«المدائن» مدينة صغيرة تقع على مقربة من العاصمة بغداد وتبعد عنها حوالي 35 كم. هي مركز قضاء تابع إداريا لمحافظة بغداد وتتبع هذا القضاء أربع نواحي، هي ناحية سلمان باك وناحية جسر ديالى وناحية الوحدة وناحية النهروان، ويقدر عدد سكان قضاء المدائن بحوالي 450 ألف نسمة، وتمثل الزراعة النشاط الأبرز للمدينة كما تمثل النشاطات التجارية المرتبطة بالسياحة الدينية والآثارية نشاطا ملموسا في المدينة.
وحملت «المدائن» عدة أسماء على مر تاريخها الطويل الذي يقدر بحوالي 2500 سنة، حيث يتم بناء مدينة جديدة على مقربة من بقايا المدينة الأقدم، فهي سلوقية الاغريقية الهلنستية التي بناها أحد القادة الثلاثة الذين ورثوا إمبراطورية الاسكندر الأكبر سلوقوس نيكتار الذي أسس دولة كبرى حكمت الجزء الشرقي من إمبراطورية الاسكندر الذي كان يمتدّ مـن سـوريا وبلاد ما بـيـن الـنّـهـريـن وبلاد فارس إلى الهـند. وعلى مقربة منها بنى الفريثيون الفرس مدينتهم التي عرفت باسم قطيسفون أو طيسفون أو كتيسفون التي أصبحت عاصمتهم حتى سيطر الساسانيون على العراق فصارت طيسفون عاصمتهم الشتوية بينما مدينة أصطخر القريبة من برسيبوليس عاصمتهم الصيفية حتى الفتح الإسلامي الذي أطاح الإمبراطورية الساسانية.
وبعد الفتح الإسلامي، ونتيجة لكون المدينة تضم مجموعة مدن (طيسفون، وسلوقيا، وميناء اوبيس النهري) لذلك أطلق عليها العرب تسمية «المدائن»التي يقال انها كلمة ذات أصل آرامي تعني المدن، وعاش فيها الصحابي الجليل سلمان الفارسي، الذي كان عامل الخليفة عمر بن الخطاب (رض) على المدائن، ومات ودفن فيها، لذلك أخذت المدينة اسم الصحابي الجليل عند العراقيين المعاصرين حيث باتت تعرف باسم «سلمان باك» أي سلمان الطاهر، وأصبحت منتجعا يبعد حوالي 35كم جنوب شرق العاصمة بغداد، حيث كان البغداديون يذهبون مع إطلالة الربيع إلى بساتين المدائن ويزورون ما تبقى من قصر كسرى المعروف باسم «طاق كسرى» ويزورن أيضا مراقد الصحابة الأجلاء سلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن جابر الأنصاري المدفونين في هذه المدينة، وقد أصبح شعار هذه السفرات العائلية أهزوجة أو أغنية بغدادية تتردد في سفراتهم هي؛ «الما يزور السلمان عمره خسارة وندمان» حيث يتغنون بها وهم يرقصون رقصات «الجوبي» و»الساس» على ألحان العازفين على الربابة والطبل.
سلوقيا دجلة العاصمة الأولى
استقل سلوقس نيكاتور (أي المنتصر) بالجزء الشرقي من إمبراطورية الاسكندر بعد ان شب الخلاف بين قادته الثلاثة، وقد امتدت الدولة السلوقية من الشام وشملت العراق وإيران وأرمينيا وآسيا الصغرى حتى الهند، وقد استمرت مدينة بابل بمكانتها الكبيرة كعاصمة للدولة الناشئة لبضع سنوات، ثم ارتأى سلوقس نيكاتور أن يبني له عاصمة جديدة تكون رمزا لإمبراطوريته، فاختار المكان الذي يتوسط مملكته قرب ميناء قديم عرفه اليونانيون هو ميناء أوبـيـس على نهر دجلة (جنوب مدينة بغداد قرب مدينة المحمودية اليوم) فأسس مدينة سلوقيا التي أطلق عليها هذا الاسم نسبة للامبراطور سلوقس، وقد جلب لها البنائون والحرفيون وأهم التجار والصناع من مدينة بابل، ولان من عادة الفاتحين الاغريق بناء عدة مدن في البلاد التي تفتح بالاسم نفسه، لذلك أصبح اسم العاصمة «سلوقيا دجلة» تميزا لها عن بقية المدن التي تحمل الاسم نفسه، لكن سلوقس لم يطق صبرا على مفارقة البحر وهو اليوناني الأصيل، فأنتقل ليؤسس مدينة وميناء على البحر المتوسط صارت مدينة انطاكية التي اختار اسمها تيمنا بـاسـم أبـيـه «أنـطـيـوخــوس» والتي أصبحت عاصمة صيفية للدولة السلوقية، بينما بقيت سلوقيا عاصمة شتوية للدولة يقيم فيها ولي العهد.
