صناعة الإرهاب ومشروع الشرق الأوسط الجديد

يبدو أن أحداث الأربع سنوات الأخيرة، جمعت في أذهان الكثيرين، المثقفين وغير المثقفين، ضبابية الرؤية والتقدير الصحيح لما يحدث بشكل متسارع في المنطقة العربية.
وبعيدا عن نظرية المؤامرة التي أسرت كثيرين من أشباه المثقفين ومن أدعياء السياسة ومحبي تقريب الميكروفونات، أقول في شيء من التواضع العلمي وكثير من التحليل الإستراتيجي والبحثي المعمق، أن المعطى الثقافي للعروبة الذي استقطب جزءا منه النيوليبراليون الجدد، الذين انضووا في ركاب الأمركة باعتبارها دمقرطة جاهزة، وتخلّوا بشكل مفضوح عن البديهيات التأسيسية في الصراع الديمقراطي، وراهنوا في أن تحمل الدبابة الأمريكية معها التحولات، من دون الوقوف على طبيعة مصالح الهيمنة الصهيوأمريكية، قد تفاقمت معطياته وأصبح الوضع أتعس بكثير وأخطر مما يتصور. فالمنطقة العربية تمرّ من التبعية الى الاحتواء إلى خطر زوال كيانات الدولة القطرية، ضمن استراتيجية التقسيم، وإعادة تشكيل المنطقة تحت مسمّى الشرق الأوسط الجديد، الذي سطّره المحافظون الجدد في الإدارة الأمريكية منذ أواخر القرن الماضي، الذي نظّر له أمثال برنار لويس ولوران مورافيتش وبيكر هاملتون، فكريا وتبناه جورج بوش الابن ودونالد رامسفيلد وكونداليزا رايس سياسيا.. وهو محلّ مصادقة من البيت الابيض.
فالمشروع الغربي يرمي إلى تقسيم المنطقة وتفتيت الدول العربية إلى دويلات وكنتونات صغيرة ممزّقة على أساس طائفي ومذهبي. ولعلّ ما يشهده العالم العربي من موجات عنف وصراعات دموية تحت عناوين دينية وعرقية وطائفية، أكبر دليل على نفاذ هذا المشروع تطبيقا بعد تنظير. وتأكيدا لذلك يحيلنا واقع السودان اليوم على تحقّق الطموح القديم لابن غريون المؤسّس الأوّل للكيان الصهيوني. كذلك في ما يبدو عليه عراق اليوم من ضياع وتفتّت لا ندري متى يعود إلى عروبته وإطاره القومي والإسلامي. فقد دأب المحافظون الجدد في التعامل مع شعبه كمجموعة أقليات لضرب الهوية القومية للشعب العراقي، وروّج هؤلاء لاستبدالها بالهويات الطائفية وهو مسعى لنزع الانتماء القومي لدى الأجيال العربية المتعاقبة نحو حالة من اللاّانتماء تفسّرها حالة اللاّجئين السّوريين هذه الأيام في بلاد المهجر والعنصرية الأوروبية تتصدّى لهم بالأسلاك الشائكة (حالة المجر ومقدونيا مثالا).
ذاك شيء من فهم يدفع باتّجاه الإبقاء على حالة التفكّك والانقسام تسود المنطقة، بالمقابل تظهر إسرائيل في شكل الدولة المركزية الوحيدة المتماسكة التي ستحكم المنطقة، وفق مشروع هؤلاء تحقيقا لحلم اسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، ولا يستقيم ذلك إلّا بتطبيق ما بات يعرف اصطلاحا منذ 2003 بالفوضى الخلّاقة، التي من شأنها تسهيل تحقيق الأهداف المدروسة لتقسيم العالم العربي. وبات لا يخفى على كثيرين ما قدّم لذلك من وثائق خطيرة لعلّ أهمّها وثيقة برنارد هنري لويس سنة 1983، التي أقرّها الكونغرس الأمريكي كمشروع قابل للتّطبيق، وملخّصها تفتيت الشرق الأوسط إلى أكثر من ثلاثين دويلة مذهبية إثنية وعرقية طائفية.
وقد سبقت مخطّط برنارد لويس اليهودي المتصهين خطّة «بينون» سنة 1982 وهو العقل المدبّر لحزب الليكود، زمن ارييل شارون، وتقضي هذه الوثيقة أيضا بتفتيت المنطقة وتقسيم كل دولها تقريبا، تداولا وتعاقبا استنادا إلى الحدود الهشّة بين الدول العربية، التي وضعت اثر سايكس بيكو 1917 من دون اعتبارات هوياتية أو سيادية. ولا ننسى تصوّر الكولونيل بيترز رالف (حدود الدم) سنة 2006، وهو الناشط في اللّوبي الصهيوني داخل مراكز القرار الأمريكية الذي وجّه رؤيته التقسيمية أساسا نحو السعودية وإيران وباكستان.
