اشتكت لي السيدة ليدكا من جارها الدكتور نديم، وهو طبيب عيون مشهور، له سمعته، لكنه عازب. كنت أسكن في بناية السيدة ليدكا نفسها، وأعلم أنها بولونية، متزوجة من مدرب ملاكمة، وللأسف توفي من شهور خلال التدريب. ولا أحد يعلم هل حصل ذلك عمدا؟ أم نتيجة خطأ غير مقصود؟ فالملاكمة مهنة عنيفة، وبصراحة هي بنظري مهنة تؤمن بفلسفة الضرب. وأيا كان الأمر، تلقى المسكين لكمة على رأسه أودت بحياته، وبقيت الأرملة هنا من أجل أبنائها.
حاولت أن أفهم من ليدكا ما هي مشكلة الدكتور؟
ولكن كانت لغتها ركيكة، وبصعوبة فهمت أنه يعاكسها، أحيانا تضبطه وهو يضع مفتاحه في باب بيتها، تصور، قالت: السافل يريد أن يقتحم منزلي.
ثبت نظري على وجهها وقلت باستنكار: الدكتور نديم؟
هزت رأسها بدون تردد. ولكن كيف؟ لدى الرجل مريضات من كل الأعمار والأشكال، لماذا يعاكس أرملة هي أم لولدين؟ برأيي هنا توجد حلقة مفقودة.
٭٭٭
كانت هذه أول مرة أقبل فيها قضية سخيفة من هذا النوع ، لكن لم أود أن أكسر قلب السيدة ليدكا.. غير أنها بلا ظهر تحتمي به، كانت رقيقة وشفافة. وللعلم بالشيء، كنت أعمل بالمحاماة، ولديّ مكتب في عبارة التوليدو في التلل، ومعي شهادة بالقانون الدولي من نوتنغهام. لكن ماذا ينفع التفكير بالعالم ونحن في هذه الحفرة؟ نحارب أنفسنا من أجل امتلاك حارة، أو من أجل الاستيلاء على ثكنة. لقد كنت أراقب بلدي وهو يسقط في غبار المعارك، ضحية مسكينة مكتفة اليدين، الدبابات تدخل وتخرج من الحدود وكأنها أسراب من البجع أو عصافير الحب.
٭٭٭
فكرت أن أزور الدكتور نديم، وأسأله بدبلوماسية عن وجهة نظره، هل تحرش فعلا بالسيدة ليدكا؟ إنما خجلت، فهو فوق الأربعين، وله مكانته، وقررت أن أتابع تحركاته ليوم أو يومين. ولكن لم أجد أي شيء معيب، ببساطة كان متعففا. ويقسم يومه بين البيت والعيادة، وفي أوقات الراحة بين واحد من اثنين.. السياحي في ساحة سعد الله، قرب تمثال الأول من أيار، يجلس هناك وحده ويفرش أمامه صحيفة اليوم، وينقب فيها، ثم يقلّب الصفحات وهو يشرب فنجان إكسبريسو، وخيوط الدخان تتصاعد منه مثل أنفاس أرواح معذبة. كان وجه الدكتور نديم يحمل آثار صراع نفسي، ولم أستبعد أنه يعاني من غرام فاشل. كلنا في هذا البلد نحمل آثار العذاب النفسي، إن لم يكن لأسباب شخصية فبسبب الأوضاع العامة، أليس الأمبير لونا من ألوان التعذيب؟ وقل الشيء نفسه عن آبار المياه، والمضخات التي تحفر في الرأس ثقبا يعادل بتأثيره المزعج إكليل الشوك الذي أحاطوا به رأس السيد المسيح. لقد وضعونا على الصليب منذ أول شرارة سبقت هذه الحرب. أصبح كل إنسان منا في خندق معركته الخاصة. إن لم تحمل السلاح وتحارب فأنت مزروع في ميدان معركة بالإكراه. استراحته الثانية كانت في نادي القصر، وهناك يخالط بعض الشعراء الشباب، وأحيانا يتكلم معهم كأنه يلقي قصيدة، حرك يديه وعبّر بقسمات وجهه. وقررت بعد أن أنتهي من هذه التحريات أن أبحث عن اسمه في الإنترنت، ربما أجد له قصيدة منشورة، فالأطباء يحبون الأدب، مثل المحامين والمهندسين. كانت الحدود بين الفن ومتطلبات الحياة تذوب، وعززت الظروف من هذا الاتجاه، فمآسي حياتنا تجبر حتى الحجر على أن ينطق.
