لمع نجم الملياردير دونالد ترامب في دنيا السياسة كمرشح رئاسي بشكل مفاجئ، ولعل هذه المفاجأة هي التي جعلت أغلب المحللين لا يتعاملون مع هذا اللمعان بجدية في البداية، باعتبار أنه مجرد زوبعة في فنجان الانتخابات الأمريكية، في حين استبعد كثيرون فرص صموده الانتخابي مركزين على مرشحين آخرين بدوا لهم بحظوظ فوز أكبر.
ثم دخل الأمر مرحلة أخرى لينحصر التنافس بين السياسية المحنكة هيلاري كلينتون ورجل المال ترامب، الذي بدا في كثير من الأحيان أخرق وجاهلاً بالسياسة، وكانت تعليقاته وتصريحاته المستفزة والطريقة الكوميدية التي كان يظهر بها ويخاطب عبرها مؤيديه، كان كل ذلك من الدلائل التي جعلت الكثيرين لا يتعاملون مع ترشحه بجدية، ويعتبرون كلينتون قد صارت فعلاً الرئيسة القادمة.
ما زلت أذكر كيف قام سياسيون كبار باستبعاد فوز ترامب، داعين لأن يتم التركيز على كلينتون بمحاولة تحليل سياستها وفهم مساعيها المقبلة خلال الفترة الرئاسية، بل إن البعض ذهب لما هو أبعد من ذلك معتبراً أن ترامب ما هو إلا مجرد لاعب وضعه مهندسو الانتخابات الأمريكية لإضفاء نوع من التشويق والفعالية عليها، في حين تكون النتيجة محسومة سلفاً.
إلا أن الأسوأ حدث وفاز دونالد ترامب الذي لا يخفي عنصريته. تابع العالم هذا الفوز بترقب. الصدمة لم تقتصر على العالم الخارجي، بل بدت واضحة في الداخل الأمريكي بشكل احتجاجات غير مسبوقة، ربما تكون الأكبر عشية فوز رئيس أمريكي بالانتخابات. حتى تلك اللحظة كان بعض «المختصين» بالسياسة الأمريكية يظهر على الشاشات معبراً عن وجهة النظر التي تقول إن وعود ترامب وتصريحاته الشعبوية كانت مجرد فقاعات انتخابية، وإنه لن يكون جاداً في تنفيذ أي منها، وإنه حتى إن أراد فإن المؤسسات الأمريكية الشعبية ستكون له بالمرصاد ولن تمكنه من فعل ذلك، باعتبار أن الرئيس لا يملك وحده القول الفصل في جميع القضايا خاصة الحساسة منها والاستراتيجية.
إلا أن ما حدث كان النقيض تماماً، حيث أكد الرئيس المنتخب على موقفه من الأقليات، وعزمه بناء جدار عازل ضد المهاجرين المكسيكيين، كما أكد منذ أسبوعه الأول على جديته في نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة.
توالت الإجراءات الترامبية والأوامر التنفيذية التي كان أشهرها وأكثرها إثارة للضجة، الإعلان عن حظر دخول مواطني عدد من الدول الإسلامية بحجة حماية الأمن الأمريكي. جاءت هذه القرارات لتضع الديمقراطية الأمريكية مرة أخرى على المحك، ولتعيد إلى الأذهان التساؤلات حول كيفية فوز ذلك الرجل بهذا المنصب، الذي يعتبر الأهم على مستوى العالم خاصة أنه تم الحديث بشكل جاد خلال أسابيع ماضية عن فرضية تزوير الانتخابات، أو على الأقل التلاعب بنتائجها عبر التأثير على الناخبين وعلى الجو الانتخابي.
السؤال الآخر الذي طرحه الإعلان عن تلك القرارات التنفيذية، تعلق بالسؤال عما نعنيه بقولنا إن الولايات المتحدة هي بلد مؤسسات متعددة. تصريحات ترامب أوحت لوهلة أننا بصدد قرارات تتخذ من جانب واحد، ويتم تفعيلها بشكل مباشر دون انتظار آراء المشرعين أو ممثلي المؤسسات الأخرى. لقد استطاعت هذه المؤسسات ولوقت طويل تحجيم قدرة الرؤساء الأمريكيين على اتخاذ قرارات فاعلة، استناداً للشكل المعقد والمركب الذي كان يجب على كل قرار أن يمر به قبل أن يوضع موضع التنفيذ. ورغم أن قرار الحظر هذا قوبل بعراقيل قانونية، إلا أن الشعور لدينا ما يزال هو أن هذه المؤسسات ما زالت مفتقرة للفعالية والحيوية التي عهدناها بها خلال الحقب السابقة. هل يمكن أن يكون هناك توافق ضمني بينها جميعاً، وأن تكون هذه المناوشات التي تطفو على السطح ما هي إلا مجرد تبادل للأدوار من أجل الإيحاء بتنافس الرؤى؟
لا يمكن الاستناد إلى نظرية تبادل الأدوار هذه أخذاً في الاعتبار أن مظاهر الرفض الأكبر كانت داخل الولايات المتحدة، فقد غادر عدد من موظفي وزارة الخارجية الأمريكية إضافة إلى مدير «سي آي إيه» وظائفهم بعد تولي ترامب، في حين تحدثت وسائل الإعلام التي أصبحت علاقتها بالرئيس متوترة بعد تقليله العلني من شأن الصحافة، عن قلقها من مصير حرية الصحافة والتعبير في الفترة المقبلة. داخلياً أيضاً أفادت الاستطلاعات برغبة ثلث سكان ولاية كاليفورنيا، ذات الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية في الانفصال. كل هذا إضافة للقضايا المرفوعة بجدية في وجه قرارات الرئيس التنفيذية، تؤكد أن هناك تياراً مهماً في الداخل لمقاومة السياسة الترامبية.
