صديق باشا القادري شخصية سجالية بالمعنى الحرفي للكلمة، حياة زاخرة بالمحاولة والانكسار والنهوض والعودة إلى العمل من جديد، كفاح متصل دفاعا عن أفكار يؤمن بها، ربما لا نتفق مع بعضها لكنها زاخرة وفوارة، في مرحلة تاريخية شكلت ومازالت تشكل جغرافية وتاريخ المنطقة، هذه الشخصية لم تأخذ حقها من الدراسة والاهتمام؛ فمن هو الجنرال الابيض؟
صديق رسول القادري، ولد في مدينة السليمانية عام 1894، عراقي كردي من قبيلة الهموند الكردية المعروفة، انتقلت عائلته إلى بغداد واكمل دراسته الابتدائية والاعدادية فيها، ثم درس في المدرسة الحربية في استانبول،على عادة ابناء الطبقات الوسطى والعليا في بدايات القرن العشرين، اذ أن التخرج في المدرسة الحربية يعني مستقبلا مفتوحا امام الرجل ليكون فاعلا في الحياة والمجتمع. وقد برز عدد من الضباط العراقيين الشباب الذين تخرجوا في المدرسة الحربية في استانبول ايام كانت عاصمة الامبراطورية العثمانية التي كان العراق جزءا منها، ولعبوا ادوارا مميزة في تاريخ العراق المعاصر، بعد تحول ولائهم من الدولة العثمانية إلى الحسين بن علي شريف مكة المدعوم من الحلفاء، إبان الحرب العالمية الاولى، وهكذا وبالسياق نفسه، تخرج صديق رسول القادري عام 1914 في المدرسة الحربية برتبة ملازم وشارك في الحرب العالمية الاولى على جبهة القفقاس، ليسقط اسيرا هو وكتيبته بيد قوات روسيا القيصرية، وضمن استمالة عدد من الضباط الاكفاء من قبل الحلفاء، تم الطلب من القادري الانضمام إلى الجيش القفقاسي، ضمن تشكيلات الجيش القيصري، لأن القفقاس في هذه السنوات تحديدا كان قد حصل على نوع من الحكم الذاتي، وفعلا قام الرجل بتشكيل وهيكلة الكتائب العسكرية بشكل لافت وتدرج في الرتب العسكرية بسرعة البرق حتى اصبح بكباشي (مقدما) في الجيش القيصري عام 1917 في العام الذي حدثت فيه ثورة اكتوبر.
يقول القادري في مذكراته «مذكرات القادري، بيان الثورة الروسية العظمى وايضاح غوامضها»، إن كل جهوده في إعداد كتائب التتار(المسلمين الروس كان يطلق عليهم هذا الاسم) قد ذهبت سدى، في الفوضى التي حلت بالبلد، وأراد أن يرحل لكنه كان خائفا من سقوطه بيد اللجان الثورية، التي كانت تنتقم من الضباط القيصريين، وعبر رحلة مضنية مليئة بالمغامرات، وصل اخيرا إلى منشوريا في اقصى شرق الاتحاد السوفييتي الجديد، ليجد انها قد تحولت إلى موئل للجيش القيصري، الذي بات يعرف بالجيش الابيض والذي يتهيأ لخوض المعارك ضد الجيش الاحمر (البلشفي)، فيتعرف على القائد الاعلى للجيش الابيض الجنرال جريجوري ميخائيلوفيتش سمينوف، وهو احد جنرالات القيصر المميزين، الذي شكل حكومة مؤقتة في سيبيريا عرفت بحكومة شرق سيبيريا المؤقتة، التي كانت تحظى بدعم اليابان والصين في هذه الفترة.