٭٭٭
لم يخرج الدكتور عن هذا الروتين ولو لمرة خلال أسبوع من التحريات. وكنت أستحي منه حين نلتقي على سلالم البناية وألقي عليه التحية. كيف يواتيني وجداني أن أتلصص عليه وأمثل أمامه دور الجار المحب؟ لم نخرب بلدنا بأيدينا فقط، إنما لوثنا أنفسنا بهذه الروح المهنية. تكنوقراط.. كذبة جديدة، ولا داعي لتهذيب الألفاظ، لقد أتقنا دورنا على مسرح الحياة، وتحولنا جميعا إلى ممثلين.
٭٭٭
غاب الدكتور نديم عن مرمى عينيّ في مشوار واحد. وكان هذا هو الأخير في سلسلة تحرياتي الخائبة. كنت أتابعه من بعد عدة ياردات. وكالعادة مرّ من أمام بريد الجميلية في طريقه إلى السياحي، ثم انعطف بلا سابق إنذار نحو عبارة التموين (بجانب شعبة العمال). انتظرت دقيقة كي لا ألفت انتباهه ثم تبعته. كان الظلام يرتع في العبّارة مع ضباب المساء. وللأسف ساعده ذلك على الذوبان من أمام نظري. لقد اختفى كأنه ملح ذاب في الماء. أسرعت نحو المنفذ الآخر. وأيضا لم أجده. كانت حركة المرور خفيفة. ولا يوجد على الرصيف غير خمسة أو سبعة أشخاص. أوسعت خطواتي إلى السياحي، وبالصدفة مررت بمحاذاة مكتبة الأصمعي، ورأيت خيالي المشوه مطبوعا على الواجهة، وخلفه لمحت مجموعة مؤلفات جديدة، منها رواية «كتيبة سوداء» للدكتور محمد المنسي قنديل. صدفة تركت أثرها في قلبي. فهذا الكاتب طبيب أيضا مثل الدكتور نديم. أليس كذلك؟ وهو من السلالة الموهوبة نفسها التي ينتمي لها الدكتور العجيلي مؤلف «قناديل إشبيلية». من منا لا يعرفه؟ وسومرست موم مؤلف «الحجاب الملون»، أجمل رواية عن علاج أدران الحياة بالانغماس في الأوبئة. وفيل ويتاكير، جاري في أيام جامعة نوتنغهام، فقد كنا نسكن في بناء واحد. يا لها من أيام ذهبية لا تنسى.
٭٭٭
بعد هذا الحادث بحوالي شهر كلمتني ليدكا بالهاتف. كان صوتها يرتعش وهي تحتج، فالدكتور لم يحسن سلوكه، ولا يزال يعاملها مثل…. وذكرت كلمة باللغة البولونية. طبعا لم أفهم، لكن أخذتها بأسوأ الاحتمالات، ربما قالت: مثل عاهرة. هذا غير ممكن. حزمت الأمر في نفسي، فقد رأيته بأم عيني يعيش بطهارة قديس، وقلت لها: والله يا مدام الدكتور مثل ليرة الذهب.
قالت بامتعاض: هل تعتقد أنني أكذب؟
– عفوا. لم أقصد.
– لكنه اليوم فقط وضع زبالته أمام باب بيتي.
