صوت نشاز جديد هذه المرة من الخرطوم

حجم الخط
1

إسرائيل تفجر فقاعة جديدة هذه المرة في قلب العاصمة السودانية الخرطوم، حاضنة قمة اللاءات الثلاثة (لا صلح «مع العدو الصهيوني» ولا اعتراف «به» ولا تفاوض «معه») التي عقدت بعد نحو شهرين ونصف الشهر على هزيمة عربية نكراء، اتفق على تسميتها (نكسة 1967)، ضاع فيها ما تبقى من فلسطين ومرتفعات الجولان السورية وشبه صحراء سيناء.
فقاعة جديدة ألقى بها وزير الاستثمارات السوداني مبارك فاضل المهدي، بدعوة صريحة، للتطبيع مع دولة الاحتلال لاعتقاده بأنها البطن التي سيدخل منها إلى قلب واشنطن، التي يزعم خطأ أنها ستعمل على تخليص السودان من كل أزماته ومشاكله وديونه الاقتصادية والعسكرية والسياسية.
ويعمل القائمون في دولة الاحتلال على هذا الملف، وفق المثل القائل «الطلق إللي ما بيصيب بيدويش» فتشغل العرب بعضهم ببعض، والاخطر من ذلك انها وعبر هذه الفقاعات تحقق مرادها، وهو إعطاء الانطباع لدى المواطن العربي، خاصة في أوساط الشباب، أن التطبيع، أو الحديث عنه لم يعد من المحرمات، أو الخطوط الحمر كما كان في الماضي.
ولتعزيز هذا الانطباع يطلع علينا بين الحين والآخر رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بتصريحات عن علاقات إسرائيلية سرية مع دول عربية لا تربطها باسرائيل علاقات، وهذه الدول معروفة، رغم انه لم يذكرها بالاسم. وقبل ايام فاخر نتنياهو الذي كان يتحدث بمناسبة رأس السنة العبرية، بهذه العلاقات، واصفا ما يجري مع هذه الدول «بأمر لم يسبق حدوثه في تاريخ اسرائيل حتى عندما كنا نبرم اتفاقيات الصلح». وقال إن أبواب دول العالم مفتوحة أمام إسرائيل من دون التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين، متهما الجانب الفلسطيني بوضع شروط لا تقبل بها إسرائيل لاستئناف المفاوضات. واعتبر أن «الفرضية السائدة سابقاً تقضي بأن التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين، سيفتح أبواب العالم أمامنا، ولكن أبواب العالم تُفتح بدون ذلك أيضاً، وأعطى العلاقات السرية مع بعض الدول العربية، كمثل. وقد يكون نتنياهو مبالغا في ما يزعم لغرض دق الأسافين، ولكنني أميل إلى تصديقه لأن الشواهد كثيرة.
نعود إلى فاضل المهدي فهو ليس الأول في دعوته للتطبيع، حتى على الساحة السودانية، ولا أعتقد أنه سيكون الأخير في هذا الزمن العربي الرديء، فقد ترددت دعوات مماثلة في السودان، كانت إحداها من حزب «المستقلين» وهو حزب غير ذي وزن، وقاطعته غالبية فصائل المعارضة الرئيسية. وما يقلق أن البشير لم يعد موضع ثقة، وهو زعيم متقلب ولديه خبرة طويلة في الانقلابات، حتى على رفاقه وحلفائه والأدلة كثيرة، منها انقلابه على شركائه في الانقلاب على الحكم، والانقلاب على حركة حماس والإخوان والانقلاب على ايران، ولا ننسى طبعا تسليمه كارلوس للسلطات الفرنسية مقابل صفقة مالية، فمن يفعل كل هذا، يتوقع منه ان يفعل أي شيء. والجدير بالذكر أن حزب المؤتمر الوطني الحاكم بقيادة «المشير» عمر البشير رفض خطوة مقاطعة المهدي التي نادت بها احزاب المعارضة.
