قليلٌ من المقاربة «ما بعد الكولونيالية» لا مهرب منه حين يكون منفذو اعتداءات باريس الدموية أولاد مستعمرات فرنسية سابقة، ولدوا وترعرعوا في الحاضرة المزدوجة: عاصمة الجمهورية الفرنسية، وعاصمة الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية.
قليلٌ من هذه المقاربة، بلا إسراف وابتذال أو تبذير، لا سيما وأنّ العنف القربانيّ الإرهابي الذي ضرب باريس لم يصدر مثلاً من أبناء البلدان التي لا تزال تئن تحت التدخل الفرنسي الإمبريالي، وأحياناً كثيرة، التدخل العسكريّ المباشر، كما في بلدان افريقيا الفرنكوفونية جنوب الصحراء الكبرى.
قليلٌ من المقاربة «ما بعد الكولونيالية» لا مهرب منه أيضاً لاستيعاب «الحوار الإسكاتولوجي» القائم حالياً بين منفذي الهجمات الذين فجروا أنفسهم بعد نفاد الذخيرة، وبين نخبٍ في العالمين العربي والإسلامي تشعر في وقت واحد بالنازع الاعتذاري لفرنسا «لأنه لم يجر إصلاح الإسلام بعد»، وليس فقط التضامني مع الضحايا، ويستفزها الانتحاريّون لسببين، لا واحد: إنهم قاموا بهذا العمل وهم يحملون الجنسية الفرنسية، فيما أغلب هذه النخب تحتاج إلى تأشيرة دخول، وتتحيّن الفرص لتدعى إلى ندوات أو جولات، أو لقراءة قصيدة رديئة محسّنة بعض الشيء بهمّة الترجمة، في «عاصمة الأنوار».
ما نعنيه هنا بـ»المقاربة الما بعد كولونيالية» لا يتعلق بالعلاقة بين «ماض» و»حاضر». إنها دعوة للتفتيش في الحاضر نفسه على احتقان بين أزمنة متصدّعة تتعارك مع بعضها البعض. صدام الأزمنة هذا ليس بين زمن ماض وزمن حاضر.
ليس الإرهاب «حشرجة» تأتي من الماضي وتعالج بالهتك المزعوم لتابوات الماضي المزعومة (لأنّ كل شيء هُتِكَ ماضياً وحاضراً، والاحتدامية المتجاهلة لذلك محض رياء وللاستهلاك السريع) على ما يدعيه التنويريون (المزعومون هم أيضاً). ولا هو «جرح كولونيالي لم يندمل»، وزاد التهابه، وينبغي مداواته بدعوات «بلا جمرك» لإنصاف «المعذبين في الأرض». إنّه صدام قائم في الحاضر. «ما بعد كولونيالية» أولاد الضواحي المتحصلين بالولادة على الجنسية الفرنسية، قائمة في الحاضر.
ليست مشكلتهم الأساسية أن الدولة لم تسهر على دمجهم كفاية. مشكلتهم أيضاً أنهم دمجوا أكثر من اللازم، وبفعل «عنوة» الولادة نفسها، عبثيتها، عبثية «خيانتهم بالولادة» لمساقط رؤوسهم أهلهم، و»خيانتهم بالولادة» كذلك أيضاً لقانون مسقط الرأس الفرنسي الذي يعطيهم الجنسية باسم تُراب الغربة. أغلب أولاد الضواحي لا يحبّذ أن يعرّف تحدّره بوطن الأهل، لأنه لم يره ولا يمت بصلة اليه، بل بدينه، لأنه يُرى ويرى إلى الآخرين من خلاله، والدينُ هنا بالقياس على تحديد دائرة التحدّر الوطنية أو الإثنية، فضاء كوزموبوليتيّ. هذه الكوزموبوليتية المقلوبة على رأسها، أو بالأحرى، الهائمة على وجهها، قادت، وستقود، مجموعة من أولاد الضواحي هؤلاء، الذين يعانون من نقيضي كل مسألة في كل وقت، إلى الظاهرة الأكثر كوزموبوليتية في راهن المسلمين: تنظيم «الدولة الإسلامية».
