طاعة ولي الأمر بين الشريعة وعلماء السلطة

يقول المفكر الإصلاحي السوري عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله: «ما مِن حكومة عادلة تأْمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمة أو التمكن من إغفالها، إلا وتُسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد، وبعد أنْ تتمكن فيه لا تتركه، وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين: جهالة الأمة، والجنود المُنظمة».
تلك العبارة الوجيزة التي أوردها الكواكبي في كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، تُجسد عوامل الاستبداد وروافده، التي تُغذيه بمقومات البقاء في ظل غفلة الأمة، ويأتي على رأسها «الملأ»، وهم «البارزون في المجتمع وأصحاب النفوذ فيه، الذين يعتبرهم الناس أشرافا وسادة، أو يعتبرون حسب مفاهيم المجتمع وقيمه أشراف المجتمع وسادته».
هذه الشريحة بِمثابة حلقة الوصل بين الحاكم وشعبه، تُروج لسياساته بينهم، وتُشكل الرأي العام وِفق توجهاته، ومن وراء ذلك تكون لهم الحظوة والسلطة والوجاهة. ومن هذه الفئة علماء السلطة الذين يُشرعنون قرارات الحاكم بكل حال، ويدعمونها عن طريق لَي أعناق النصوص وتأويلها، وإدراج ضرورة تقبلها تحت أصل عام وهو طاعة ولي الأمر.
لِكل فِرقة من الفرق القديمة المنحرفة امتدادٌ إلى عصرنا هذا، فكما يُمثل أصحاب الفكر التكفيري منهج الخوارج، هناك علماء السلطان الذين أخذوا عن فرقة المُرجئة بعض مبادئها، فتركوا الإنكار على الحاكم والاعتراض على قراراته، ووقفوا لمن يفعل ذلك بالمرصاد ووصفوه بأنه من الخوارج مثيري الفتن. هؤلاء المنتسبون للعلم لم يُكرسوا للديكتاتورية ويشاركوا في صناعة الظلم الاجتماعي فحسب، بل شوهوا صورة الإسلام، حينما حملوا الناس على تقديس الحاكم وطاعته بصورة مطلقة، ومِن ثَم أوجدوا المناخ المناسب لتغلغل العلمانية، التي قامت أصلا في أوروبا، فرارا من الحكم الكنسي الثيوقراطي، والسلطة الكهنوتية لرجال الدين الذين يحكمون الشعوب باسم الرب. فالعالم الإسلامي، بِشقيه الشيعي والسني، قدم أنموذجا مسيئا للإسلام في شؤون الحكم، فالشيعة لديهم عقيدة الولي الفقيه، التي تجعل زمام الأمور في يد أكبر الفقهاء وتمنحه سلطة مطلقة وتفرض على أتباعه كذلك طاعة مطلقة له، فبالغوا في تقديسه حتى رفعوه إلى منزلة لا تكون إلا لنبي مُرْسل.
وفي العالم السني، بعدما ران الاستبداد، أصبح علماء السلطة والجامية يُروجون لولي الأمر بصورة تقتضي الطاعة المطلقة وترك الاعتراض عليه، متجاوزين في ذلك الأطر الشرعية التي حددها الإسلام في النظر والتعامل مع ولي الأمر الشرعي. إننا نقر بوجوب طاعة ولي الأمر الشرعي، ولكن هذه الطاعة مقيدة بكونها تابعة لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى هو ما استقر عند المفسرين في قوله تعالى «يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدوهُ إِلَى اللهِ وَالرسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» (النساء: 59).