ونذكّر بالاصوات النشاز الداعية لفك العلاقة مع القضية الفلسطينية والعمل نحو التطبيع كخطوة اولى لقيام الشرق الاوسط الجديد، التي تعالت بعد زيارة الرئيس الأمريكي ترامب للرياض، التي وجد فيها البعض فرصة سانحة للخروج إلى العلن في دعوات التطبيع، وخاصة في السعوية والإمارات. وحتى قبل هذه الزيارة علت بعض الأصوات، في العراق والكويت وغيرهما واخرى تزعم بانها تعمل في صفوف المعارضة السورية، تدعو الى التطبيع والتشديد على أن اسرائيل ليست عدوتنا، أو على الأقل ليست العدو رقم واحد. وهناك أيضا صحافيون من الجزائر والمغرب ومن عرب لندن وغيرهم، أغوتهم وزارة الخارجية الاسرائيلية بدعوات لـ «زيارات خمس نجوم» مدفوعة الثمن، لدولة الاحتلال وفق برنامج مرسوم بدقة متناهية، الغرض منه إعطاء الصورة المعاكسة للواقع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويتوقع أن تخرج أصوات شبيهة بين الحين والآخر، والغرض، إبقاء فكرة القبول بالتطبيع حية والحديث عنها مقبول للآذان العربية.
كل هذا يمكن أن ننظر إليه، وإن كنا لا نقبل به، من منظار أن لهؤلاء حق الاختيار، فمن أراد التطبيع، أفرادا كانوا أم حكومات فليطبعوا كما يشاؤون ولكن بعيدا عنا.
لكن ان يخرج علينا الوزير فاضل المهدي، الذي تعالت الاصوات في السودان المطالبة باستقالته او إقالته، بتبريرات ما أنزل الله بها من سلطان، يحمّل فيها مسؤولية موقفه غير المبرر، الفلسطينيين وقضيتهم، فهذا أمر مرفوض ومردود عليه، إذا اختار الفاضل خيانة إرادة وموقف الشعب السوداني الشقيق، فهو حر ولن يكون الأول ولا الأخير، فمن قبله شارك مسؤولون في مؤامرة تهريب يهود الفلاشا إلى اسرائيل. ولكن خيانتهم لم تحمهم، وألبت عليهم الشعب الذي غضب وانقلب عليهم. ومن جملة التبريرات التي ساقها الفاضل في اللقاء التلفزيوني على قناة «سودانية 24» في 21 أغسطس الماضي: «إن الفلسطيني يعمل في أي وظيفة لكي يفصلك، فأي مؤسسة يكون مديرها فلسطينيا فإنه يحفر للسودانيين العاملين تحت إمرته». ومن المبررات أيضا اعتبار القضية الفلسطينية سببا في تأخر العرب، وأنه تجري المتاجرة بها من قبل أنظمة عربية لقمع شعوبها. كذلك قول الوزير السوداني، إن الدول العربية أخطأت عندما اعترضت على التصويت بشأن خطة التقسيم في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، فضلا عن هجومه على حركة حماس. باختصار فإن مجمل ما ساقه من تبريرات كان محاولة تحريض على الفلسطينيين بأسلوب ساذج لا يرقى إلى حد أخذه على محمل الجد.
والصورة ليست بهذه القتامة، وإذ يخيب بعض العرب الآمال، فإن هناك دوما نورا في آخر النفق، وهناك دوما ما يعوضنا بمن هم أفضل منهم، بمن يمكن أن يلعب دورا فعالا في المعركة المقبلة حتما، معركة محاربة الابرتهايد العنصري الاسرائيلي.
