكسندر ديسبلا، لم تخرج عن تميّزه المعهود ينجح دائما في إبداع حكاية موسيقية موازية، لا ترتهن بالضرورة لخلق توتر يحاكي تبدّل إيقاعات المشاهد، بل تشكل موسيقاه دعما فنيا لقصة الفيلم وصوتا آخر للحكي، يسير بإيقاع فني خاص.
لا يمكننا في النهاية، فهم سينما دل تورو خارج موضوعه الأثير، فعلاقته بالوحوش وعالمها كانت تقريبا هي بدايته مع السينما بفيلمه «كونوروس» 1993 وبعده «ميميك» 1997 و«ثلاثية فتى الجحيم» و«حافة المحيط الهادي» 2013. كما ساعد في كتابة نصوص أخرى غير بعيده عن عالمه كثلاثية «الهوبيت» لبيتر جاكسون. إنه عالم مؤسّس على تصوّر لا يمكن فهمه إلا بنظرة شمولية لمنجز سينمائي عصيّ على الاختزال في فيلم واحد أو قصّة واحدة. ربما كان هو يساعدنا على فهم عالمه وهو يتحدّث في حفل الغولدن غلوب عندما علا صوت الموسيقى فحجب صوته، عندها قال وهو يجد صعوبة في التنفس، كأنه وصل للتو إلى قمّة شاهقة بعد عناء، أرجوكم أخفضوا الصوت، لقد أخذ الأمر 25 سنة كي أصل إلى هنا، أعطوني دقيقة، إنها القمّة التي كان ينظر إليها منذ اختار عالم غريبا وخاصا به، كان يرى قمّته لوحده، لكنّه أصر على أن يصعد به إلى أعلى نقطة. النقطة التي تجعل كل العالم يراه.
٭ ناقد سينمائي من المغرب
سليمان الحقيوي