كانت ثورة الجزائر (1954 ـ 1962) سبباً في تشكل نواة شيوعية، في البلد، بدأت مع كتّاب تأثروا ببعض الشعراء، مثل لويس آراغون وبابلو نيرودا، ثم صارت حراكاً سياسياً، انخرط فيه مُناضلون معروفون، مثل بشير حاج علي، موريس أودان، هنري علاق وغيرهم.
كثير من مناضلي الحزب الشيوعي الجزائري جاؤوا من فرنسا، من فرنسيين شاركوا في دعم الثورة، ثم التحقوا، عقب الاستقلال، بالجزائر، ومنهم من تجنس بالجنسية الجزائرية، عاشوا في الجزائر بنِية بناء وطن لهم، بعدما تفتت أحلامهم في أوروبا، لكن سرعان ما ستخيب ظنونهم، سيجردون من ماضيهم، من هوياتهم، ويُطردون ـ عنوة ـ من البلد.
كما كانت الثورة سبباً في ميلاد الحزب الشيوعي الجزائري، سيكون الاستقلال سبباً في تفككه. عن هؤلاء الشيوعيين الفرنسيين، الذين اختاروا مناصرة القضية الجزائرية، وتركوا حياتهم ووظائفهم في فرنسا، من أجل العمل في الجزائر، كتبت آن صوفي ستيفانيني (1982) روايتها «سنواتنا الحمراء» (غاليمار ـ باريس 2017). رواية عن صعود وسقوط الشيوعية، في البلد، عن قصر حبل الحلم، وعن تنكر النظام الجزائري لأصدقاء الثورة، الذين وقفوا معها في الماضي.
بطلة الرواية اسمها كاترين، والدها شيوعي، يعمل سائق تاكسي في باريس، سماها كذلك تيمناً ببطلة رواية «أجراس بازل» للويس آراغون. تماماً مثل بطلة آراغون، ستعيش كاترين مناضلة نسوية، قبل أن تنقلب ـ لاحقاً ـ على قناعاتها، حين تكتشف أن الشيوعية مجرد حلم وليست واقعاً. شهران بعد الاستقلال، تصل كاترين، وهي في الرابعة والعشرين من العمر، إلى الجزائر العاصمة، لهدفين اثنين: البحث عن حبيبها السابق فانسون، الذي التحق ـ قبلها ـ بالثورة، وعمل في ورشة لتصنيع الأسلحة، على الحدود مع المغرب، وبغرض التدريس في ثانوية دولاكروا، والمساهمة في بناء بلد جديد.
كاترين انتقلت من باريس إلى الجزائر، ركضاً خلف حلم، غيرت شكل عيشها، طلباً لتحقيق ما لم يحققه والدها، كانت تعتقد أن الخطوة الأولى لبناء ما ضاع تبدأ من العيش في الضفة المُقابلة، في أرض الثورة، فقد وصلت إلى الجزائر وهي تعتقد أن مشروع الآباء المُجهض سيجد طريقاً للتحقق. والدها كانت تربطه صداقات مع شيوعيين جزائريين، وكان قد حدثها عنهم، وحين جاءت للجزائر، كانت تعتقد أن هؤلاء سيستقبلونها بالأحضان، ولم تدرك أن كعكة الاستقلال قد غيرت مزاجاتهم، وقد فرقت بينهم، وجعلت منهم أشخاصا مختلفين، يفكرون في الوصول إلى الحكم، بدل التغيير من الأسفل.
أول كلمة عربية ستتعلمها كاترين هي كلمة: شيوعي. تتعلم نطقها من والدها. ستعرف كيف تحيط نفسها باللون الأحمر، وتدرك أنها صارت ممن يُطلق عليهم «الأقدام الحمر»، وهم بضع مئات من شيوعيين أجانب عاشوا في الجزائر. ستكتب، في رسائلها الحميمة إلى والدها، طبوغرافيا كاملة لعاصمة البلاد، ستحدثه عن حاراتها، قاعات السينما فيها، وعن مواخيرها الشهيرة، التي تحولت ـ مع الوقت ـ إلى مؤسسات أو سكنات أو ملكيات خاصة.