تليها خريطة أتلانتيك 2008 لجيفري غولدبرغ الجندي السابق في الجيش الصهيوني والناشط بدوره في أروقة السياسة الأمريكية.
وكلّ هذه المخطّطات ارتبطت بدوائر صنع القرار، ونشرت للعلن في صحيفة «النيويورك تايمز» و»وول ستريت جورنال» ومجلة «أتلانتيك» ومجلة «كيفونيم»، الإصدار الرسمي لقسم المعلومات بالمنظمة الصهيونية العالمية، والخرائط منشورة أيضا في كتب شهيرة ونطق بها منظّروها في أكثر من مؤتمر، وهي أخطر بكثير من الطروحات الأخرى التي قدّمت في السنوات الأخيرة عبر مراكز الدراسات الاستراتيجية في أمريكا وإسرائيل تحديدا.
ولعل دعم أمريكا والغرب للإسلام السياسي، بعد الانتفاضات العربية ليس الا مدخلا تكتيكيا للفوضى الخلاقة. فهم يدركون جيدا أن هاته الحركات الإسلامية المعتدلة ستكون متساهلة في مرحلة ما مع الحركات المتشددة دينيا، وهو ما حدث فعلا في تونس بين حركة النهضة زمن الحكم وأنصار الشريعة. وهذا الهامش من الحرية سمح للجماعات المتشددة بالعمل ميدانيا والتكتيك التخريبي الممنهج الذي اتضحت صورته علنا في ما بعد وهي حالة آنية متواصلة. ويستتبع الحديث عن هذه الهجمة التخريبية المخطط لها غربيا بتواطئ خليجي ما حدث في ليبيا ويحدث في سوريا من قتل ودمار وإرهاب يظهر إعلاميا في أبشع الصور التي لا يمكن توقعها، ليتجلّى الخداع الغربي والأمريكي تحديدا بما سمّي التحالف الدولي ضد «داعش» وهو في الحقيقة تحالف كاذب وصورة مموهة ومغالطة بالنظر إلى جدية التعامل مع تنظيم يتمدد كل يوم وتتوالى بؤره هنا وهناك.
نخلص إذن إلى أن ما يصدر إعلاميا على أنه عدو ليس إلا يدا منفذة وموجهة من طرف الدول نفسها التي وجهت مثيلتها بالأمس لمحاربة السوفييت في سبعينيات القرن الماضي، ونتحدث هنا عن تنظيم «القاعدة». فالمسار متشابه والمشروع واحد بدأ تنفيذه على الأرض منذ ثمانينيات القرن العشرين وترجمته بدت واضحة في إسقاط أنظمة عربية بالقوة، وتخريب الدول وتفتيتها من الداخل بجعل مكوناتها الاجتماعية تتقاتل تحت مسميات طائفية واثنية. وهذا الاحتراب على الوهم انتهى إلى حروب أهلية في ليبيا وسوريا بتشجيع ودعم غربيين تحت بند حق الشعوب في الانتقال الديمقراطي، ولكنني أعتبر أن هذا المشهد الدموي الأخير في هاتين الدولتين ما هو إلا تخطيط امريكي خليجي لحماية الانظمة الملكية في الخليج من السقوط، بجعل شعوبها تحسب ألف حساب لأي تحرك شعبي، والصورة المفزعة للموت والدمار في سوريا كفيلة بثني هاته الشعوب عن التفكير ولو للحظة في الثورة على حكامها والمطالبة بتغيير أنظمة الحكم الجاثمة على صدورهم.. تلك اذن عدالة البترودولار ورغبة امريكا في السيطرة على المنطقة وإعادة تشكيل بنيتها الاجتماعية ضمن جغرافيا سياسية جديدة. وبدت في حاجة الى اعلام يوجه الرأي العام ويتلاعب بالمفاهيم والمصطلحات وقد وجدت ضالتها فيما يبدو.. ولكن «تجري الرياح بما لا تشتهي السفن»، فمشروع المقاومة نجده يتصدى ببسالة للمطامع الصهيوامريكية، إلا أنه يبقى في حاجة أن تفهم شعوب المنطقة خطر مشاريع الهيمنة الغربية وتستوعب ما يحصل وتعمل بجهد لمواجهته كما أن اللحظة الحضارية تتطلب من المثقفين الأحرار تفكيك الايديولوجيات الفاشلة والمهزومة والطروحات الوثوقية في ظل متغيرات تعصف بالمنطقة يقابلها نفس تحليلي حماسي لا يلم بطبيعة التوازنات ولا يدرك الأجندات الخارجية الخطيرة.. وقد لا يتوفر ذلك دون الالتزام اليقظ والعمل البناء من أجل التغيير الضروري للعقليات والبنيات الفكرية، ذلك التغيير الذي من شأنه انقاذ الأمة واخراجها من حالة الوهن والعطالة وتوفير الشروط الملائمة لحياة أكثر عدلا وأكثر انسانية.

