عام 2017: بلسان اينشتاين

2017 عام رديء لا يستحق وداعا. لقد كان عاما عابثا هزأ بالشعوب المسحوقة وأظهر لها لسانه على النحو الذي خلّده ألبرت اينشتاين في تلك الصورة الشهيرة التي صارت من أيقونات القرن العشرين. ولكن هذا لا يمنع أن الاستهزاء كان، في حالة اينشتاين، ضربا من الحكمة. فقد كان من أحكم الناس في عدم معاملة أي شيء بأكثر مما يستحق. إذ لم أكن أعرف أنه كان، على سبيل المثال، ينتعل الحذاء بدون جوارب إلى أن شاهدت سلسلة الحوارات الممتعة التي أجرتها الصحافية كاترين سيلاك مع الكاتب الفرنسي المحبوب جان دورمسون والتي بثت بمناسبة وفاته أوائل هذا الشهر عن سن تناهز الثانية والتسعين. قالت له: إنك تتميز بالأناقة ولكن هنالك تفصيلا مثيرا للاهتمام، وهو أنك لا ترتدي جوارب. أجابها: أتعرفين من أين أتتني الفكرة؟ عندما تعرفين سوف ترين أنها فكرة تجمع بين البساطة وعدم التكلف من جهة وبين قمة التفنّن من جهة أخرى. لقد تعلمتها من اينشتاين. لم يكن اينشتاين يرتدي جوارب لأنه لم يكن يرى في ارتدائها فائدة. وقد وجدت أنه على حق. وسرعان ما استطرد دورمسون، في حركة عفوية من وحي اللحظة، قائلا: بل إني لا أرى الداعي لارتدائي ربطة العنق هذه! ثم إذا به يفك الربطة الزرقاء الداكنة ويدسها في جيب سترته الصفراء ويقول: إني لا أسعى إلى الظهور بمظهر الشاب ولكن الحقيقة أننا لا ندرك أننا تقدمنا في العمر إلا عندما نمرض أو عندما يشعرنا الآخرون أننا لم نعد شبابا. المهم هو ألا نفرط في التحسر على ما فات.
كان لاينشتاين شخصية طريفة مرحة. وقد نجح الفيلم السينمائي الفرنسي الجديد «ماري كوري» الذي يروي سيرة العالمة الفرنسية ـ البولندية، التي فازت بجائزة نوبل مرتين: في الفيزياء عام 1903 والكيمياء عام 1911، في تصوير جوانب من طرافة هذا العالم العبقري. حيث كان هو الرجل الوحيد الذي انسجم مع ماري كوري وتمكن من إضحاكها أثناء مؤتمر علمي حافل بالوجوه المتجهمة، وقد استلطفته هي لأنه لم يكن، رغم ذكائه الخارق، يأخذ نفسه مأخذ الجد ولم تكن تستبد به الحاجة لأن يثبت أنه دوما على صواب. وقد صدرت في الأعوام الأخيرة كتب عن العادات اليومية للكتاب والفنانين والعلماء، وخصوصا العادات الصباحية التي تساعدهم على العمل والإبداع: طقوس التدخين، وشرب القهوة أو الشاي، والنزهة في الحديقة العمومية، الخ.
ولكن ما تناولته البي بي سي أخيرا يتجاوز موضوع الروتين اليومي، الذي يضيء كيف تعمل أذهان العظماء، إلى موضوع أكثر إثارة وإمتاعا هو عاداتهم الطريفة والغريبة. حيث يتبين أن اينشتاين لم يكن ينام ثماني ساعات مثل معظم الناس، بل عشر ساعات على الأقل. ويبدو أن لهذا النظام مردودا إيجابيا نظرا إلى أن «التجربة العامة تثبت، كما قال الروائي الأمريكي جون شتاينبك، أن أي مشكلة تستعصي في الليل إنما تحل في الصباح بعد أن تكون قد نظرت فيها لجنة النوم». كما أن عددا من الاكتشافات في التاريخ الإنساني، مثل جدول العناصر وتركيبة الحمض النووي، قد تحققت بينما كان مكتشفها في سبات عميق. ويقال إن نظرية النسبية الخاصة خامرت اينشتاين بينما كان يحلم ببقرات أصبن بصعق كهربائي! وقد أثبتت الاختبارات العلمية أخيرا أن النوم الكافي يساعد على حسن الأداء الذهني. ولكن هنالك في التاريخ أمثلة مضادة، حيث من المعروف أن نابليون، على سبيل المثال، لم يكن يحتاج للنوم أكثر من أربع ساعات أو خمس. وكان يحمل معه أثناء حملاته العسكرية مكتبة متنقلة، حرصا منه على عدم الانقطاع عن متعة المطالعة حتى وهو في خضم القتال. كذلك الأمر بالنسبة لتاتشر. كان تكتفي بحوالي خمس ساعات من النوم.
وإذا كانت عادة النزهة اليومية قد اقترنت باسم الفيلسوف الألماني كانط، حيث كان سكان مدينة كونغسبرغ يعدّلون ساعاتهم على مواعيد خروجه لشدة انضباطه ودقة التزامه بالمواقيت، فإنها قد أدركت عظماء آخرين مثل داروين وفرويد واينشتاين. فقد كان داروين يحرص على الخروج كل يوم في ثلاث نزهات تستغرق كل منها خمسا وأربعين دقيقة. كما كان اينشتاين يحب المشي، حيث كان يسير ذهابا وإيابا ميلا ونصف ميل هي المسافة الفاصلة بين بيته وجامعة برنستون. أما رأس الحكمة العلمية فيتمثل في ولعه بأكلة السباغتي الإيطالية!

٭ كاتب تونسي

عام 2017: بلسان اينشتاين

مالك التريكي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نسرين مغربي:

    نشتاق الى برنامجك فسحة فكر لماذا توقف؟

  2. يقول نصر الدين:

    نعم .. اين .. فسحة فكر .. لقد تركتنا في .. ضيق.. بدلا من ..فسحة

إشترك في قائمتنا البريدية