لماذا كان الماضي بهذه الروعة؟ ولماذا أصبح حاضرنا بهذا العذاب؟ هكذا عبرت سيدة تحمل شهادة الدكتوراه عن إعجابها بمقال تحدث عن صورنا القديمة، وكتب صديق على صفحته في الفيسبوك «إذا ضاق بك الحاضر إفتح البوم صور الجامعة واسترجع لحظات من الزمن الجميل وستشعر بتحسن كبير في مزاجك». وبإمكانك أن تجد آلاف الصفحات والمواقع الإلكترونية التي تشبع حنينك لزمن فات، ميزته الجمال والأناقة والهدوء والرقي.مقابل زمن تعيشه يسيطر عليه القبح والضوضاء والرثاثة والتكالب.
إذا كانت تنتابك افكار من هذا النمط بين حين وآخر فانت إنسان طبيعي يحن إلى ماض يحاول ان يحتمي به من مقبل مجهول. أما إذا زادت جرعة النوستالجيا لديك حتى بت تعيش في متحف صورك القديمة، فاعلم أنك تعاني مرضا أقرب إلى الفصام أعراضه الهرب من مواجهة الواقع، عبر الاستكانة إلى الماضي الذي تعتقده جميلا.
صورنا وأيام الزمن الجميل التي تصورها، عادة ما تكون ماضية، هذا أمر محسوم، لكننا لم ننتبه الى نسبية هذا الحنين، ففي منتصف القرن الماضي الذي يعتبره كثيرون اليوم (الزمن الجميل) كان أناسه يفتحون البوم صورهم ايضا ويتحسرون على ايام زمنهم الجميل، التي كانت في بدايات القرن مثلا، ويمكن أن يتحدثوا عما مضى بطريقة مقاربة جدا من نغمات النوستالجيا التي نعانيها اليوم، كذلك كان حال ابائهم الذين حدثوهم عن زمن جميل، ربما كان في القرن التاسع عشر، ويصفونه كونه كان بحق (الزمن الجميل) وهكذا. والمفارقة التي قد تبدو مضحكة، أن شباب اليوم في العراق ممن أكملوا دراستهم الجامعية في تسعينيات القرن الماضي تجدهم يضعون صورا أو فيديوات عن زمنهم الجميل، الذي كان في تلك الحقبة، والمفارقة أننا نعلم جيدا ان عقد التسعينيات كان تاريخا اسود، ومن اسوأ الحقب التي مر به العراق نتيجة العقوبات والحصار والديكتاتورية.
ومع كل تلك المآسي التي عشناها، يبقى الامر في نظر البعض زمنا جميلا، وبالتأكيد ستكون الايام السود التي نحياها اليوم في ظل كل هذا الخراب والاقتتال والفساد وفقدان الأمن «زمنا جميلا « في مقبل أيام البعض، ولا تظنوا من يقول ذلك سيكون كذابا أو من النخبة او متبلدي الإحساس، او المستفيدين من الوضع السيئ، لا ابدا، إنه انسان عادي يعاني ويتأذى، لكن لذاكرتنا مصفاة تحجب الكثير من مآسينا وتحتفظ بما يمكن ان نعتبره «زمنا جميلا»، وهذا الامر معروف كآلية دفاعية من آليات الذاكرة البشرية التي تساعدنا على تحمل مرارة ما نمر به، عبر ترسيخ الامل بعودة «الزمن الجميل».
اتساءل كثيرا عن مصداقية الصورة التي تمثل «الزمن الجميل»، فقد نشر صديق ذات مرة صورة لقاهرة الثلاثينيات التي تضاهي مدن اوروبا، ويظهر فيها مقهى على الطراز الباريسي يجلس فيه شاب وسيم يحتسي قهوته وقد ألقى جريدته على الطاولة أمامه، بينما يجلس أمامه ماسح احذية وهو يقوم بعمله في تلميع حذاء الشاب، وقد كتب تعليقا على الصورة (القاهرة عروس الزمن الجميل)، فعلق له صديق روائي، أنها فعلا لقطة من زمن جميل للشاب فقط، لكني لا اعتقد انها كانت زمنا جميلا لماسح الاحذية، ونشب على اثر ذلك نقاش حاد صعد فيه حزب «الزمن الجميل « من لعناتهم على الواقع الذي دمر ما كنا نعيش فيه من يوتوبيا، بينما هاجم خصومهم كل هذه الحيل التي صنعها الاستعمار والامبريالية ليبدو القلة من المتعاملين مع المستعمر، وهم يتنعمون بالخيرات، بينما أغلبية الشعب تعيش في البؤس، الحقيقة هذا النقاش جعلني احتار في زاوية النظر التي يجب أن أنظر منها وأراجع الكثير مما أراه.
