طيور داريّا

حجم الخط
13

أثارت قضية ترحيل سكّان ومقاتلي المعارضة من مدينة داريّا القريبة من دمشق خضّة جديدة في وجدان السوريّين والمتعاطفين العرب مع نضالهم ضد النظام الحاكم.
وأججت مشاهد إخلاء المدينة من كامل من بقي من أهلها مشاعر سخط شعبيّ في الجنوب السوري فخرجت مظاهرات في مدن وبلدات عديدة من حوران احتجاجاً على ما اعتبره الناس تخاذلاً من فصائل المعارضة الموجودة هناك عن نصرة بلدة، صمد ساكنوها أكثر من أربع سنوات على حصار تجويع خانق كما تصدّت وحدها لحملات عسكرية هائلة استخدم فيها النظام البراميل المتفجرة وقنابل النابالم الحارقة والقصف المدفعي والجوّي.
أثارت التغريبة الحاليّة لأهل داريّا بعد قرابة 1400 يوم من الحصار في مساحة صغيرة نسبيّاً تحت الرقابة المسلطة لميليشيات النظام وحلفائه إحساساً فادحاً بالعار الإنسانيّ الكبير فأطفالها الذين خرجوا من تحت الحصار فوجئوا بوجود أشياء يعتبرها أطفال العالم حتى في أكثر الأماكن بؤسا أشياء بديهية كبعض الخضروات والبسكويت والشوكولاته، وقد صمد سكانها على كل أساليب القتل ومحاولة إخضاعهم وكسر إرادتهم رغم أنهم كانوا غير قادرين على توفير الخبز والدواء.
ومما يضيف لملحمة داريّا نكهة خاصة أن أهاليها كانوا مثالاً للاعتدال ورفع رايات السلمية والدعوة اللاعنفية وقد اشتهر منهم الناشط السياسي غياث مطر الذي كان ينظم المظاهرات السلمية التي تقابل الجيش السوري بالماء والقرنفل، والذي قبض عليه وأعاده رجال الاستخبارات قتيلا مكسّر الأعضاء وسلموا حنجرته المقطوعة إلى أمه، وقد حضر عزاءه، وقتها (للتذكير) سفراء الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا واليابان وألمانيا والدنمارك، وبعد مغادرة المذكورين المكان استباحت قوات الأمن مجلس العزاء وأطلقت العيارات النارية والقنابل المسيلة للدموع كما قتلت فتى في السابعة عشرة من عمره خلال تشييع جثمانه، وكل هذا جرى في السنة الأولى من الثورة السورية وكان أنموذجاً لآلة قتل النظام التي تعتبر أنها أنهت قصة المدينة بفصل عمرانها وأرضها عن بشرها الذين سكنوها منذ آلاف السنين.
يدخل تهجير سكّان مدينة داريّا ضمن ما يمكن اعتباره مخططا أدواته الإبادة البشرية وتغيير الديمغرافيا السكّانية بالتجويع والقتل والتهجير لمناطق بعينها في سوريا، وهو مخطط عملت فيه سكّين القتل والتجويع والتهجير ونقل سكّان من طائفة بعينها إلى الأماكن المفرغة من سكّانها وأدّت حتى الآن إلى فرض وقائع اجتماعية جديدة في القصير والقلمون والزبداني ومضايا وصولاً إلى ما يجري حاليّا في مدينة الوعر في حمص، وهو يقوم على مبدأ «سوريا المفيدة»، من ناحية، كما أنّه يمكن استدخاله ضمن خطّة أطرافها النظام السوري وإيران والميليشيات الشيعية اللبنانية والعراقية، وهو يستكمل تغيير الطبيعة الطائفية لمناطق قريبة من لبنان، وكذلك ضمن حزام العاصمة السورية دمشق، بحيث تخدم هدفين: الأول تحشيد مكوّنات اجتماعية من طوائف بعينها لحماية النظام في دمشق، والثاني تدعيم الوضع العسكري والسياسي لـ»حزب الله» في لبنان.
بما يشبه اتفاق تقاسم دوليّ بين البلدان المؤثرة في المعادلات العسكرية السورية تؤدي هذه الخطط الجاري تنفيذها إلى إعطاء طابع خارجيّ هائل للصراع في سوريا، بدءاً من النظام الذي كان يتصرّف منذ ما قبل الثورة كما لو كان قوّة احتلال خارجيّة ضد «الشعوب الأصليّة» التي كانت موجودة في سوريا قبل وجوده، ووُضع بعد ثبوت عطالته رغم وحشيّته الهائلة ضد «شعبه» في غرفة إنعاش تمدّه بفائض قوّة روسيا وإيران، كما أنه يتلقّى الدعم المباشر شرقاً وغرباً من حدود العراق ولبنان، فيما تمنع غرفة العمليّات الموجودة في الأردن (المدعوّة موك) أي حركة عسكرية ضدّه من الجبهة الجنوبية، ومن الشمال يقوم حزب العمال الكردستاني بنقل معركته مع السلطات التركية، كما يضاف اندياح تنظيم «الدولة الإسلامية» من العراق وانتشاره في كل بقاع سوريا، ليجعل بلاد الشام مجال عمل آلة قتل وتهجير لا مثيل لها تملأ أركان البلد (والعالم) بالضحايا والنازحين واللاجئين.
ترافق نزوح أهالي داريّا مع عبور آلاف الطيور المهاجرة فوق سمائها فصنع مشهداً رائعاً يعكس أملاً لا يمكن لأكبر مؤسسات الاستبداد والقتل في العالم أن تقضي عليه.
في السنة الهجرية الأولى لأهل داريا حمل أحد المقاتلين الراحلين سلاحه الفرديّ إضافة إلى سلاحه الموسيقيّ (طبلة أو دربكّة) وكان زملاؤه في الحافلة يشاركونه الغناء.
هذه، وليس الطغيان، هي روح سوريا التي ستبقى.