هؤلاء مواطنون فرنسيون قتلوا مواطنين فرنسيين آخرين. القانون الفرنسي لا يفرّق بين الجنسية والمواطنية كما يفعل القانون الروسي مثلاً حيث هناك مواطنية روسية اتحادية واحدة وعدد من الجنسيات. ليس هناك في القانون الفرنسي كلّه شيء بإمكانه تمييز الذين ولدوا على الأرض الفرنسية عن بعضهم البعض في الدرجة. كل السجال الفكري الذي نشب بين ادموند بيورك، العدو البريطاني اللدود لفكرة «حقوق الإنسان» الفرنسية، هو أن بيورك اعتبر هذه الفكرة غير أخلاقية وتتناقض مع كون الحقوق تتأمّن بالتراكم، وأن هناك حقوق الإنكليز، وحقوق الفرنسيين، حقوق من تقاليد ولحم ودم، وليس «حقوق الإنسان» بشكل عام. هناك رياء ما في الحديث عن «حقوق الإنسان» بالمجرّد: هذا ما عبّر عنه نقد بيورك الضاري للثورة الفرنسية. هناك رياء كثير عند منجمي الهجمات الانتحارية استوطن جبّة هذا الرياء «الحقوق إنساني» نفسه. مع ذلك، أن يكون هؤلاء فرنسيون فهذا ليس بتفصيل.
لكن التنويريين العرب المزعومين يصرّون أنه تفصيل. هؤلاء عندهم هم في الاعتبار الأول «مسلمون» وفعلتهم تعني كافة المسلمين، والتهرّب من ذلك يعني «تواطؤ» مع الجريمة (في محاكاة للمنطق الإرهابي نفسه). كريعيين أصيلين، وكما درجت العادة عند كل مأساة أو كارثة، أنى وقعت، يطالب هؤلاء التنويريون بالإغارة على تلك «الثقافة الدينية المقدسة» التي تغذي الانتحاريين، ونزع الطابع المقدّس عنها. لا يستطيعون بعد فهم أنّ كل مشكلية الجهادية العدمية المعاصرة تكمن في أنها مصمّمة هي الأخرى على تدمير أي «ثقافة دينية مقدّسة» وعلى نزع المقدّس عن كل ما هو ثقافي. كل ما هو ثقافي ينبغي أن لا يحمل صفة القدسية من قريب أو من بعيد، وإلا فهو يعتبر «شركاً» أو منفذاً إلى الشرك، وينبغي تحطيمه: هذا هو أيضاً «التنوير»، التنوير على منهاج الدولة الإسلامية.
«اختزال المقدس» إلى حدوده الدنيا هو المشترك بين تنويرية «داعش» وداعشية التنويريين. الرحمة بالمقدس، الرحمة بالطابع الضخم للمكتبة النقلية والفقهية والدينية الإسلامية – وليس أبداً فرض رقيب تنويري عليها، الرحمة بالإسلام الشعبي والطرقي، بالإسلام العلمائي، بالإسلام السلطاني، بالإسلام الحربي في مواجهة المسيحية الحربية في عصور المواجهة على ضفاف المتوسط التي خلقت من المشتركات الحضارية الكثير، ومن قيم الفروسية ما يجهله داعشيّ وتنويريّ، الرحمة بخصوصيات سياق «الإسلام الدياسبوري» في أوروبا، هو مسار آخر، أقل احتقاناً، وأكثر طرافة، وأشد فائدة وصدقاً، على أقل تقدير.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة
لماذا يذكروا أن المهاجمين مسلمين. إنهم فرنسيون أولاً وأخيراً وهجماتهم لم تكن غزوات إسلامية. إنهم فرنسيون يهاجمون فرنسا وليسوا مسلمين يهاجمون فرنسا. المجرم إن أجرم يحاسب على جريمته وليس على سحنته أو أسلوب تفكيره. إنهم فرنسيون حتى وإن هتفوا وهم يقتلون أبناء وطنهم “بالله أكبر”. فها إذا هتفوا “عاش المسيح” ربتوا على أكتافهم تشجيعاً؟