وشعرت بالدهشة. ما علاقة الغزل غير العذري بالزبالة. لا بد أن السيدة ليدكا تتوهم، ولعلها بحاجة لاستشارة طبيب نفسي وليس رجل قانون. إنما لم أفتح لها قلبي. كيف يمكن أن أضرب سيدة شفافة ومخلصة بحجر من هذا النوع؟. يكفي أنها صامدة معنا في وجه الزوبعة. حتى بنات وأبناء عمي ركبوا قوارب الموت ولجأوا إلى كريت ومالطا وألمانيا، ودخلوا في دورة شتات غريبة وعجيبة. لقد انهاروا أمام المحنة وبقي رأس ليدكا مرفوعا. ولذلك وعدتها أن أهتم بالموضوع. كنت مشغولا بملف بنت جامعة رماها متعصب بماء النار وشوه وجهها. وكانت الأوراق والصور المرعبة أمامي في ملف بلاستيك أصفر. أغلقته وارتديت معطفي، فقد كنا في نهايات الشتاء، والسنونو يدور في سماء حلب بأعداد قليلة وبحذر لأن الغربان تقف لها بالمرصاد. وتوجهت فورا لاستشارة عدنان، وهو زميل لي في الجنائية، وكنا ندرس معا في نوتنغهام، غير أنه سبقني بالعودة، وحصل على وظيفة في الشرطة. وهو الآن ضابط تحقيقات. أمام باب الفرع عرفني الحارس، وابتسم لي، ورأيت سنه الذهبية تلمع في فمه. وأدى لي التحية، ثم قال أوتوماتيكيا: سيادة الرائد مشغول للأسف باجتماع. وفورا شعرت بغصة. فكل الناس تتطور إلا أنا. ويتاكير ينشر رواياته في دور نشر مرموقة، وعدنان يصل لرتبة رائد، وأنا ما أزال أتسكع على عتبات فروع الأمن وفي ممرات المحاكم. يا لها من نتيجة! وضعت يدي في جيبي. كانت النسمات لطيفة في هذه الأمسية، وبدأت أسير الهوينى، وذهني صفحة بيضاء. تخطيت كنيسة جورج سالم في شارع فيصل. ثم قاربت الباب الجنوبي للحديقة العامة. وجذبتني الأشجار القليلة الخضراء. كان نهر المدينة يسيل من بينها بشكل خيط رفيع رمادي أو أبيض، حتى المياه شحب لونها. وكان تمثال المربي خليل هنداوي يواجهني بنظراته الهادئة كأنه يعاتب أبناء هذا الجيل المارق. وهناك كانت المفاجأة، لمحت الدكتور نديم على كرسي من الخشب تحت ظل شجرة، وبين يديه عدد قديم من إحدى الجرائد.
٭٭٭
اقتربت منه وألقيت عليه التحية. فنظر لي بوجوم وقال: نعم؟ هل تكلمني؟
قلت له بوجه بشوش: طبعا دكتور. أنا أكلمك. قلب نظراته في وجهي، ثم مسح وجهه بيديه كأنه يغسله وقال: وهل أنا دكتور؟ تخيلت أنه يلهو معي، فهو أيضا لا يخلو من روح الدعابة، كل الشعراء فكاهيون. هكذا أعتقد. وقلت له: أحسدك على هذا المزاج يا دكتور. لكن لم تتبدل ملامحه. ونظر لي باستغراب وقال: من فضلك هل أنا أعرفك؟ وهنا انتبهت أنه لا يمثل. يا لها من مصيبة. يبدو أنه نسيان مؤقت أو عمى ذاكرة. وربما هذا ما استفز ليدكا. إنه مرض غريب، وغالبا ما يضرب في ساعات تبدل الحالة النفسية، ثم يزول كأن شيئا لم يكن. ولكن كيف لطبيب مشهور أن يسقط في حبال مرض خطير من هذا النوع؟ وحاولت أن أساعده على التذكر، ولما يئست لم يبق غير أن أحمله إلى بيته.
ركبنا أول سيارة أجرة وأنا أحاول أن أشرح له حالته. تخيلوا أين وصلنا.. المحامي يعالج الطبيب! وفي السيارة وضع الدكتور نديم رأسه على ظهر المقعد، وأغمض عينيه من الارتباك والخجل، وكان الراديو يعزف لحنا وطنيا، ولم أعرف المناسبة. هل بسبب دورة العنف التي لا تبدو لها نهاية، أم أنه عيد نسيت موعده؟ كانت ذاكرتي أنا أيضا تتراجع، أنسى المواعيد المهمة وأرقام الأضابير وتواريخ جلسات الاستئناف، جزء منا جميعا يموت، حتى المدينة تمسح ماضيها، ولا تعرف كيف تشتري شيئا من المستقبل. ثم سمعت صوت تنفس الدكتور. لعله شعر بالأمان وأخلد للنوم. وأخذت منه نظرة، ورأيت أن التعب لا يزال يغطي وجهه مثل هذه الشوارع التي يدب عليها الناس بلا أي أمل.
يا لها من حياة.
سيعذبه النسيان مثلما تعذبنا الذكريات المؤلمة. وبدأت أفكر كيف يجب أن أزف هذا الخبر للسيدة ليدكا..
٭ كاتب سوري
صالح الرزوق