الغريب في دعوات بعض العرب للتطبيع، وهم بالمناسبة فئة قليلة جدا، تكاد لا تذكر، انها تسير عكس التاريخ، وتأتي بعد أن أصبحت شعوب العالم تدرك طبيعة اسرائيل العنصرية الاستعمارية، وبدأت تدير ظهرها لدولة الاحتلال وتتخذ مواقف ضد سياساتها، وأصبحت هذه المواقف تفرض إلى حد ما نفسها على حكومات بعض الدول الاوروبية، فهناك بلدان مثل أيرلندا والسويد وإسبانيا والبرتغال وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة وجنوب إفريقيا وغيرها، تتبنى نسبة كبيرة من شعوبها، سياسات مقاطعة دولة الاحتلال. كما أن أكبر اتحاد لعمال القطاع الخاص في كندا «يونيفور» الذي ينضوي تحت مظلته أكثر من 310 آلاف عضو، قرر في مؤتمره السنوي الذي عقد قبل ايام، تحت شعار «التضامن من أجل عالم أفضل»، مقاطعة إسرائيل. ونص القرار على دعمه لــ»حركة مقاطعة إسرائيل» (BDS ) حتى توقف إسرائيل توسعها الاستعماري- الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، الذي بدأ منذ عام1967 ، كما نصّ على معارضة كل الجهود الرامية لتجريم أو حظر أو تقويض أشكال التعبير والدعم لحركة المقاطعة.
والقرار يدعو الاتحاد أيضا إلى تأييد استخدام أساليب «BDS» من أجل ضرب القطاعات الاقتصادية المستفيدة منها إسرائيل. كما ستدعم مقاطعة كهذه إلى أن تتوقف إسرائيل بناء المستوطنات في المناطق المحتلة وتدخل في مفاوضات مع الفلسطينيين بهدف التوصل لإقامة دولة فلسطينية مع تواصل إقليمي وسيادة حقيقية.
وهناك العديد من النقابات العمالية في العالم التي تتبنى موقف « BDS» نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر نقابات العمال في جنوب أفريقيا»، واتحاد العمال المركزي في البرازيل، والكونغرس الإيرلندي للنقابات العمالية، وكونغرس نقابات العمال للمملكة المتحدة، والاتحاد العام البلجيكي لنقابات العمال، والنقابات الفرنسيةCNT وCGT EducAction، والاتحاد العام لنقابات العمال في النرويج، ونقابة عمال البريد الكندي وغيرها.
واخيرا، هناك من يقودهم الحق وهناك من يستهويهم الباطل، هناك من يتصرف وفق قراءة صحيحة للتاريخ والمستقبل، وهناك من تحكمهم بل يقبلون بالقراءات المغلوطة للتاريخ والمستقبل. هناك من يرى اسرائيل ومن وراءها امريكا على ضلال وهناك من يرى في اسرائيل بوابتهم لواشنطن. هناك من يقودهم المبدأ وهناك من تقودهم المصلحة الشخصية الضيقة والعمياء احيانا. هناك من يرى في القضية الفلسطينية قضية عادلة، وهناك من هم رغم قناعتهم بعدالتها يرون فيها قضية خاسرة في ميزان الربح والخسارة المادية، ومبارك فاضل المهدي هو واحد منهم. ولو كانت المصلحة العامة هي محركه لما نادى برفع الظلم عن السودان على حساب ظلم الفلسطينيين.
كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

صوت نشاز جديد هذه المرة من الخرطوم

علي الصالح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صلاح أبو سن - السودان:

    نحن كسودانيين عانينا من أذي الطغمة الحاكمة حالياً ما لم نعانيه طيلة تاريخنا بما فيه الحقبة الاستعمارية، ومن يؤذي شعبه يسهل عليه إيذاء الشعوب الأخرى.
    تصريح هذا الوزير لا يمثلنا كسودانيين، خاصة أن سلاح طيران دولة الاحتلال قد قصف مواقع في السودان أكثر من مرة.
    ويا لسذاجة تبريره: إرضاء امريكا، التي ما انبطح لها نظام إلا طالبت بمزيد من الانبطاح

إشترك في قائمتنا البريدية