وأصبحت سلوقيا أهم المدن التي تنشر الثقافة الهلنستية، أي الثقافة اليونانية التي اختلطت بالحضارة الشرقية في الشرق الأدنى القديم، ونافست بذلك مدينة الاسكندرية في مصر وأثينا في اليونان عاصمتا الدولتان المنافستان، وأهم ما يميز سلوقيا انها لم تكن مدينة يونانية بالمعنى الحرفي للكلمة، بل كانت مدينة ذات بصمة عراقية واضحة في نمط العمارة ومواد البناء المختلط بالهندسة اليونانية وربما كان أوضح مثال لذلك الملعب اليوناني في قلب مدينة سلوقيا.
طيسفون العاصمة الثانية
عندما أطاح الفريثيون الفرس بالدولة السلوقية بعد حوالي 200 عام على تأسيسها، احتلوا عاصمتهم الشرقية سلوقيا عام ( 139 ق.م) واستمروا باتخاذها عاصمة لهم، ثـمّ قرر الملك الفريثي مـثـريـدات الـثّـاني (حـكـم مـن 123ق.م إلى 88 ق.م) أن يـشـيـد لـه عـاصـمـة جـديـدة هي طـيـسـفـون، في الـضّـفـة الـمـقـابـلـة لـسـلـوقـيـا دجـلـة، حـكـم مـنـهـا كـلّ دولـتـه. ويذكر صباح الناصري في دراسة له عن مدينة سلوقيا «ورغـم سـقـوطها بـأيـدي الـفـريثـيـيـن، فـقـد ظـلّـت سـلـوقـيـا دجـلـة مـديـنـة مـزدهـرة. ويـذكـر الـمـؤرخ الـرّومـاني بـلـيـنـيـوس الأكـبـر (الّـذي عـاش مـن سـنـة23م إلى سـنـة 97م) أنّ جـمـارك الـمـديـنـة كـانـت مـا تـزال بـأيـدي سـكـانـهـا مـن الإغـريـق في زمـنـه، وأنّ عـدد سـكـانـهـا كـان يـقـارب 600 ألـف يـحـكـمـهـم مـجـلـس شـيـوخ عـدد أعـضـائـه 300». وبـعـد أن أسـقـط الـمـلـك الـفـارسي الـسّـاسـاني أردشـيـر الأوّل دولـة الـفـريثـيـيـن عـام 224 م، أصـبـحـت طـيـسـفـون عـاصـمـة الـدّولـة الـسّـاسـانـيـة الشتوية. وظّـلـت كذلك حـتّى الـفـتـح الإسـلامي بعد معركة القادسية عـام 636 م. الّـذي أسـقـط آخـر مـلـوكـهـم يـزدجـرد الـثّـالـث.
مدينة المدن
عندما أطاح العرب بالإمبراطورية الساسانية واحتلوا عاصمتهم الشتوية طيسفون، أقاموا ما عرف بمدينة «المدائن» المكونة من مدينتين على ضفتي نهر دجلة هما سلوقيا على الضفة الغربية وطيسفون على الضفة الشرقية، واصبحت المدينة مركزا تدار منها الفتوحات الشرقية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب. وبالرغم من تأسيس مدن عربية جديدة هي مدينتا الكوفة والبصرة، لكن بقيت «المدائن» المدينة الأهم في العراق في بداية حقبة الفتوحات، وقد ولى الخليفة الثاني عليها أحد أحب الصحابة إلى رسول الله (ص) وهو سلمان الفارسي الذي قال عنه الرسول (ص) في حديث صحيح «سلمان منا آل البيت» الذي عاش في المدائن وتوفي ودفن فيها عام 34 هجرية. كما دفن فيها عدد من الصحابة الأجلاء منهم حذيفة بن اليمان وعبد الله بن جابر الأنصاري. ومما يروى في أضرحة الصحابة المدفونين في مدينة المدائن، ان فيضان دجلة كان يهدد قبري الصحابين حذيفة بن اليمان (رض) وعبد الله بن جابر الانصاري (رض) لذلك ارتأت الحكومة العراقية عام 1932 ان تنقل رفاتهما إلى ضريح الصحابي سلمان الفارسي (رض)، وقد تمت عملية النقل بموكب عسكري مهيب يتقدمه الملك غازي وكبار شخصيات العراق ومنهم مفتي الديار العراقية وكبار العلماء حيث تم نقل الجَسدين الطاهرين من ضفة دجلة في المدائن إلى جوار قبر الصحابي سلمان الفارسي (رض).
