بعد تأملي الطويل في وضعية وأحوال العقل العربي، تغيّرت مفاهيمي وأَسْقطْتُ من حساباتي عشرات القضايا التي كنت أتصورها حقيقية، ومنها قضية الحكم بالإيمان والكفر، فمن ذا الذي جعل كل عربي وصيا على الإسلام في الأرض؟ ويحارب الآخرين من أجله؟ وأي إسلام ذلك الذي نقصده بعد تداخل السياسي مع الديني مع الشخصي مع الفقهي (باب المنافع ودرء الشبهات)؟
تراكم لمئات السنين لم يشهد العقل العربي فيها تنقية لتراثه ولا تعديلا لمساره. تزايد في النزعة العنيفة ضد الآخر المختلف، وفي نزعات التكفير بكل أنواعها، التي تفشت كالنار في الهشيم لتعصف بالمجتمعات المسلمة في عقر دارها وعقر ديار الآخرين، تعالٍ لأصوات ناقمة على هذا الكائن البشري العاجز عن التخلي عن تراثيات البخاري وما تحويه من تناقضات، وعن مخطط تصفيات لا نهاية لها بدأت منذ مطلع الثمانينيات بشكل محتشم، ولم نعرها اهتماما حتى طغت على مشهدنا اليومي في السنوات الأخيرة، ودمرت نصف شعوبنا، ونخرت النصف الباقي، فلماذا لم نصغ لصوت العقل؟
لماذا ونحن في زمن التكنولوجيا التي سهلت حياتنا، وحوّلتها إلى نعيم نحمد الله عليه، لا نزال نفكّر في «ضوابط التكفير، وأحكامه» وإبادة هذا الآخر صانع التكنولوجيا والنعيم الذي نرفل فيه في بلادنا؟ هذا الذي صنع الطائرة وخطط وبسط المطارات، هذا الذي صنع المكيفات، وأضاء عتمتنا بالكهرباء، هذا الذي أوجد لنا كل وسائل النقل، والتواصل هاتفيا وإلكترونيا، هل يجوز قتله لأنه لا يلفظ الشهادتين؟ أين تنتهي حدود «الدين» وتبدأ ضوابط الفكر الديني وأحكامه التي أهدرت دماء ثلثي الكرة الأرضية؟ في كتابه «نقد الخطاب الديني» لفت المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد نظر العلمانيين والمجتهدين والباحثين إلى الحقيقة ومفاصل مصيبتنا الدينية، بعد أن قادته قراءاته في التراث الإسلامي ومنهجه الأكاديمي البحثي، أثناء تحضيره لأطروحة الدكتوراه إلى الأسباب التي رمت بنا في نفق مظلم لا شعلة فيه ولا نور، وبعد أن توصّل إلى أنّ «التجربة الروحية هي أساس المعرفة الدينية» أمَّا ما عداه فهو يصب في دفّة الدين السياسي الذي قاد الشعوب الإسلامية نحو الهاوية. انتهى نصر حامد أبو زيد بتكفيره، مثله مثل فرج فودة وسيد القمني ونوال السعداوي وغيرهم..
عشرات المثقفين في مصر «أم الدنيا» ومركز الأزهر الشريف، ُزجَّ بهم في محاكم التفتيش لاقتلاع الاعترافات التي تدينهم، اعترافات بالإلحاد وإنكار وجود الله. ورغم محاولة هؤلاء لشرح منهجهم الفكري، داعين لقراءة تراثنا الديني وإعادة قراءة القرآن، قراءة تنسجم مع التقدم العلمي الذي أحرزه العالم المتحضر، إلا أن ردود أفعال المجتمع والهيئات الدينية والقضائية بقيت رابضة في الأزمنة الغابرة، حيث لا تكنولوجيا ولا علم ولا تلاقي حضارات، ولا مصالح مشتركة بين الأمم.