فانسون، حبيبها السابق في باريس، سيلتحق بها في الجزائر العاصمة، قادماً إليها من المغرب، ويحكي لها بعضاً من يوميات الثورة: «كنت أُركّب رشاشات في مصنع تسليح تابع لجبهة التحرير الوطني. كنا نصنع مسدسات وقنابل أيضاً. كان يوجد هناك مرقدان، يحيط بهما سور عالٍ، لحمايتنا ولمنعنا من الفرار. لكن من كان يجرأ على الفرار؟ لم أكن الفرنسي الوحيد هناك (..)في البداية، كنت أفكر فيك، أحن إليك، لكن بعد شهر واحد تغيرت حياتي. كنا نلعب الكرة كل مساء، نذهب إلى بائعات الهوى مرة كل شهر، وإلى البحر مرة كل ثلاثة أشهر. كنت أطالع كتباً، أقرأ للكتاب الذين نحبهم، ثم توقفت. تعلمت العربية والروسية. كنا جنود الخفاء، نعيش وسط الحر والظلام والجرذان». فانسون الشيوعي، الذي تعرفت عليه الراوية، في باريس، سيصير شخصاً آخر بعد الاستقلال، فقد انتهت الثورة، وتوارت الأحلام، وصار صحافياً في وكالة الأنباء الجزائرية، مقرباً من محيط الرئيس أحمد بن بلة، وصديقاً للوزراء. سينصرف عن كاترين أيضاً، يتخلى عن حبه لها، فالشيوعي ـ بحسب فانسون ـ يربط الحب بالشرط السياسي. كلما تغيرت ملامح السياسة، واختلفت الموازين، سيتغير هواه. سيعدد مغامراته العاشقة، وتفعل كاترين ـ في البداية ـ مثله، قبل أن تقرر أن تتوقف عن مجاراة الرجال، واستعادة نزعتها النسوية، ستلتحق بالجامعة ـ مجدداً ـ بنية تحضير شهادة ماجستير عن أعمال إيزابيل إيبرهارت، ثم ترتبط بشاب يدعى علي، تتزوج منه، رغم أنه يختلف عنها في كل شيء: هو من عائلة برجوازية، ووالده كان ضد الثورة، وقُتل في ظروف غامضة. هكذا تصير مدرسة ـ في الثانوية صباحاً، طالبة في الجامعة مساءً، وعاشقة لعلي، الذي يختلف عنها كلية، ليلاً.
ستتوسع ـ تدريجياً ـ خيبات كاترين من شيوعيي الجزائر، ومن «الأقدام الحمر»، ستندم، بعد سنوات قليلة، على ترك حياتها في باريس، ومجيئها إلى الجزائر، ستتعمق أيضاً الهوة بينها وبين زوجها علي الذي علمها العربية، لكنها تصر، في داخلها، أنه ما يزال، على الأقل، يوجد شيوعي واحد أصيل، سيحفظ ماء الوجه: تسميه ياسين. تختلق، في مخيلتها، هوية لهذا «ياسين»، وكلما سمعت أو صادفت شيوعياً، لم يتغير بتغير السياسة، تسأله إن كان اسمه ياسين! لكن الصدمة، التي لم تتوقعها، ستأتي من انتقام النظام السياسي من شيوعيي البلد. لقد صار البلد أشبه ﺑ»سجن كبير»، تكتب. صار الأمن يُراقب «كلماتنا، تحركاتنا، الكتب التي نقرأها، والأشخاص الذين نلتقيهم» تضيف. لقد كان زمن الشائعات في الجزائر، فللتخلص من الشيوعيين ـ الذين كانوا يُطالبون بنصيبهم من الحكم ـ روج النظام ادعاءات ضدهم، بأنهم «صهاينة» أو أنهم «أعداء البلد».
في تلك الفترة، كانت كاترين قد بدأت العمل، في الصحيفة الشيوعية «الجزائر ـ الجمهورية»، وتحكي كيف صارت الرقابة ممارسة يومياً، والتي ولدت رقابة ذاتية. الشيوعيون الذين كانوا ينددون بالرقابة صاروا يمارسونها على بعضهم بعضا، فقبل نشر أي مقال في الجريدة نفسها، لا بد أن يمر على عدد من الأشخاص، من المراقبين، للموافقة عليه أو رفضه. ثم جاء انقلاب هواري بومدين على الرئيس أحمد بن بلة (صيف 1965)، وكانـــــت تلك نقطة التحول الحاسمة في حياة شيــــوعيي الجـــزائر، حيث زج بالجزائريين منهم في السجن، والأجانب، رغم أنهم وقفوا طويلا إلى جانب الثورة، طُردوا إلى بلدانهم، ومعهم عادت كاترين، من حيث جاءت، فوهم الشيوعية في الجزائر لم يدم ـ في النهاية ـ أكثر من ثلاث سنوات.
رواية «سنواتنا الحمر» هي أيضاً نص في مديح الجزائر العاصمة، في رثاء التروتسكيين القدامى، في استعادة زمن لن يعود، هي رواية عن حقبة مرت بسرعة، حقبة الطموحات المشروعة، حقبة الآمال الممكنة، فجزائر أوائل الستينيات كانت أرضاً يرتفع فيها سقف الحلم عالياً، قبل أن ينهار، بعد ثلاث سنوات فقط، بعد أن انقلب الكولونيل على الرئيس، واحتكر السلطة له وحده، وتخلص من الآخرين، مسح أولئك الذين ساعدوه في كسب الاستقلال، انفرد بالحاضر وبالمستقبل له، ومحى من الذاكرة من سبقوه.
٭ كاتب جزائري
سعيد خطيبي