الفوضى والضجة التي أفرزها تصدّر ترامب ومن اختارهم ضمن فريقه كوزراء ومستشارين، ممن لا يقلون عنه تعصباً وعنصرية لم تقتصر تداعياتها على العرب والمسلمين والمكسيكيين فقط، بل تجاوزت جميع أولئك لتشمل العالم الذي يبدو أن ترامب يريد إعادة ترتيبه من جديد، من خلال إعادة ترتيب الأولويات الأمريكية ومراجعة الاتفاقيات الكبرى المؤسسة للعلاقات الخارجية، بما فيها حلف الناتو نفسه مروراً باتفاقيات الشراكة التجارية الإقليمية.
وكما يتوجس العرب من نوايا ترامب، كذلك يتوجس الحلفاء التقليديون في آسيا وفي الاتحاد الأوروبي نفسه، بعد إعلان الرئيس المنتخب أنه غير ملتزم بضمان أمن أوروبا، وأنه بصدد نسج علاقات جديدة قد لا تصب في مصلحة بعض الحلفاء، كالعلاقة مع روسيا – بوتين وهي التصريحات التي تعامل معها المجلس الأوروبي بجدية كمهدد أمني.
الكيان الصهيوني أيضاً يبدو متخوفاً من سياسة ترامب الانسحابية، التي تعطي مزيداً من القوة لروس،يا التي تبدو علاقتها بالكيان معقدة لأسباب لا يتسع المقام للتفصيل فيها. المهم هو أن تخوف تل أبيب من دعم ترامب لروسيا وتقويتها بما يتيح لها مزيداً من الحركة داخل الإطار الإقليمي وربما الدولي الأوسع، قد ظهر في التقرير الاستراتيجي الاسرائيلي الأخير الذي حذر من اجتياح روسي فعلي للبلطيق في ظل سياسة اللامبالاة الأمريكية.
الخطاب الترامبي يبدو مناقضاً للتراث الخطابي الأمريكي، فالتركيز على تصنيف المواطنين بحسب خلفياتهم والحديث بشعبوية وكره تجاه القادمين الجدد، خطاب غير معتاد من رئيس لدولة أسسها المهاجرون، وهو خطاب معزول ومرفوض حتى في الدول الأوروبية التقليدية، التي تكونت عبر تاريخ يتجاوز آلاف السنين، فما بالك بدولة كان رئيسها السابق نفسه من أبناء المهاجرين.
أما الخطاب الشعبوي وفي حالة تسرّبه لدول أوروبية كبيرة كفرنسا وألمانيا فإنه لن يؤثر على الجاليات الأخرى أو الأقليات العربية والإسلامية فيها فقط، بل سيمتد أثره لدعم الاتجاه الرافض للوحدة الأوروبية والداعي لعودة الحدود لسابق عهدها وهو اتجاه يبدو صوته خافتاً حتى الآن، ولكنه موجود ولا يمكن إنكاره خاصة بعد أن ظهر بوضوح في الاستفتاء البريطاني.
تساؤل آخر مطروح بشدة هذه الأيام وهو التالي: هل يمكن عزل الرئيس المنتخب إذا ما اتبع بالفعل سياسات خطيرة ومضرة بالولايات المتحدة نفسها؟ من الناحية النظرية وبحسب الدستور الأمريكي فإن هذا ممكن، فالفوز في الانتخابات ليس شيكاً على بياض يكتب فيه الرئيس ويفعل ما يشاء، أما من الناحية الواقعية فإن هذا لم يحدث إلا في حالتين استثنائيتين، حالة الرئيس أندرو جونسون (1875-1808) الذي تولي الحكم بعد اغتيال لنكولن، والذي عاش في عصر تشكّل الديمقراطية الأمريكية التي لم تكن قد رسخت بعد، وحالة بيل كلينتون التي تعتبر الأشهر في هذا المجال، هذا طبعاً بالإضافة لحالة استثنائية أخرى للرئيس ريتشارد نكسون الذي قدم استقالته تحت وقع فضيحة «ووترغيت» الشهيرة.
هل يمكن البناء على الاستثناء؟ الأمريكيون فقط هم من يملك الإجابة العملية على هذا السؤال.
كاتب سوداني
د. مدى الفاتح