مئات القرون مرّت ونحن هناك، فيما الزمن يركض نحو آفاق جديدة والفكر البشري يجري في إثره، حتى بلغنا مرحلة لا أعرف كيف أسميها، أهي المرحلة التي أصبحنا فيها أضحوكة للعالم، أم المرحلة التي كشفت كل عوراتنا وبؤسنا، بحيث بتنا الشق الأكثر تخلفا وجهلا فوق الكوكب، حتى بالمقارنة مع قبائل إفريقيا المتوحشة، التي لم تعرف من الحضارة شيئا، نظل نحن الأسوأ، ما دامت تلك القبائل متصالحة مع نفسها وتعيش في سلام مع الطبيعة ومع أفرادها على قلّتهم أو كثرتهم. ولعلي كثيرا ما سألت نفسي ما الذي يمنع تلك المجتمعات الغنية بالتكنولوجيا من سحقنا بضربة واحدة، بإيقاف الأدوية علينا على سبيل المثال، أو تدميرنا بفيروس ما، أو بقنبلة نووية ما دمنا نكن لهم أحقادا بحجم مئات السنين، وبتراث ينظم الجريمة ضدهم بأحكام غير قابلة للنقاش، بل إنّها تسهل ولا تصعب سبل النيل منهم بشكل تعجيزي، حين تربط تصفيتهم بإيمانهم بمحمد عليه الصلاة والسلام، وكأن الإيمان بأنبياء الله الآخرين لا يكفيهم للإفلات من «عالمية» فتاوانا، أو كأن أنبياء ورسل الله بكل ما دُعموا به من معجزات جاؤوا برسائل مختلفة عن الرسالة المحمدية؟
يكمن الجواب حتما في فصل الديني عن السياسي أولا، وتقديس الإنسان قبل الأديان مهما كان منبعها، ثمّ النظر للمختلف عنّا بمنظور أخلاقي محض، والذي يُشكِّل في الأساس عصب تفاعله معنا وتعاطيه مع قضايانا. ثم العودة للتقسيم المجحف الذي قسّمنا من خلاله البشر إلى كفّار ومسلمين، وهو نفسه التقسيم الذي نضع تحت خانتيه الطيبين والأشرار، فكل شر منسوب للكافر الذي يستحق الموت، وكل خير منسوب للمسلم مهما كانت خطاياه، لهذا تصر مجتمعاتنا على تكفير الدواعش، لأن معيار الخير والشر مرتبط بالدين وحده. والقتل والتنكيل بالناس وتعذيبهم والإساءة لهم كلها سلوكات شريرة مارسها الدواعش، ولكن لماذا ذهب الأزهر وجهات دينية أخرى بعيدا عن هذا المطلب الاجتماعي المبني أصلا على معطىً دينيٍّ قديم. لماذا لم يصنّف الشر هذه المرة في خانة الكفر؟ لماذا بقي في خانة الإسلام؟
لماذا لم يصنّف الداعشي المجرم في خانة الأوروبي الكافر الذي يصنع أدويتنا وأجهزتنا ونعيمنا الدنيوي؟ في أي نفق وقع هذا المجتمع اليوم؟ وهو مشدود بين متناقضات المؤسسة الدينية المكبّلة سياسيا ومعطيات العقل الجديدة وانجلاء العتمة عن حقائق فضحها تقاربُ الشعوب ودخولها في حوار خرج عن نطاق العاطفة الدينية. لماذا بالمقابل سَهٌل على الأزهر أن يكفر نصر حامد أبو زيد وفرج فودة وإدانة كل من طالتهم محاكمات بتهمة الإساءة للذات الإلهية، مثل إسلام البحيري وفاطمة ناعوت على سبيل الذكر، ولكنه لم يستطع تكفير الدواعش رغم هول جرائمهم؟ وفي مقارنة بسيطة جدا بين حجم الشر الذي مارسه هؤلاء الدواعش مع ما يفترض أن فودة اقترفه نصاب بصدمة لا توصف لشدتها، وهي أننا لم نستطع أن ننشئ منظومة أخلاقية تنظر للخير والشر حسب مفهوميهما الحقيقيين، وللأسف تلاعب تراثنا الديني بهذه المفاهيم، هو الذي جعلنا نرى الإنسان الغربي شريرا بالمجمل، لأنّه كافر بما نؤمن به، وجعلنا نعتقد على مدى قرون أننا «أفضل أمة أخرجت للناس» وأن كل خطايانا مغفورة، وكلنا بدون استثناء مفضلون عند الله حتى أولئك القتلة.
