صوت الشعب الذي سار على الدرب فوصل. ولا يمكننا مجرد تصنيف هذه المقولة في خانة وجهات النظر. فهذا واقع. لكنه واقع يسجل اخفاقا سياسيا. هو اخفاق الطبقة السياسية التقليدية التي كشفت، منذ مدة، عجزها عن مسايرة مد جارف. وللمد الجارف هذا خصوصيات. أولها، طبعا، المعاناة. معاناة الشعب المتفاوتة، غير القابلة للقفز فوقها أو التفريط بها أو تغييبها، معاناة تجمع بين بطالة وخوف من غد أسوأ أو إحباط من وعود زائفة بالالتفات إلى الشعب، تحولت إلى التفاف عليه جعله يستبعد ثقته في «النخبة». واقع سياسي جديد فتح بلا شك صفحة جديدة في مقاربة الشأن السياسي أصلا. وهنا في فرنسا أصوات ترتفع لتقول انها لا تستبعد قلبا للصفحات من هذا النوع أيضا. أما السؤال المطروح بعد أن شكلنا ملامح السياق العام فهو كالتالي: ما العمل الآن؟ ينطبق السؤال على المشهد الأمريكي كما ينطبق على المشهد الأوروبي وتحديدا الفرنسي. مد صاعد ارتفع بما لا يترك مجالا للاجتهاد. بقي لنا أن نتفق على تسمية له. هل نسميه «مد متطرف»؟ صحيح ان تيارات وتنظيمات متطرفة تدخلت على الخط محاولة امتصاص غضب كاسح على ما يسميه المحللون «الاستبلشمنت» أي المؤسسة النخبوية العاكفة على معالجة القضايا الساخنة بوصفات مكرورة. ارتفع منسوب الغضب الكاسح ومعه منسوب «الممتصين» الانتهازيين ومعه مناخ من التوتر متعدد الأذرع لم يكن فيه للتوجس من الآخر دور هين مع الأسف. لكن تسمية هذا المد بالمتطرف يغيب أحد المواضيع الأساسية للنقاش ان لم يكن الموضوع الجوهري نفسه. والموضوع هو الشعب. الشعب الذي لا ينفك يشكو من ان صوته غير مسموع ومن ان مطالبه المشروعة من خبز وكرامة وأيضا حلم بغد أفضل لم تحقق له. فبرز من برز وظهر من ظهر ليجعل من هذا المشهد
وقودا لحملات تحتل فيها الألوان الزاهية والعبارات التبسيطية سهلة الاستيعاب قلب الحديث والقيل والقال، فجرى ما جرى.
وفي الواقع تبدأ الإشكالية في ان أتحدث أنا نفسي وغيري بلغة «النخبة» مستعملا عبارات تبعث على التأسف والبكاء على الحليب المسكوب وكأن لم ندرك أن وقت التفكير فيما تغير حان. هناك تعبير نستعمله كثيرا في بلدي للدلالة على هذا الواقع: «لقد غيرنا البرمجية» استعارة ببرمجية الكمبيوتر. وهذا يعني بالعربي الفصيح، بالأمريكي الفصيح، وأيضا بالفرنسي الفصيح، أن طريقة ممارسة السياسة تغيرت. فصار لزاما تعلم كيف نستمع إلى صوت الشعب. والشعب كثيرا ما يخالف التوقعات ليصبح الطرف غير القابل للتحديد. من فهم ذلك هو الأجدى بالفوز في الانتخابات.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي
بيار لوي ريمون