٭ كاتب وباحث في الحضارة من تونس

لطفي العبيدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول R. Ali:

    جميع الدول الغربية الاستعمارية الصليبية المتصهينة ركبت موجة محاربة الإرهاب الكاذبة فقط لتدمير الدول العربية وتفكيها نكاية في الإسلام والمسلمين وتنفيذ مخططات غرب-صهيوني قديمة تقوم على نظرية فرق تسد!

  2. يقول S.S.Abdullah:

    ناسف لعدم النشر بسبب طول التعليق

  3. يقول S.S.Abdullah:

    التقزيم أو الإهانة لا تختلف عن مشكلة النفخ أو النفاق فكلاهما وجها عملة واحدة تمثل عقدة النقص للجبن الناتج عن تردّد الفلسفة، والتي تعتمد مفهوم التشكيك بلا منطق ولا موضوعيّة وبالتالي لها علاقة بالعلم لا من قريب ولا من بعيد كوسيلة للوصول إلى الحقيقة في النظام البيروقراطي لدولة الحداثة، العولمة وأدواتها التقنية، والتي عملت على تكسير مفهوم الحدود، والتي من خلالها كانت النخب الحاكمة تتحكّم فيما تسمح بنشره من معلومات، فأنكشف كثير من الحقائق والتي أدّت إلى انهيار النظام الربوي للديون بين المصارف والبنوك عام 2008، ومن وقتها مهد الفلسفة التي بناء النظام البيروقراطي عليها تعاني من شبح الإفلاس كما هو حال اليونان، إن لم تصل إلى مصير الاتحاد السوفيتي في التقسيم والانهيار كعضو في نظام الأمم المتحدة.

    الدولة عندما تمثل ثقافة الـ نحن أو الأسرة والتي تمثل علاقة ما بين الـ أنا (الرجل) والـ آخر (المرأة) ستمثل اللبنة الأساسية لمعنى الحب والذي عبّر عنه أحمد مطر بالتالي “نموت كي يحيا الوطن، يحيا لمن؟ نحن الوطن، إن لم يكن بنا كريماً آمناً، ولم يكن محترما ولم يكن حٌرّاً، فلا عشنا… ولا عاش الوطن” يمثل لغة الواقع بحكمته، ولم يمثل أحلام الفلسفة، فأنا من أنصار الحكمة ولست من أنصار الفلسفة، لماذا؟ لأنني لاحظت الفلسفة تمثل خيال الفكر أو الأحلام، بينما الحكمة تمثل لغة الواقع وتجاربه، العاقل سيفرق بين الموسيقى والأصوات، فلا بأس من اعتبار الموسيقى لغة كأي مهنة، ولكن من يقول أنَّ الأصوات يمكن أن تمثل لغة للحوار لرفع أي سوء فهم للتعايش والتكامل والحب بين البشر، فهو أهبل أو مجنون أو يتفلسف خارج سياق الواقع.

    يتبع…

  4. يقول S.S.Abdullah:

    الحكمة تقول لكل حادث حديث، ولكل سياق معنى، فما يحصل في أي موضوع، المثقف والسياسي لم تتعد مهمته غير التصفيق والتطبيل لناشر أي موضوع، ومن ثم إضافة سؤال عام لتثبيت مقولة وفسر الماء بعد الجهد بالماء، هل هناك أي تغييرات ستحصل، فأي منطق في ذكر ما يُريد أن يسمعه أهل ثقافة الـ أنا لكي يصفق لك عليه، الدولة أي دولة يجب أن تخرج من ضيق ثقافة الـ أنا إلى أن تمثل سعة ثقافة الـ نحن أي تشمل ثقافة الـ أنا وثقافة الـ آخر في عصر العولمة وأدواتها التقنية، وإلا ستعاني من مشاكل جمّة، أولها هجرة العقول في تقديم مختلف الخدمات كما يعاني منها الآن وادي السيليكون في أمريكا، فالهجرة في كل الاتجاهات في عصر العولمة وأدواتها التقنية، من أي دولة لا توفر وظيفة للمواطن دخله منها يكفي لإعالة اسرة بكرامة، وإلا سيهاجر.

    ما رأيكم دام فضلكم؟

إشترك في قائمتنا البريدية