والصحيح أننا اليوم لا نستوعب أخطاءنا جيدا، لكننا بلغنا النهايات، أو ما قد نسميه بمرحلة مخاض لعهد جديد، تتوضح فيها المفاهيم المغلوطة لدينا، فالكافر لا يعني بتاتا أنه لا يؤمن بالله بل لا يؤمن بما نؤمن به، والمجرم ليس بالضرورة من دين معين، فقضية إيمانه تخصه وحده، ولا شيء يحيده عن الجريمة غير أخلاقه واحترام القانون، ونسبُ الكفرِ للمجرم لن يغير من واقعنا شيئا، ولن يصلح ما أصابنا، فما يلزمنا في هذه المرحلة هو أن نتعامل مع الجريمة خارج تصنيفها الديني، ومع كل مصطلح بمعناه الحقيقي لا بمعناه التأويلي الذي أوقعنا في مأزق الرّاهن.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
التراث ثم التراث ثم التراث ولا شئ قبله ولا بعده
التراث كالاساطير وهذا ما وجدنا عليه آبائنا
لا دخل للعقيدة الواضحة للدين بكلام وافعال منتسبيه
البخاري بشر وكتابه منتج بشري ولا دخل له بالدين كعقيدة
إذا اتضح أن معظمه مدسوس وغير صحيح مثلا فهل سيسقط الدين أو تنهار العقيدة
هل يعرف الدين من خلال البخاري أم يعرف البخاري من خلال الدين !!!
يمكن أن ننظر للمشهد من زاوية الغرب والذي ناصب العداء للعرب والمسلمين فقام بتقسيم عالمنا الى مناطق نفوذ له وعمل على اجتثاث ديننا وتاريخنا وقام بقتل الملايين من أمتنا والجزائر لوحدها قتل منهاأكثر من مليون انسان، هذا هو الغرب الذي تقدمه الكاتبة لنا على أنه ضحية (وحشيتنا وبربريتنا)والحديث عن النعيم الذي يغمرنا الغرب به ما هو إلا عملية تراكمية في العلم والتقدم ولنا بصماتنا عبر التاريخ فعندما كان الغرب يعيش في العصور الوسطى والظلمات كانت جامعاتنا في الأندلس تستقبل الطلاب من أوروبا، وعندما يصدر الغرب انتاجه المعرفي فهو يسعى لتسويق منتجاته ولكي يحتكر المعرفة، ونحن للأسف لا نتقدم إلا تحت راية الأسلام ولهذا يسعى الغرب لأبعادنا عن مصدر قوتنا ووحدتنا وإذا نظرنا اليوم في عالمنا الأسلامي نرى أن الدول المتقدمه تكنلوجيا هي الأقرب لثقافة ومنهج الأسلام مثل تركيا وايران وماليزيا فالفهم الأسلامي الوسطي هو الحل ولا يمكن أن نفصل ديننا عن مناحي الحياة الأخرى وخاصة السياسي منها لأنها مصدر القوة والتقدم.
@ محمد منصور:
القوى التي سبقت الإسلام مثل الرومان وتلك التي أتت بعده، بمن فيها من يسيطر اليوم على العالم، لم تعتنق السلام دينا، ولا كان التديّن أو غيابه عاملا من عوامل قوّتها أو ضعفها. مقومات النهضة هي نفسها، ومن أخذ بها تقدّم ومن تخلى عنها تأخر.
بعبارة أخرى، إذا كنت تحسن السباحة فإنك تنجو من الغرق، وإذا لم تكن تحسنها فإن قوانين الطبيعة لا تتأثر بالدعاء.