كتب صديق آخر تعليقا وجدته حاذقا جدا، حيث قال؛ لمن يتحسر على مجتمعاتنا التي كانت تزهو في ظل حداثة حقيقة يمكن قراءتها في شكل النساء وملابسهن وتسريحات شعرهن، وأناقة الرجال وتعاملهم الراقي المعبر عنه في وقفة أو لمسة تلتقطها العدسات في ثانية، لكن صديقي علق قائلا، يجب أن نعلم أن السيدات الأنيقات الظاهرات في صورنا القديمة ايام «الزمن الجميل» هن السيدات نفسهن المتشددات المحجبات اليوم اللواتي يبحثن عن زوجات لابنائهن، يكن ملتزمات دينيا وسهلات القياد، او كما يعرفن بـ(قطة مغمضة)، بينما اصبح الجنتلمان الذي كانه ابوك او عمك في الصورة، الشيخ المتشدد الذي لا يقبل حتى أن يحصل ابنه على جزء من هامش حرية التفكير أو السلوك، التي تمتع هو به في زمنه، وهنا لابد ان نقول حتى شكل اللبس والشعر ووضع الكريم على الشعر في صورنا القديمة ايام «الزمن الجميل» كانت يومها سبة وميوعة مرفوضة من شيوخ ذلك الزمن، الذين يتحسرون بدورهم على «زمنهم الجميل «الذي لم تكن فيه هذه الميوعة منتشرة، لتجد اليوم مائعي «الزمن الجميل» يعيرون شباب اليوم بميوعتهم ويذكرونهم برجولة «الزمن الجميل»، وهكذا تدور الدنيا، وربما هي سنة الحياة .
عندما أشاهد اليوم فيلما من افلام الاسود والابيض، أحاول ان اعرف او أخمن سنة انتاج الفيلم، ثم احاول ان استذكر ما كان يحدث في المجتمع في تلك الفترة وأتساءل عن مدى تأثير الوقائع الاجتماعية والسياسية، التي كنا نعيشها على الفن وما ينتجه، بمعنى هل نقل لنا الفن ولو جزءا بسيطا من حقيقة المجتمع، وما جرى فيه؟ بالتأكيد انا اتفهم ان الدراما لا تعني تصوير ما يجري في الواقع اليومي، كما هو حال الافلام الوثائقية، لكن بالمعطى العام هنالك روح المجتمع والعمق الذي يحركه المتمثل في سلوكيات لابد ان يبين في الفيلم، وبشكل خاص اذا كان الفيلم يحوي مشاهد تصوير خارجي في الشوارع أو الميادين أو الاسواق.
في مقطع فيديو انتشر بشكل كبير على يوتيوب يصور الرئيس الاسبق جمال عبد الناصر يخطب في جمهور غفير، في واحدة من مدن القناة في منتصف الستينيات في ذكرى االانتصار على العدوان الثلاثي، وقد كان حينها الجو السياسي في مصر متوترا بين الاخوان المسلمين ونظام عبد الناصر في ما عرف بحملة اعتقالات 1965، حيث يذكر الرئيس عبد الناصر حوارا دار بينه وبين المستشار حسن الهضيبي مرشد الاخوان المسلمين حينها، الذي اخبر عبد الناصر بمطالب الاخوان، ومنها تطبيق الشريعة الاسلامية في المجتمع، فسأله الرئيس عن امثلة فأجاب المرشد ذاكرا مثالا وهو فرض الحجاب على النساء، فما كان من القاعة الا ان ضجت بالضحك، وبشكل خاص عندما استهزأ عبد الناصر من هذا الكلام واجاب المرشد (كيف البس 3 ملايين امرأة طرح) وكانت قاعة الاحتفال تغص بالنساء، غير المحجبات بالطبع، لان الحجاب حينها لم يكن معروفا، كما هو الحال اليوم، المفارقة المضحكة عندما ننظر في صورنا القديمة تلك ونقارن حال من ضحكوا وضحكن بعد عشر سنوات، اي منتصف السبعينيات مع انتشار أسلمة المجتمع المصري بتأثير البترودولار الخليجي، وكم عدد الذين ضحكوا في أمسية عبدالناصر بقي على رأيه بعد عشر سنوات.
الحنين أو النوستالجيا امر طبيعي تعيشه او تتعاطى معه المجتمعات الانسانية بصفته ذكريات وخبرات ساهمت في تشكيل شخصياتنا، لكن النوستالجيا في مجتمعاتنا تحولت الى سوط نجلد به انفسنا، ونحاول ان نسجن انفسنا في ماض نتخيله طوباويا، بينما حقيقة الامر انه كان لحظة تاريخية لها ما لها وعليها ما عليها، ونحن اليوم بصفتنا جزءا من عالم مفتوح يعيش في خضم ثورة الاتصالات والمعلومات، لابد ان نوقن بأن لدينا شبابا لا ينقصهم شيء للنهوض بمجتمعتنا وتحقيق مستقبل افضل من ماضينا، وإن مجتمعات كانت متأخرة عما نحن فيه اليوم، ونهضت في فترات قياسية وحسبنا أمثلة دول اسيا مثل سنغافورة وكوريا وماليزيا التي حققت معجزات بفضل وعي شبابها، فهل آن الأوان لنخرج من النوستالجيا وننظر للمستقبل؟
كاتب عراقي
صادق الطائي
” كم جميلاً تَر الوجود جميلا ”
الحنين الى الماضي ” النوستالجيا ” ما هي إلا الحنين و الشعور بالألم ، بدرجات متفاوتة بين البشر ، لمضي قطار العمر ….و بالتأكيد ذاك يختلف حسب جودة الزمان ، إن صح القول .
شكراً للسيد الكاتب
عبد الناصر قال للهضيبي :” انت تطلب مني أن ألبس عشرة ملايين مصرية طرح وانت لم تستطع أن تلبس ابنتك في الجامعة الطرحة”
أي يريد أن يداوي الناس وهو عليل.
أنا كغيري لدي مئات الصور في ذاك الزمن الذي نعتبره اليوم جميلا وكنا في ذاك الزمن نتأفف منه ونضجر ونتمرد عليه واليوم عدنا لنراه جميلا مقارنة بزمن اليوم، أي أننا نعيش ضمن مقولة:” البارحة أفضل من اليوم، واليوم أفضل من الغد” ولهذا السبب تحديدا قامت الثورات العربية لتنقلب المقولة إلى: ” اليوم أفضل من البارحة، وغدا أفضل من اليوم”
الأخ سوري
و هل أوصلتنا ما تدعى الثورات العربية الى القول ” الْيَوْمَ أفضل من البارحة و غداً أفضل من الْيَوْمَ “؟
كلما نظرت الى حال ليبيا و سوريا ، و أيضاً العراق ، و إن كان ما يدعى الربيع العربي لم يكن السبب في التغيير في العراق ، إقتنعت بأن ما يدعى الثورات تترك الأوطان إذ أن الأنظمة الشمولية في منطقتنا تتسبب بخراب أكبر عند سقوطها . و لا تسألني عن الحل رجاءً
مع التحية
تحليل جميل.
إجابة عن السؤال “فهل آن الأوان لنخرج من النوستالجيا وننظر للمستقبل؟” نعم عن النوستالجيا التي خرجت عن الحدود المعقولة، أما النوستالجيا الطبيعية فذلك خارج إرادتنا.
نعم ان ماضينا اجمل من حاضرنا وان لم تصدقوا فيتصفح صور مدينتي البصرة منذ الخمسينات الى يومنا هذا وسوف تنعدم المقارنة. لقد كانت العواءل ايام زمان تذهب لمشاهدة فلم في صالة سينما والان بالاساس لا يوجد سينما .ولقد كان اصدقاءنا الذين كانوا مداومين على الصلاة والصيام يجلسوا معنا على نفس الطاولة في نادي المهندسين وعلى نفس الطاولة يوجد الخمرة وغيرها.لن ازيد