طرد الناس من السياسة

حجم الخط
7

ماذا فعلت قوى القمع المختلفة في مواجهة «الربيع العربي»؟
نتحدث عن قوى القمع ونحن نعني قوتين رئيسيتين: آلة الاستبداد التي صنعتها العسكريتاريا والمافيات المرتبطة بها من جهة، وآلة الاستئصال التي صنعتها الردة الأصولية بأجنحتها المختلفة، من جهة ثانية.
القوتان تخوضان صراعات دموية كما هو الحال في مصر، او تتصارعان في اطار تحالف مصالح كما هو حال العلاقة بين «داعش» وآل الأسد. لكنهما متواطئتان في خوفهما من السياسة، ومن اندفاع الناس الى الشوارع مطالبة بحقها في ادارة سياسة البلاد.
في مصر انتهت الجولة الجديدة من الصراع بانتخاب المشير رئيسا للجمهورية، وسط مناخ استفتائي، لم يستطع السيد حمدين صباحي ان يخترقه. الاخوان في السجون، والخائفون من الاخوان والمصابون برعب التفكك الذي ضرب سوريا وليبيا، ينتخبون الخيار الوحيد المتاح أي الجيش.
اما في سوريا فالمسألة أكثر تعقيدا، الانتخابات لم تكن سوى عراضات مسلحة انتهت بإعلان فوز السلالة الأبدية التي تحكم سوريا منذ عام 1970. «انتصر» النظام الاستبدادي في الانتخابات لكنه لم ينجح في تسويق نفسه كعامل استقرار يحمي الدولة، لأن النظام قضى على الدولة ومزقها.
في مصر قاد عجز القوى الثورية المدنية عن بلورة مشروع التغيير الى صدام القوتين الكبريين: الجيش والاخوان. حين حكم الاخوان حاولوا اخراج الناس من السياسة، اما عندما عاد الجيش الى السلطة محمولا على المظاهرات الشعبية المطالبة باسقاط حكم الاخوان، فانه قام بضرب شباب الثورة واعتقالهم، تمهيدا لعودة الهدوء، اي لعودة السياسة الى اصحابها القدماء، اي الى اهل النظام.
ولكن الحكاية السورية التي سمحت باجراء ما يشبه الاستفتاء الرئاسي مختلفة، واكثر مأسوية. بقاء الأسد في السلطة عبر البحث عن شرعية انتخابية، غطاها مراقبون من روسيا وايران و…كوريا الشمالية!، لا يعني نهاية الحرب السورية، ولا يؤشر الى استعادة الدولة لوجودها الذي تفكك، بل يعني بداية جديدة للحرب الأهلية.
السيسي هو الجيش، والجيش المصري رغم مصالحه الاقتصادية المتشعبة هو جيش الدولة، على اعتبار ان الدولة هي دولة الجيش. وهو بهذا المعنى، ورغم المواجهات المستمرة مع التيارات الأصولية، ليس مشروع فإن عودة الجيش الى السلطة ليست مشروع حرب أهلية بل هي مشروع تحالف سياسي واقتصادي من حول الجيش لا تزال ملامحه غامضة.
وعلى الرغم من أن هذا الواقع يحمل في طياته الرغبة في اخراج الناس من السياسة، فإنه يُبقي باب الصراع مفتوحا، شرط ان تعيد القوى المدنية والديموقراطية تنظيم صفوفها وبلورة مشروع انقاذ الثورة من البونابرتية التي تلوح في الأفق.
اللعبة في سوريا مختلفة جذريا، على الرغم من محاولة اعلام «الممانعين» البحث عن تطابق مفقود مع التجربة المصرية.
في سوريا اثبت الأسد انه يقود ميليشيا، وانه يحظى بدعم شعبي، على الرغم من انه ليس كبيرا، لكن يجب أخذه بجدية. والواقع اننا لا نملك معطيات تسمح لنا بدراسة الخريطة الانتخابية السورية، نظرا لفقدان الصدقية في التقارير المتاحة، لكننا نستطيع الافتراض ان الاسد نجح في تكتيل تحالف من القوى عماده الأساسي طائفي، ومبرره هو الخوف من حكم اصولي سني.