فذكر لفظ (أطيعوا) مع الله ورسوله، ولم يذكرها قبل أولي الأمر، دلالة على أن طاعة الحكام تكون تبعا لطاعة الله ورسوله وليست مستقلة بذاتها، ويدل على ذلك أيضا تكملة الآية «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدوهُ إِلَى اللهِ وَالرسُولِ» لبيان أن الاختلاف والتنازع يرد إلى الأصلين: الكتاب والسنة، لا الحكام وأهل السلطة، فمِن ثم لا تجب طاعة ولي الأمر في أي مخالفة شرعية أو قرارات جائرة.
إن الاعتراض على الحاكم والإنكار عليه ليس إثارة للفتن وخروجا على الدولة، وهذا ما جرى عليه العمل زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم، ولقد وقف عمر بن الخطاب يوما يخطب في الناس ويقول، إسمعوا وأطيعوا، فقام رجل من القوم وقال لا نسمع لك ولا نطيع، ولما سأله أمير المؤمنين عمر عن ذلك، عاتبه الرجل بأنه أعطى لكل رجل منهم ثوبا واحدا بينما يُرى عمر وعليه ثوبان، فرد عليه أمير المؤمنين: «أين عبد الله بن عمر؟ (أي ولده) فقال: ها أنا يا أمير المؤمنين، فقال لمن أحد هذين البردين اللذين عليّ؟ قال: لي، فقال للرجل: عجلت يا عبد الله، كنت غسلت ثوبي الخَلِق فاستعرت ثوب عبد الله، قال: قل، الآن نسمع ونطيع». فإن شكك بعض المهتمين بالأسانيد في تلك القصة، فحسبي أنها قد ذكرت في كتب الجهابذة أمثال ابن القيم في «إعلام الموقعين»، والمحب الطبري في «الرياض النضرة»، وابن الجوزي في «صفة الصفوة» وغيرهم. وحتى لو سلمنا لتلك الشكوك، فلدينا قول أبي بكر عندما تولى الخلافة: «قد وُليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني»…إلى أن قال: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم». وعمر بن الخطاب نفسه ، كان يرى أن من حق الرعية وواجبها تقويمه ورده إلى الجادة، جاءه رجل يقول له: اتق الله يا عمر: فغضب بعض الحاضرين من قوله وأرادوا أن يسكتوه عن الكلام، فقال لهم عمر: لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها. وأنكر ابن عباس على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنهم أجمعين – تحريق السبئية الذين ألهوه بالنار، لأنه لا يعذب بالنار إلا خالقها. فهؤلاء خيرة الصحابة كانوا يرون الإنكار والاعتراض على الحاكم وتقويمه، فكيف بمن هم أقل منهم فضلا وعدلا ومراعاة للحقوق؟
إن على الأمة أن تدرك جيدا أن ولي الأمر موظف لديها يتحتم أن يسير في رعيته بالعدل والحق، فليست ثروات الأمة ملكا للحكام، وليست لهم طاعة مطلقة إلا ما خلا من مخالفة وظلم، وأن الأمة هي التي تُعين الحاكم وتراقبه وتحاسبه، بل وتعزله إذا لزم الأمر في ضوء مراعاة المصالح والمفاسد.
علماء السلطان الذين يحملون الناس على تقديس الحاكم وطاعته المطلقة، أخذوا النصوص التي تحث على طاعة أولي الأمر، من دون أن يجمعوا إليها النصوص الأخرى التي تتضمن الإنكار على الحاكم في ظلمه وجوره، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر».
فرقٌ بين الإنكار والاعتراض والتقويم، وبين الخروج على الحاكم، وفرقٌ بين المنكر الذي يأتيه الحاكم في خاصة نفسه فُينصح فيه سرا، وبين المنكر الذي يتعدى للناس ويتغلغل فيهم، فيستوجب الإنكار أمام الناس وبيان هذا المنكر بأدلته. لكن علماء السلطان يعبثون بتلك الفروق، فيلبسون على العامة بأن الاعتراض والإنكار خروج، وأنه لا يجوز مطلقا نصح الحاكم والإنكار عليه أمام الناس، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية

طاعة ولي الأمر بين الشريعة وعلماء السلطة

إحسان الفقيه

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود:

    حديث ( “تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع” ) إسناده مُرسل عن إبي سلام حتى ولو كان بصحيح مُسلم
    هناك حديث صحيح يناقضه وهو عن أبي هريرة في صحيح البخاري : أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال :
    أرأيت إن جاءني رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك، فقال: أفرأيت إن قاتلني؟ قال: فقاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد،
    قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: فهو في النار
    وقال القرطبي في تفسيره : وخطب عمر فقال : ألا لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية.
    فقامت إليه امرأة فقالت يا عمر : يعطينا الله وتحرمنا ، أليس الله سبحانه وتعالى يقول : وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا قال عمر : أصابت امرأة وأخطأ عمر ،
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول شجون الحره /الاردن:

    حديث وان جلد ظهرك وان اكل مالك لا يمكن ان يصدر عن نبي الامه وخير البشر والذي بعثه الله ليحرر الانسانيه من العبوديه ويبث فيها روح الثوره على الظلم اين كان
    لا اعترف بهذ الحديث حتى ولو رواه البخاري ومسلم لان مضمونه يناقض روح الاسلام ونصوص القران التي تدعوا لمقاومة الظلم

  3. يقول سلام عادل(المانيا):

    اما فيما يتعلق بالخوارج فلا افهم هل من يتناول سيرتهم ياخذ الامور كما وصلت اليه ام انه يتعمد عدم قول الحق فيهم فالخوارج كمجموعة ظهرت ايام صراع غلي ومعاوية على الحكم ووقفوا مع علي ضد معاوية ولكنهم لم يقبلوا الصلح وتبين لاحقا انهم كانوا على حق لمعرفتهم بمكر معاوية وعمر بن العاص.وتم تسميتهم بالخوارج لانهم خرجوا على علي بن ابي طالب وليس كما يروج الان بانهم خرجوا على الدين.وسبب عداء الشيعة والسنة لهم واضح انه سياسي وليس ديني فالخوارج نادوا بقبولهم للخليفة ايا كان اذا كان عادلا ويصلح للحكم بغض النظر عن شكله ولونه وعربيا كان ام اعجميا والشيعة كما معروف يريدون الخلافة او الحكم حكرا بابناء علي وفاطمة والسنة بصورة عامة يريدونها بقريش وكذلك تم قبول وراثة الحكم بعد معاوية وهو امر جديد اسس لحكم العوائل ليومنا هذا وهو امر مخالف لبدايات الاسلام

  4. يقول خليل ابورزق:

    الامام ابن حنبل الذي يتبعه بعضا من غلاة علماء السلاطين خالف ثلاثة من الخلفاء و سجن و عذب. المسألة ليست مذهب و لكنها انتقائية و تزوير.
    توضيح: الخلفاء الذين اختلف معهم هم المأمون، ثم المعتصم والواثق من بعده، إذ اعتقد هؤلاء أن القرآن مخلوق محدَث، وهو رأي المعتزلة فحبسوه و عذبوه و منعوه من الاجتماع بالناس الى ان جاء المتوكل فانهى المشكلة

  5. يقول سوري:

    الطاعة في علم السياسة تأتي من شرعية الحاكم والشرعية حسب ماكس فيبير هي ثلاثة اصناف: الشرعية التقليدية متمثلة بالملكية والاماراتية وشيوخ العشائر فهي وراثية اغلب الاحيان، او كارزمية متمثلة بالانقلابات العسكرية او بشخصيات ملهمة تقوم بإخراج البلاد من ازمة ما، الشرعية الديمقراطية القائمة على اختيار الشعب الحاكم حسب انتخابات حرة ونزيهة الذي يطاع حسب القانون والدستور، اما الشرعية الدينية فهي شرعية تقوم على نصوص دينية ” سماوية “

  6. يقول سامح //الأردن:

    *الكلام النظري شيء والتطبيق على
    أرض الواقع شيء آخر.
    *حاليا من يجرؤ على محاسبة أي حاكم(عربي)؟؟؟
    حاكم مجرم شبيح مثل (بشار )
    حرق ودمر معظم بلده من أجل
    (كرسي) عفن أسود..؟؟؟
    وقس على معظم حكام عرب هذه الأيام.
    حسبنا الله ونعم الوكيل.
    سلام