طيور داريّا

رأي القدس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بلحرمة محمد المغرب:

    الى الاخ المعلق عاطف من فلسطين 48 ادا كان ما نقلته وسائل الاعلام العالمية ابان التواجد السوري في لبنان في ثمانينيات القرن الماضي صحيحا من ان الجنود السوريين قد ابادوا اسرابا من اللقالق المهاجرة فهدا الشيء مدان وغير مقبول البتة فديننا الاسلامي يامرنا بالرفق بالحيوان فادا كانت القوات السورية انداك تتدرب على التصويب تجاه هده الطيور افلا ترى يا اخي ان جنود القتل الصهيوني يبيدون الانسان الفلسطيني والعربي والناشطين المناصرين للقضية الفلسطينية والرافضين للجبروت الصهيوني امام كاميرات العالم؟ الا ترى ان هده الافعال الاجرامية الصهيونية تدريب على التصويب تجاه الانسان؟

  2. يقول بلحرمة محمد المغرب:

    كم يحس الانسان بالحزن العميق وهو يرى هده البراءة المعدبة تعيش هده الاوضاع الماساوية وتؤدي ثمن صراع الكبار فكارثة داريا واحدة من المسلسلات الدرامية العربية الحزينة التي تبقي الانسان مشدوها امام اهوالها وفظاعتها فغالبية الاطفال العرب حسب اعتقادنا المتواضع لم يكونوا في يوم من الايام بعيدين عن الماساة العربية المتواصلة بل كانوا ولا زالوا يشكلون النسبة الاكبر من ضحاياها خصوصا في فلسطين وسوريا والعراق وليبيا واليمن والصومال فمن يا ترى اضحى متوحشا الانسان الدي فقد عقله وضميره وانسانيته ام الحيوان؟

  3. يقول Passerby:

    سبب غبطة النظام للأستيلاء على داريا يعزز الإشاعات التي تقول أن النظام باعها للفرس كي يقيموا عليها أبراج سكنية لكل من هب ودب من المرتزقة والقتلة من الشيعة التي جلبتهم من أصقاع الأرض ولكن قسماً لن يهنأوا بها وسوف نفجرها على رؤوس ساكنيها ولا ننسى ما حيينا غدر هذه الطائفة التي كانوا يسمونها بالكريمة. والأيام بيننا والأيام سجال.
    ولكن كل ضارة نافعة فحتى قبيل الثورة لم يكن يدري من أهل الشام وحلب ماذا يعني علوي على الرغم من اننا نبهناهم نحن أهل السنة من الساحل السوري الأدرى بمن هم هؤلاء الطائفيين ولكنهم لم يستدركوا تنبيهنا إلى أن وقعت الواقعة والأن يدفع أهل هاتين الميدنتين الثمن الباهظ.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية