إن ما يلفت الانتباه في المعارك التي تدور اليوم على أرض العراق، هو الكم الهائل من الرموز التي طرحت، وما حملته هذه الرموز هي على مستوى عال من الاهمية لمن يريد أن يقرأ المشهد.
فالقوى المتقاتلة من الطرفين تقاتل تحت رايات ورموز «إسلامية»، وكما هو معلوم أن الراية أو العلم، هما أحد أهم الرموز عبر التاريخ، فالراية رمز تحتاجه الجموع البشرية للتوحد تحت ظله، إذ يمثل مركزا محوريا في الجهد العسكري، يموت المئات في سبيله وفي سبيل حمايته، ورفع الراية عاليا دلالة على رمزية الرفعة والانتصار.
لنحاول أن نقرأ رموزالرايات المرفوعة اليوم في معارك العراق؛ الراية الاولى هي راية «داعش» وهي راية «حديثة ـ قديمة» ظهرت في وقت متأخر في العراق؛ راية سوداء كتبت عليها بنمط قديم من الخط العربي عبارة «لا اله الا الله»، بينما تتوسطها بقعة بيضاء كتبت عليها عبارة وكأنها تقرأ من الاسفل إلى الاعلى، لان الجملة المكتوبة هي «الله « تحتها «رسول» تحتها «محمد» والسبب، كما يشير البعض، إلى أن اسم الجلالة يجب أن يكون هو الاعلى. أما الراية التي تقف في وجهها فهي العلم العراقي بألوانه الثلاثة المعروفة، الاحمر في الاعلى ثم الابيض في الوسط وفي الاسفل الاسود، وفي المساحة البيضاء كتب بخط كوفي «الله اكبر»، يذكر أن الرئيس الأسبق صدام حسين كان قد خط هذه العبارة بيده، إبان الحملة الايمانية التي اطلقها في حقبة التسعينيات من القرن الماضي، ليضيف إلى الوان العلم العروبي الحديث لمسة اسلامية، لذا اصبحت تعرف باسم «راية الله اكبر» بعد أن حذف منها الحكام الجدد النجمات الخضراء الثلاثة، التي كانت تتوسط المساحة البيضاء، كما أن هنالك رايات فصائل الحشد الشعبي، منها راية عصائب اهل الحق البيضاء تتوسطها خريطة العراق باللون الاخضر يحيط بها سيفان باللون الاحمر، وتحت خريطة العراق صورة مصحف مفتوح تظهر فيه آية قرآنية «إنهم فتية آمنوا بربهم»، كما أن هناك راية منظمة بدر الخضراء وفيها خريطة العراق باللون الاصفر مع بندقية وآية قرآنية «وقد نصركم الله ببدر»، كما توجد راية حزب الله العراقي «حركة النجباء» بأرضية صفراء وشمس خضراء في الوسط تظهر فيها يد تمسك بندقية تعلوها آية قرآنية «وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم».
القراءة الاولى لرموز «رايات المعركة» انها جميعا رموز متكئة على القيمة الدينية الاسلامية، مستلهمة مواقف ماضوية تحاول بعثها، والمفارقة أن رموز الطرفين المتحاربين هي رموز للمصدر الديني نفسه، وبذلك يكون الصراع على امتلاك التأويل لهذه الرموز. ومن المعتاد أن نشاهد في الصراعات إهانة رمز الاخر عند كسره وذلك بتمزيق العلم أو حرقه أو سحقه بالاقدام، إلا أن معارك العراق مختلفة من حيث المعطيات، فلا أحد يجروء على فعل ذلك، ففي فيديو مصور لأفراد من الجيش العراقي ومن الحشد الشعبي، بعد سيطرتهم على مناطق كانت تحت سيطرة «داعش»، نلاحظ أن كل ما قام به الجندي هو نزع علم «داعش» ورفع العلم العراقي مكانه، أي استبدال رمز المنتصر برمز المهزوم، بدون الجرأة على تمزيق أو حرق أو تشويه الرمز المهزوم، وبذلك تكون راية «الله اكبر» انتصرت على راية «لا اله الا الله»، بينما نحن قد اعتدنا أن نرى على سبيل المثال أعلاما امريكية او إسرائيلية، أو حتى لدول اخرى مثل، العلم السوري في الحرب الدائرة في سوريا اليوم، هذه الاعلام تحــــــرق أو تمزق أو تداس بالاقدام، في سلوك رمزي يعني كسر العدو، لكن هذا لم يحصل في حرب العراق، إنما الذي يحدث هو تبادل للرموز فقط، وكأنه يشــــير إلى انتــهاء جولة صراع لتبدأ جولة اخرى تحت ظل الراية الجديدة.