وكي تصل سوريا الى هنا كان لا بد من تضافر ثلاثة عوامل:
الأول هو اللجوء الى سلاح القمع الوحشي الذي لا رادع له. فشهدت المدن والأرياف السورية المنتفضة حمامات دم، قبل ان تطلق المعارضة رصاصة واحدة. فالنظام الاستبدادي رفض تقديم اي تنازل، وتعامل مع الشعب السوري بعقلية السيد الذي يؤدب عبيده. كما انه كشف المستور في بنيته، فالنواة الأساسية صلبة عبر اتكائها على العصبية الطائفية، وهي نواة مافيوية استخدمت جهاز الدولة كغطاء لها، وعندما شعرت ان هذا الجهاز لا يستطيع قيادة المواجهة كشفت عن طبيعتها الميليشيوية الفاقعة.
الثاني هو دفع الانتفاضة الشعبية الى العسكرة المطلقة، التي وجدت في الدعم العسكري والمالي الخليجي ملاذها الوحيد، بعد سقوط اوهام التدخل العسكري الامريكي. عسكرة تحت مظلة انظمة تحتقر شعوبها ولا تفقه معنى الديموقراطية وتتسربل بأصولية ظلامية، لا تقود الا الى هاوية السقوط في احضان «داعش» و»النصرة» واشباههما.
اللجوء الى السلاح الذي بدأ انشقاقات عن الجيش النظامي، وكمحاولة من شباب الأحياء الفقراء للدفاع عن أنفسهم، تحوّل تدريجيا الى ملعب للقوى الاقليمية، التي قامت بتهشيم الجيش الحر وتحويله الى كتائب مسلحة مشرذمة، تتبع مموليها.
هكذا قام العساكر الجدد من الأصوليين باخراج الناس من السياسة، وهذا ما تؤشر اليه عمليات خطف المناضلين المدنيين وتصفية اعداد منهم، في امارات «داعش» وغيرها، الى درجة الجرأة على خطف مناضلة من وزن رزان زيتونة، في الغوطة التي يحكمها زهران علوش.
العامل الثالث هو التفاوت المذهل بين جدية داعمي النظام الاقليميين والدوليين وخفة بل عدم نزاهة داعمي الثورة الذين لا يدعمون سوى بالكلام أو بالظلام.
من ايران وحرسها الثوري وحزب الله والميليشيات العراقية التي تقاتل الى جانب النظام الى الدعم الروسي المفتوح. اما الثورة فيتيمة الا من دعم يريد شرذمتها بأموال النفط والغاز، وبجهاديين وجدوا في سوريا حقولا للقتل.
تحمّل الشعب السوري ما لم يستطع احد تحمله من اجل حريته، ولكن الألم وحده لا يصنع السياسة، ولا يبني المستقبل. وجد الشعب السوري نفسه، وهو يخوض واحدة من أشرف معارك الحرية، بلا قيادة حقيقية. كل محاولات بناء قيادة في الخارج انهارت، لأن شرطها كان دعما خارجيا مفقودا، اما في الداخل فإن وحشية النظام المروعة، كانت كفيلة بمنع اي توجه لبناء قيادة شعبية مدنية، كما ان انفلات القوى الأصولية حوّل السياسة الى مسخرة في أغلبية «المناطق المحررة».
اننا امام منعطف طرد الناس من السياسة، وهذا يعني استعادة الاستبداد زمام المبادرة وموت اللغة عبر تحويل القيم الى مهزلة.
صنعوا انتخابات بلا انتخاب، ودبلجوا اللغة السياسية كي تعبر عن الخواء، والهدف هو فك الصلة بين الناس والسياسة وبين السياسة وصناعة التاريخ.
هذا هو لامعنى المعنى، الذي يريد الاستبداد ان نصل الى حضيضه.
الاستبداد لا يعلم انه هُزم في اللحظة التي ارتفع فيها شعار: «الشعب يريد اسقاط النظام»، لكن هزيمة الاستبداد لا تعني بالضرورة انتصار قيم الحرية والعدالة الاجتماعية، فهذا الانتصار يجب ان نخترع من أجله الأمل كي نستطيع الوصول الى بداية الطريق اليه.

الياس خوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول tree:

    عذرا منك سيدي العزيز الانتخابات الحقيقة في مصر جرت حينما تم انتخاب الدكتور محمد مرسي مع انني كنت ضد ترشيح الاخوان مرشح منهم لان الظروف لم تكن مهيئه لنجاح اي رئيس مصري وخاصة اذا كان من الاخوان الاان الشعب المصري انتخب هذا الرئيس لمدة اربع سنوات فمدة هذا الرئيس هي اربع سنوات بعد اربع سنوات يتم انتخابه اوعزله اضف الي هذا ان الضروف الاقليميه والدوليه كانت ضد انجاحه من الغرب والشرق

    1. يقول Ossama Kullijah سوريا:

      قد يكون كلامك صحيحا اخي tree لكنه يحتمل بعض الخطاْ الا وهو ان الرئيس المنتخب مرسي فعل اكبر خطأْ يمكن ان ترتكبة قوة سياسية الا وهو تفصيل الدستور على كيفة ومن ثم اخذ الموافقة من الشعب بتصويت غير مقبول اساسا وهو ليس الا كتصويت السيسي على رئاسته لا ياسيدي الدستوزر وخاصة في هذة المرحلة التاريخية لايمكن ان يكون الا دستورا توافقيا من كل الشعب ولكل الشعب وهنا كانت ماْساة الشعب المصري والشعوب العربية باعتبار ان مصر كانت ستكون المثال الاول للشعوب العربية وماحدث في تونس يؤكد كلامي الا انه للاسف جاء بعدما حدث الانقلاب في مصر الا انه المثال السليم ولو انه بقي بعيدا لان مصر كانت قد وقعت في فخ الصراع الذي يتكلم عنه الاخ الياس خوري وهنا تكمن المعضلة الان حيث تم سورنة مصر بدلا من مصرنة سوريا

  2. يقول كمال التونسي ألمانيا:

    السياسة في الوطن العربي !!
    كم وددت دوما دخول معترك الحياة السياسية ! ….ولكن قلت لأترك الزحام لهذه الثيران الفاسدة التي تسمي نفسها ( نخبا ) …بل قل ( نكبا ) ….نكبة الأمة في هؤلاء السياسيين الذين جعلوا من مصالحهم الشخصية برامج سياسية …إذا فسد الرأس فلا تسأل عن الجسد ….تحية طيبة للشعوب العربية التي تكافح في الحصول على رغيف خبز وشربة ماء وجرعة هواء يسرقونها إذا الرقيب غفا

  3. يقول أبو جمال:

    خسرت قوى التقدم جولة أخرى في صراعها ضد الإستبداد و الجهات الداعمة له إقليميا و دوليا لأن ميزان القوة مختل بشكل فظيع لصالحها . لقد نجحت أنظمة الإستبداد في فرض معادلة بشعة تتمثل في الإختيار بين أمرين كلاهما علقم : الديكتاتورية ( العصرية ) بقفازات حريرية ، أو الإستبداد القورسطوي الخشن .
    و قد تأتى لها دلك بفضل ممارستها ، طيلة عقود من الزمن ، لكافة أشكال القمع المتمثلة في محاربة قوى التحرر و التقدم معتمدة أساليب متنوعة من محاكمات صورية و إغتيالات و حظر التنظيمات المعارضة أو التضييق عليها إن وجدت و إشهار التخوين و التكفير في وجهها و التجهيل الممنهج . و ترتب عن هده الوضعية بأن وجدت الجماهير العريضة صاحبة المصلحة في التغيير نفسها بدون قيادة منظمة قوية قادرة على أخد زمام المبادرة في الوقت المناسب ، ليخلو المجال لقوتين منظمتين : الجيش و الإسلام السياسي .
    إن انتفاضة الشارع الأخيرة و إن كان الفوز فيها لقوى الإستبداد بشكليها حسب المواقع ، فإن قوى التحرر سجلت تقدما ، و إن كان جزئيا ، و لكنه هام يتمثل تهديم جدار الخوف لدى الجماهير و بينت بأن أنظمة الإستبداد ليست قدرا و أن بالإمكان قهرها إدا تمكنت الجماهير التواقة للحرية و التقدم من بناء تنظيماتها المعبرة عن مصالحها .  

  4. يقول غريب:

    بالنسبة لي أنت يا إلياس واحد من أعمق الكتاب العرب وأكثرهم التزاما بالقيم الإنسانية وأتمنى أن تجد كلماتك صدى لمن يستطيع التحرك وتغيير المعادلة القاتلة بين العسكر والاصوليين في سوريا وفي مصر.

  5. يقول Ossama Kullijah سوريا:

    تعقيبا على كلام الاخ غريب لاشك انه كلام عميق وانا اعتقد حقيقة ان هذا الامل موجود فينا فعلا وان هذا الامل ليس كلمات شعرية تغذي مشاعرنا بل انه امل حفيفي تصنعة ارادة الحرية عند الانسان والايمان بمستقبل افض يضمن لنا هذة الحرية وهذة الكرامة التي وهبنا الله اياها ومهما كان الظلام شديدا لا بل على العكس ان تشتد الامور الى هذة الدرجة الغير قابلة للتصديق من العقل البشري ليس الا دليلا بان فجرا جديدا سيولد الم نتعلم في المدرسة ان النبي محدمد صلعم ولد في عام الفيل عندما هاجم ملك الحبشة الكعبة وهدمها بالفيلة التي رافقت حملته الم تنطلق الانتفاضة الفلسطينية عنما هزم عرفات في لبنان وذهبت منظمة التحرير الى تونس تلعق جراحها الم ينطلق اطفال درعا فكتبوا على الجدران حرية الى الابد غصب عنك يااسد بعدما سكت الكبار خوفا من ال الاسد وظن ال الاسد انهم احكموا قبضتهم على الشعب السوري واطفال سوريا لن يكونوا اقل ارادة في المسقبل ولكن علينا طبعا ان نصنع هذا الامل لهم لكننا والله اعلم لاندخر جهدا في ذلك نعم انه الامل الذ يعيش فينا والذي يدفعنا ولن نفقده ان شاء الله

  6. يقول Ossama Kullijah سوريا:

    بالاضافة الى التعليق السابق تحضرني بعض الكلمات التي احب ان اكتبها هنا علها تخد من يقراْها ويكون لها اثرا ولو كنسمة متواضعة تهز اوراق الحشائش
    لاشك ان الماْساة اصبحت كبيرة لدرجة ان المشاعر اصبحت مليئة بالاسى والالم على واقع يكاد لايصدقة العقل البشري اقسم انني عندما كنت طفلا في المدرسة الابتدائية كان لدينا درس عن طفل قتل الصهاينة ابوه عندما كان يعمل في بيارة الليمون فبكيت بكاء لااستطيع وصفة من حزني على هذا الظلم الذي لم استطع امتماله ومرت الايان وبقي هذا الدرس وهذه الحادثة في ذهني واذا بها رمزا لنكبة عام 1948 كما اصبحنا نحن الكبار ندركها واتسائل الان عن اكثر من 65 عاما مرت على النكبة واذا بنا نعيش النكبة الكبرى التي يقوم بها ابناء وطنك على ابناء وطنك واهلك تحصد جيلا من الاطفال فهل بقي مكان لكي يدرك عقلنا البشري مايحدث قد تكون هذة هي لعنة التاريخ لكن اذا كان لعنة التاريخ تقبض على عقولنا وكاننا الات متحركة تديرها عجلة التاريخ فاْين هو الانسان العاقل صاحب التفكير الذي فضله الله بالعقل على باقي المخلوقت صدقني والله اصبحت اخاف ان اظلم الحيوانات بكلامي عندما اتحدث ان الله قد فضل الانسان بالعقل على الحيوانات اي تفضيل هذا الذي يسمح لرجل ورث البلد عن ابية وكاننا مزرعة ثم ينتقم منهم شر انتقام وكاننا جراثيم وحشرات حتى احتارت عقول
    المفكرين والادباء والكتاب ماذا تقول وماذا تصف وماذا ترى وماذا وماذا (اليس كذلك يااخي الياس) اهي مذلة التاريخ التي اصابت هذة الامة في عصر اصبح فية كل شيء جائز لطالما انك تستطيع ان تقتل وتفترس الاخر لااعرف ماذا اكتب ماذا اقول لكنني بكل تاْكيد لن اتراجع ولن انهار ولن استسلم ولن اقف عاجزا ولن اتوقف لحظة واحدة عن الانطلاق باردة الحرية التي تدفعني لتغييرهذا الواقع مهما كانت لعنة التاريخ كبيرة لكن ارادة الحرية والكرامة وعقلي البشري سيظل اقوى من ذلك مهما كان الواقع اليما

إشترك في قائمتنا البريدية