ايوان كسرى بقايا القصر الملكي
في مدينة طيسفون بنى الملك الساساني خسرو الأول (حكم للفترة 531م – 578 م) قصره الملكي المهيب الذي تسمى بقاياه اليوم «طاق كسرى». وتذكر بعض الروايات ان المسلمين عندما فتحوا المدينة اتخذوا من القصر مسجدا مؤقتا. وقد وصف أطلال القصر الكثير من الرحالة والكتاب ومنهم الرحالة الفرنسية مدام ديولافوا التي زارته في رحلتها حين وصلت المدائن في 10 كانون الأول/ديسمبر 1886 وبعد ان انتقلت مـن الـسّـفـيـنـة «الـمـوصـل» التي كانت تستقلها برفقة زوجها المهندس والآثاري مارسيل ديولافوا من المحمرة إلى حلب، حيث ذهـبـت بـقـارب إلى ضـفـة الـنّـهـر لـرؤيـة طّـاق كسرى، وكـان يـحـيـطـه جـنـاحـاه، قـبـل أن يـنـهـار جـنـاحـه الأيـمـن في يـوم 15 نـيـسـان/ابريل مـن عـام 1887 وقد وصفته في كتابها قائلة؛ «شـيّـد طـاق كـسـرى بـأكـمـلـه بـالـطّـابـوق الـسّـمـيـك. واجـهـتـه طـولـهـا 91 مـتـراً وارتـفـاعـهـا 35 مـتـراً، وهي مـسـتـطـيـل هـائـل تـنـفـتـح في وسـطـه قـاعـة مـعـقـودة الـسّـقـف عـرضـهـا 35 مـتـراً. ويـصـل ارتـفـاع هـذه الـقـاعـة الـرّئـيـسـيـة إلى قـمّـة الـبـنـايـة ولـهـذا أطـلـق أهـل الـبـلـد عـلـيـهـا كـلّـهـا «طـاق كـسـرى»، وكـان عـلى يـمـيـن هـذه الـقـاعـة وعـلى يـسـارهـا أروقـة تـحـاذيـهـا، كـانـت ولا شـكّ مـخـصـصـة لـلـحـرس ولـلـحـاشـيـة وكـتّـاب الـبـلاط وكان مقر سكن الملك ومقر حكومته».
ومن الإشارات المهمة التي يجب التوقف عندها تأكيدات الآثاريين والباحثين والمعماريين مثل د. فوزي رشيد وجبرا ابراهيم جبرا والمعماري عدنان أسود، حيث أشاروا إلى أن هندسة وعمارة الطاق هي عمارة عراقية محض، بشكلها المقوس الشبيه بمضايف القصب السومرية في جنوب العراق، كما ان المواد المستخدمة في بنائه وهي الآجر البغدادي هي مواد عراقية تماما، وتختلف عما استعمله الساسانيون من عمارة صخرية في بناء عاصمتهم برسيبوليس أو اصطخر التي بنيت على أنقاضها.
التنقيبات الآثارية
ربما يجهل بعض من يعيش اليوم في «المدائن» بعضا من تاريخها العريق، ولابد من القول ان هناك قصورا كبيرا في أعمال التنقيب في هذه المدينة، ويذكرد. صباح الناصري متحدثا عن تاريخ البعثات الآثارية التي عملت في المدينة قائلا؛ لقد «عـثـر الـمـنـقّـبـون عـلى آثـار سـلـوقـيـا في عـشـريـنـيـات الـقـرن الـعـشـريـن خـلال بـحـثـهـم عـن مـديـنـة أوبـيـس، الّـتي ذكـرتـهـا الـمـصـادر الإغـريـقـيـة الّـتي تـكـلّـمـت عـن الإسـكـنـدر الـمـقـدوني في بـلاد مـا بـيـن الـنّـهـريـن». ويضيف قائلا «وقـد بـدأت الـتّـنـقـيـبـات الأمـريـكـيـة الّـتي أشـرف عـلـيـهـا وتـرمـان مـن جـامـعـة مـيـشـغـان الذي استمر بالعمل من عـام 1927حتى عـام 1932. ثـمّ نـقّـب فـي سـلـوقـيـا الآثاري هـوبـكـنـس عامي 1936- 1937. ثم قـامـت جـامـعـة تـوريـنـو الإيـطـالـيـة بـتـنـقـيـبـات في الـمـوقـع مـن 1964 إلى 1968، ومـن 1985 إلى 1989». كما يشير الناصري إلى ان «أهـم جـزء مـن مـديـنـة سـلـوقـيـا وجـد في المنطقة التي تعرف اليوم بـ (تـلّ عـمـر)، مـقـابـل طـاق كـسـرى في طـيـسـفـون، ولا شـكّ في أنّ مـعـرفـتـنـا بـهـذه الـفـتـرة الـمـهـمّـة مـن تـاريـخ الـعـراق سـتـتـحـسـن إذا مـا نـقّـب الـمـوقـع بـكـامـلـه في يـوم من الأيّام، وإذا ما أوليـناه شـيـئاً أكبر مـن الجهد والاهتمام».
ذكر بعض أهل السير أنه: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام) .
ولا حول ولا قوة الا بالله