عمل الضابط العراقي في صفوف قوات الجيش الابيض وتدرج ليصل قائد الفيلق القفقاسي الذي كان يعرف بالقوات الروسية الاسلامية، ليصل إلى رتبة ميجور جنرال (فريق)، ليخوض العديد من المعارك ضد الجيش الاحمر، ويمر بانتصارات وانكسارات عدة، حتى طلبت منه القيادة العليا للحكومة المؤقتة نهاية عام 1920 أن يرحل إلى مملكة الحجاز، ليطلب العون والدعم المعنوي من الملك الحسين بن علي ملك الحجاز، بصفته حاكما للاراضي الاسلامية المقدسة (كما كان قد طرح نفسه ملكا للعرب )، وإن كلمة من الملك الذي يحكم (مكة والمدينة) المدينتين الاكثر قدسية لكل مسلمي العالم، ستكون مؤثرة جدا في دعم القتال ضد البلاشفة، وطلبت الحكومة المؤقتة من الجنرال قادري أن يحمل رسالة إلى الملك يطلبون منه رسالة جوابية موجهة إلى مسلمي الاتحاد السوفييتي تقول لهم إن البلشفية حركة ضد الاسلام ويجب أن يحاربوها.
شد الجنرال القادري الرحال من منشوريا عبر كوريا ثم اليابان التي مكث فيها مدة قصيرة انهالت عليه فيها الصحافة والجهات الرسمية تستطلع منه الموقف، وعقد عدة مؤتمرات صحافية شرح فيها الوضع، ثم تحرك على باخرة يابانية إلى بومبي في الهند، ومنها عبر رحلة بحرية إلى جدة ليصلها في يناير 1921 ليستقبل استقبالا رسميا حافلا من قبل المملكة الحجازية الوليدة حديثا، وليلتقي بالملك الحسين بن علي وليكرم وفادته ويقضي معه اسبوعين، يحمله بعدها الملك رسالة موجهة إلى كل مسلمي الاتحاد السوفييتي كما طلب ومعها قطعة من كسوة الكعبة موشاة بآيات قرآنية مطرزة بخيوط الذهب، وقطعة من غطاء القبر النبوي الشريف، هدايا لمسلمي الشرق الاقصى.
يعود الجنرال قادري إلى منشوريا عبر الطريق نفسه الذي قدم منه ليصل إلى اليابان، فتأتيه الاخبار الصاعقة بانهيارات الجيش الابيض، وعندما يستعلم عن الامر يفهم أن الولايات المتحدة قد قلقت من تمدد النفوذ الياباني على حساب الدولة السوفييتية الناشئة، ما يجعلها تمارس ضغوطا على اليابان والصين للتخلي عن دعـــم الجيــــش الابيض، وهكذا تنهار قطعات هذا الجيش في غضــــون مدة وجيزة، بل حتى الجنرلات الروس لم يعد مكانهم آمنا في اليابان، ما دفع الجنرال قادري للتحرك إلى السفارة البريطانية طالبا موافقة المندوب السامي البريطاني بالسماح له بالعودة إلى وطنه، في هذه الحقبة كانت بريطانيا تلملم ما تستطيع من موارد وكفاءات لدعم حكومة الملك فيصل الوليدة، فيبرق السير بيرسي كوكس إلى الجنرال صديق القادري طالبا منه العودة للعراق.
وهنا يكتب صديق باشا مقطعا في مذكراته تتجلى فيه السخرية المرة، فبعد حوالي عشر سنوات على فراق وطنه تطأ قدمه ارض العراق في ميناء البصرة، فيقول، «خرجنا من ميناء البصرة مسافرين عاديين وتورطنا من جديد في غوائل الشرق ومشاكله وأذاه، وقد شاهدت بعيني التدهور والانحطاط هناك. لانني بذلت جهدي وانا افتش عن عربة أو سيارة لعدة ساعات فلم احصل بعد الجهد الجهيد الا على سيارة قديمة رديئة من انقاض جيش الاحتلال، وهناك في ميناء البصرة بينما كنت أمر بين كراديس الحمالين والموظفين والجماهير الممزوجة، واذا بدراهمي قد نشلت بين الضوضاء والجلبة المعروفة في ذلك الميناء، وهكذا فديت دريهماتي التي اعددتها للايام السود فكانت هذه المصيبة آخر الادوار التمثيلية لروايتي المحزنة، في حين انني كنت غائبا عن صوابي بتأثير آلام المبضع الذي يقطع عروقي جراء ما شاهدت من التدهور والسقوط… آه ايها الشرق».
لكن هذه لم تكن نهاية الرواية الحزينة كما توقع الجنرال، فقد طلب منه المندوب السامي أن يعمل مفتشا عاما لحكومة (جنوب كردستان) التي عرفت بحكمدارية السليمانية، التي شكلتها بريطانيا بقيادة الشيخ محمود الحفيد، لتقف بوجه مطامع تركيا في ما عرف بمشكلة الموصل، وليسيطر على كردستان العراق المتمرد. وفعلا سعى الجنرال قادري جاهدا لتكوين حكومة محلية حديثة في السليمانية، بمشاركة عدد من الضباط السابقين والشخصيات الكردية المدنية، لكنه يصطدم بطموح الشيخ محمود الحفيد، الذي يريد أن يعلن نفسه ملكا لكردستان بموازاة فيصل ملك العراق، ولا يستمع لمشورة الجنرال قادري بأن هذا الامر سيضر الاكراد، بل سيعرضهم لغضب بريطانيا، الذي لا يستطـــيعون مواجهتــه وسيدمرهم في نهاية المطاف، وهذا ماكان بعد سنة، وهنا يقدم الجنرال استقالته ليعود إلى بغــداد وليعمل في عدد من الوظائف الادارية كقائم مقام ونائب متصرف في عدد من المدن العراقية، لكن قدره الروسي لا يريد منه فكاكا.
كتب المؤرخ الكردي زين النقشبندي مقالا استذكر فيه حادثة حصلت في بغداد مطلع عام 1930 وكتبت عنها مجلة «الدنيا» المصورة المصرية في تحقيق مصور بتاريخ 22/يناير/1930، عن شاب روسي جميل اشقر دخل العراق متسللا من الحدود الايرانية مع ثلاث شباب، وعندما ألقت الشرطة العراقية القبض عليه ادعى انه ابن القيصر نيقولا رومانوف، وانه هرب من الاتحاد السوفييتي عبر رحلة فانتازية إلى ايران، ومنها هرب من مطاردة البلاشفة له فدخل العراق، فقابل البوليس دعواه بالسخرية والنكران وارهقوه بالسؤال والتحقيق، ولكن الفتى اصر على قوله وراح يروي قصته في وثوق واطمئنان، بدون أن يجد البوليس فيها تناقضاً أو اضطراباً ورآه الكثيرون من افراد الجالية الروسية وبينهم اشخاص من الحزب القيصري البائد يعيشون في بغداد مازالوا يحملون لقيصرهم المنكوب واسرته ذكريات الولاء فاجمعوا كلهم على أنه صورة طبق الاصل من ولي العهد الذي قتله البلاشفة وطبقوا صورة ولي العهد القديم عليه فلم يكن ثمة فروق الا في السن. وبعد أن اطلقت الشرطة سراحه آوى إلى منزل شخص كريم يسكن في بغداد وقد ايقن أن الفتى ابن مليكه السابق فأحسن مثواه وأكرم وفادته ويعتقد المؤرخ زين النقشبندي أن هذا الشخص هو الجنرال قادري.
مات الجنرال صديق القادري في بغداد في ستينيات القرن العشرين كما أن ورثته توفي اغلبهم وماتزال العديد من كتب الجنرلات مخطوطة تنتظر من يفك طلاسمها وينشرها للعلن لنعرف بعضا من خفايا هذه الحقبة الصاخبة من تاريخنا.
٭ كاتب عراقي
صادق الطائي
مقال جميل جدا
شكرا على معلوماتكم الدقيقة والتي جلبت إنتباهـي و إن سمحتم أريد أن أظيف على معلوماتكم و مقال المؤرخ الكردي السيد زين النقشبندي شيئا و هـي بعد تسليم الأمير الكسي لعائلة الشيخ القادري من قبل الجنرال صديق باشا فرعاه الشيخ و تبناه و أعتبره كأحد أبنائه و غير أسمه الى أحد أسماء الدينية و بالأخرى العربية وبعد فترة انتقل الى تكية الشيخ في كركوك و تزوج هـناك ثم إنتقل الى محافظة السليمانيه و أكمل حياته فيهـا و توفي هـناك تاركا ورائه ثلاث بنات و ولدان و عشرات من الأحفاد لايزال قسما منهـم على قيد الحياة والسؤال المطروح لعائلة الشيخ الكريم عن تأريخ تبنيه من قبلهـم لأن المعلومات مثبته في سجلات الأحوال المدنية الخاصة بهـم
مع التقدير