لا يفكر الفرد عادة بكيفية تحدر الرمز ووصوله له، كما أنه لا أهمية لمصدره، بل أن كل الاهمية تنصب على قيمته المعنوية، كمحور جامع تلتف حوله المجموعة ليشكل لهم ما يعرف بـ»الهويات المستعارة»، التي تلعب دورا مركزيا في تعريف الآخر بالذات المتجمعة حول الرمز، وتمييزها عن الآخر المختلف عنها، حتى لو كان هذا الاختلاف بسيطا أو شكليا أو تأويليا، لكنه يجب أن يكون اختلافا بينا. وهنا يكمن عدد من المفارقات في قراءة الرموز، فالمعروف في كتب التراث العربي عن أقدم الرايات الاسلامية أنها راية الرسول محمد «ص « المختلف عليها، إذ تذكر كتب السيرة مثلا: سُئل الْبَرَاء بن عَازِبٍ «رض» عَن رَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ «ص» مَا كَانَتْ ؟ فَقَالَ : كَانَتْ سَوْدَاءَ مُرَبَّعَةً مِنْ نَمِرَةٍ. رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي.. اذن نحن هنا ازاء تراث جامع لكل الرايات المتحاربة اليوم، ونستطيع القول إن الفرق والدعــــوات الإسلامية، تبنت ألوانا معينة لشعاراتها تمييزا لها عن غيرها من الفرق الأخرى. ومن أجـــل أن تبرر اختيارها لهذا اللون أو ذاك، وضعت أحاديث أو اخترعت روايات فحواها، أن الرسول «ص» استعمل هذا اللون راية له أو فضل ذلك على غيره. فقد روي أن اللون الأسود والأبيض كانا من ألوان رايات الرسول «ص»، وكما ذكر أن الرسول «ص» فضل كذلك الأصفر والأخضر.
ونحن نقرأ في كتب التاريخ الاسلامي أن اختيار لون الراية والعبارات التي تكتب عليها تحكمه الصدفة، وفي بعض الاحيان الظروف السياسية الموجبة للاختلاف، فراية الامويين كانت بيضاء، مما حدا بالعباسيين والعلويين المجتمعين على الثورة ضد الامويين إلى اختيار اللون المعاكس وهو الاسود لونا لرايتهم، وعندما انشق العلويون عن شركائهم العباسيين، تحولوا إلى اللون الاخضر الذي اصبح رمزا لهم، الا أن الدولة الفاطمية الشيعية عادت إلى اللون الابيض رمزا لرايتها، مستلهمة راية الرسول «ص» مرة اخرى ومستخدمة اللون المضاد لراية الدولة المنافسة «راية العباسيين السوداء».
إن لأعلام الدول العربية التي تشكلت حديثا قصة اخرى، فقد فارقت علم الدولة العثمانية التي انسلخت عنها، وعلى الرغم من أن الدولة العثمانية كانت تطرح نفسها على انها دولة الخلافة، الا أن رايتها لم تحمل كلمات مقدسة كاسم الجلالة أو الرسول «ص» أو آية من القرآن، بل حملت رموزا اعتبرت بالتقادم اسلامية واهمها رمز الهلال والنجمة الخماسية والارضية الحمراء، وعندما انسلخت الدول العربية حديثة النشوء بعد الحرب العالمية الاولى، كانت اولى الرايات المرفوعة بوجه الراية العثمانية هي راية الحسين بن علي شريف مكة إبان تمرده على العثمانيين عام 1916، وعلى الرغم من مكانته الدينية «كمتحدر من نسل الرسول «ص» وكحاكم للاراضي المقدسة في الحجاز»، إلا انه كان يطرح نفسه كملك للعرب ورايته كانت عبارة عن مثلث أحمر اللون تلتصق به ثلاثة ألوان أفقية متوازية هي الأسود في الأعلى متبوعا بالأخضر في الوسط والأبيض في الأسفل، وهي الالوان التي ستمثل مصدرا لاغلب اعلام الدول العربية الحديثة في القرن العشرين، ومرجع هذه الالوان، كما قيل، تجسيد لوني وتشكيلي لابيات شعرية لشاعرمتأخر عاش بعد سقوط الخلافة العباسية على يد المغول هو صفي الدين الحلي «1276م-1349م» التي يقول فيها:
سلي الرماح الـعوالي عن معالينا
واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا
بيــض صنائعنا سود وقـائعـنا
خضر مرابعنا حمر مواضينا
واخيرا يمكننا أن نلاحظ ظاهرة جديدة في المعارك التي تدور اليوم في العراق، حيث يظهر دور جديد للرايات غير مسبوق، وهو قيام تنظيم «داعش» بتفخيخ راياته كي تنفجر بمن يحاول ازاحتها أو إسقاطها، وبذلك توقع آخر الخسائر قبل أن تهوي راية «لا اله الا الله «، لترتفع مكانها راية «الله اكبر» ولتستمر دوامة الدم تحت الرايات المتصارعة.
٭ كاتب عراقي
صادق الطائي
مقال شيق غير مسبوق
شكرا لك يا أستاذ صادق – أشهد أنك أجدت الوصف
السؤال هو : ما اقتراح حضرتكم للراية القادمة سواء للعراق أو للعرب
ولا حول ولا قوة الا بالله