  7. يقول سلام عادل(المانيا):

    من الاخر ابعدوا رجال الدين عن الخوض في السياسة بصفتهم الدينية لان العامة يتبعونهم سواء كانوا على حق او على باطل

  8. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

    رحم الله الشيخ الكبير والعلامة عبد الرحمن الكواكبي فهو أكثر من تذكرت في كتابه طباع الاستبداد ومصارع الاستعباد, في فترة الربيع العربي وفي الثورة السورية حتى اليوم.

  9. يقول د. سامي عبد الستار الشيخلي سويسرا:

    ملاحظات بسيطة على مقالك: الاولى ذكرتِ (يقول المفكر الإصلاحي السوري عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله) الصحيح قال….ثمَّ : ما معنى الاصلاحي ؟ مقابل مصطلحات كثيرة نُحِتَتْ منذ مطلع القرن الماضي في اوروبا ثم انتقلت الى العالم العربي والاسلامي بلا وعي محتواها الدقيق في المصطلح الاوروبي وتلبيسه على الحضارة العربية والاسلامية.( سبق أن كتبتُ حوله ولكن ..مَن يقرأ… ثم أنَّ كلمة المُفَكِرْ كمصطلح جديد إنبثق في اوروبا منذ 1908 له معنى سياسي بابعاد شتى. وانتقل الى اللغة العربية بواسطة الترجمات من اللبنانيين وتمَّ تداوله بصورة عادية وهذا غباء في فهم اعماق أبعاد مدلولاته التطبيقية في العالم العربي والاسلامي. وما زال يُستخدم ؟ بمعاني متعددة المعنى فإستخدامكِ له من وجهة العلم الاسلامي الدقيق غير صحيح. فيمكنك مراجعة ورود هذه الكلمة في القرءآن الكريم مرة واحدة لا غير…في حين إستخدم القرءآن الكريم تعبير ذلك بصيغة المضارع يتفكرون وهذا الفعل له خاصية الحاضر والمستقبل. فالمُفَكِر صفة بضيغة الثبات ولها معنى خاص في القرءآن الكريم عليك بحثها بدقة!؟ وتقبلي تحياتي بلا حرج..

  10. يقول د. سامي عبد الستار الشيخلي سويسرا:

    ملاحظات بسيطة على مقالك: الاولى ذكرتِ (يقول المفكر الإصلاحي السوري عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله) الصحيح قال….ثمَّ : ما معنى الاصلاحي ؟ مقابل مصطلحات كثيرة نُحِتَتْ منذ مطلع القرن الماضي في اوروبا ثم انتقلت الى العالم العربي والاسلامي بلا وعي محتواها الدقيق في المصطلح الاوروبي وتلبيسه على الحضارة العربية والاسلامية.( سبق أن كتبتُ حوله ولكن ..مَن يقرأ… ثم أنَّ كلمة المُفَكِرْ كمصطلح جديد إنبثق في اوروبا منذ 1908 له معنى سياسي بابعاد شتى. وانتقل الى اللغة العربية بواسطة الترجمات من اللبنانيين وتمَّ تداوله بصورة عادية وهذا غباء في فهم اعماق أبعاد مدلولاته التطبيقية في العالم العربي والاسلامي. وما زال يُستخدم ؟ بمعاني متعددة المعنى فإستخدامكِ له من وجهة العلم الاسلامي الدقيق غير صحيح. فيمكنك مراجعة ورود هذه الكلمة في القرءآن الكريم مرة واحدة لا غير…في حين إستخدم القرءآن الكريم تعبير ذلك بصيغة المضارع يتفكرون وهذا الفعل له خاصية الحاضر والمستقبل. فالمُفَكِر صفة بضيغة الثبات ولها معنى خاص في القرءآن الكريم عليك بحثها بدقة!؟ وتقبلي تحياتي بلا حرج.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية