لا تزال نظريّة عبد القاهر الجرجاني البلاغيّة الشعريّة تستأثر بعناية كثير من النقّاد والشعراء العرب، ولا نجادل في أنّها جديرة بهذه العناية شأنها شأن نصوص غير قليلة في تراثنا؛ تحتاج إلى إعادة قراءة واستدراك على الأصول. ولكنّ اللّافت في هذه الدراسات أنّها تختلف أحيانا إلى حدّ التباين بالجملة. ولو كان الأمر يتعلّق بنصّ شعري ينأى باللغة عن استعمالاتها المألوفة، ويتوسّل بشتّى ضروب المجاز التي تقتضي التأويل أوّلا وأخيرا؛ لأمكن أن نقف على سرّ هذا الاختلاف، وأن نسوّغه.
ولغة عبد القاهر لغة مفهوميّة (من المفهوم) رصينة، تستعمل الكلمة في ما هي موضوعة له، وتكاد لا تخرج عمّا يسمّيه بلاغيّو العرب «دلالة المطابقة» أي دلالة اللفظ على تمام ما وضع له. اخترنا أن نركّز هذا المقال، في نصّين من «نقد النقد»، يباشران الصورة الفنيّة (الاستعارة) في نظريّة عبد القاهر، وهما، حسب التسلسل الزمني، للسوري كمال أبوديب والتونسي حمّادي صمّود.
وأوّل ما يسترعي الانتباه في هذين النصّين على اختلاف المنهج والرؤية؛ هذا الإعجاب المتواتر بعبد القاهر، وهذا الإعلاء من نظريّته «الاستشرافيّة».
أمّا أبو ديب فيذهب في «جدليّة الخفاء والتجلّي» إلى أنّ التراث العربي يخرج على ذلك التصوّر القاصر للصورة، والشائع في التراث الأوروبي، منذ أرسطو حتى كولريدج. وهو التصوّر الذي يركّز على طبيعة الصورة الزخرفيّة التزيينيّة، «ويبلغ الخروج ذروته في تصوّر عبد القاهر الجرجاني الناقد الفذّ للخلق الأدبي وللصورة، باعتبارها عنصرا حيويّا من عناصر التكوين النفسي للتجربة الشعريّة وتبلورها اللغوي، في بنية معقّدة متشابكة لها نموّها الداخلي الفرد وتفاعلاتها الفنيّة». ويضيف في موضع آخر أنّ الدعوة إلى نظرة جديدة إلى الصورة الشعريّة تكْتَنِهُ بنيتها المتشابكة «ما تزال تقصر عن طرح الأسئلة الجذريّة في تحليل الصورة، بالدقّة التي يطرحها عبد القاهر الجرجاني. إنّ الجرجاني ناقد فذّ جاء بأسئلة منذ عشرة قرون، لم تخطر للنقد الحديث إلاّ في العقود القليلة الأخيرة».
أمّا حمّادي صمّود، فإنّه على صرامة منهجه ودقّته العلميّة في أطروحته «التفكير البلاغي عند العرب» (رسالة دكتوراه دولة) لم يستطع أن يكتّم حبّه للجرجاني، فهو يبسط القول في عرض محاولات البلاغيّين العرب لمحاصرة أسباب بلاغة النصّ الأدبي، وفضله على ضروب القول الأخرى؛ ثمّ يخلص إلى أنّ كلّ هذه المحاولات كانت « تحوم حول الهدف، ولا تقع عليه، وتروم فكّ مغلقاته، فلا تقوى؛ حتى جاء رجل جمع إلى الذوق الأدبي قدرة المجادل وصرامة العالم؛ فإذا ما أشكل على أجيال من البلاغيّين، يوجز في عبارة هي قمّة من قمم التفكير البلاغي إطلاقا، ومنتهى ما وصلت إليه البلاغة في تفسير طرائق الأداء اللغوي في النصّ الأدبي؛ وتلك العبارة هي «معنى المعنى». ويضيف في موضع آخر فيؤكّد أنّ أصول نظريّة النظم عند عبد القاهر «مبنيّة على أسس لغويّة متطوّرة، قوامها التمييز بين اللغة والكلام تمييزا يضاهي في دقّته واستحكام نتائجه، ما وصل إليه علم اللسانيّات الحديثة».
واضح إذًا أنّ الباحثين يقرّان بحداثة نظريّة عبد القاهر، ولكنّهما يختلفان في فهمها، وفي بسط أسسها وقواعدها. وهو اختلاف قد يراه البعض علامة على غنى النظريّة وتنوّعها وحيويّتها، إلاّ أنّه كما أسلفنا يبلغ حدّ المباينة بالجملة، حتى لَيمكن القول إنّنا إزاء جرجاني هو «جمع بصيغة المفرد». ويتجلّى هذا الاختلاف أكثر ما يتجلّى في قراءة مفهوم الصورة عند عبد القاهر. من ذلك أنّ كمال أبو ديب يصرف عنايته إلى الصورة التشبيهيّة، في حين أنّ طرافة الجرجاني أمسّ بالاستعارة، وموقفه من التشبيه لا يختلف عميقا عن موقف سابقيه ومعاصريه، إذ يربط «البراعة في التشبيه بتأليف المختلف والجمع بين العناصر المتباعدة؛ مع ما يقتضي ذلك من غوص على التشبيه النادر، ووقوف على العلاقة اللطيفة الدقيقة…». ومثال ذلك البيت المأثور «فإنّك كالليلِ الذي هو مدركي…» فقد استخلص منه أبوديب جملة من النتائج تتّصل بالصورة الفنيّة عامّة، وليس على التشبيه فحسب؛ ويقرّر أنّ عبد القاهر يطرح أسئلة مثيرة حول طبيعة الصورة الشعريّة ودلالاتها النفسيّة وعلاقتها بذات الفنّان وفعلها في ذات المتلقّي. والصورة في بيت النابغة ـ وقد أهدر الملك النعمان دمه في حكاية معروفة ـ تنبع من الترابطات النفسيّة التي يثيرها الليل في النفس؛ فتجلو أبعاد ذات الشاعر لحظة خلق الصورة، وليس أبعاد شخصيّة الملك. يقول عبد القاهر: «فاختصاصه الليل دليل على أنّه قد روى في نفسه، فلمّا علم أنّ حالة إدراكه وقد هرب منه حالة سخط؛ رأى التمثيل بالليل أولى…».
والحقّ أنّ الفعاليّة النفسيّة في الصورة، وقدرتها على استجلاء العلائق الخفيّة بين الذوات والأشياء، تتوضّح أكثر في مباحث عبد القاهر في الاستعارة، حيث بيّن أنّ رفع الاستعارة على اللفظ مجرّدا، ممّا لا تخفى استحالته على عاقل، أي أنّ الفعاليّة النفسيّة هي التي جعلت عبد القاهر يدرك أنّ الصورة الاستعاريّة لا تقول إلاّ نفسها، ولا تنطق بغير لغتها. وهو لم يلحّ كثيرا على علاقة المماثلة أو المشابهة، بل هو يرى أنّ الاستعارة الصحيحة هي «ما لا يحسن دخول كلام التشبيه عليه، وذلك إذا قوي الشبه بين الأصل والفرع؛ حتى يمكن الفرع في النفس بمداخلة ذلك الأصل، والاتحاد به وكونه إيّاه». وهذا ما أغفله كمال أبوديب، إذ نسب إلى الجرجاني أنّ الاستعارة لا تكون ممكنة إلاّ إذا أمكن اكتشاف وجه الشبه بين طرفيها.
والحق أنّ عبد القاهر لم يشر إلى هذا الشرط إلاّ في كلامه على الاستعارة التصريحيّة، وهي «الدرجة الصفر» في المجاز، أمّا الاستعارة المكنيّة وهي «الأرقى»؛ لأنّ المحاسن التي تظهر بها، والصور التي تحدث المعاني بسببها، أأنق وأعجب بتعبيره؛ فهي قارّة في ذاتها، مشدودة إلى بنيتها التصويريّة، وليس من حقّ المتلقّي أن يبحث عن أصلها التشبيهي: «وليس من حقّك أن تتكلّف هذا في كلّ موضع؛ فإنّه ربّما خرج بك إلى ما يضرّ المعنى، ويذود عنه طبع الشعر».
وأبوديب وهو ناقد مرموق، لا يتنبّه إلى مثل هذه الجوانب الطريفة عند عبد القاهر، ويقصر فاعليّة الصورة المعنويّة والنفسيّة، على بيت واحد للنابغة، ولا يشير ولو إشارة خاطفة، إلى نظريّة الجرجاني في النظم، وفي مراتب الاستعارة، وبلاغة النصّ الأدبي.
فإذا انتقلنا إلى التونسي حمّادي صمّود، وقفنا على قراءة مختلفة تماما؛ تعالج النظريّة في سياقها التاريخي والمعرفي، بجرأة ولكن بحذر. فهو لم يستخدم من المفاهيم الحديثة إلاّ ما ثبت له ووضح لديه، ولم يستنر بها إلاّ لاستجلاء الغامض في التراث، وسدّ الناقص فيه. وفي قراءته وقفة على ناحية في البلاغة قلّما استرعت انتباه الدارسين، مثل تمييز عبد القاهر بين الاستعارة المفيدة والاستعارة غير المفيدة، على مقياس الاختصاص والاشتراك. فالمفيدة هي التي «تحصل منها فائدة ومعنى من المعاني، ما كان يحصل لنا لو أخرجنا الكلام على عواهنه». وأمّا غير المفيدة فهي التي «تقوم على ضرب من التوسّع في أوضاع لغة بعينها». أي أنّها لا تعدو نقل كلمة عن أصلها واستعمالها في غير الجنس الذي وضعت له؛ كأنْ يطلق الشاعر أعضاء الإنسان على الحيوان، أو أعضاء الحيوان على الإنسان. وأقدّر أنّنا أحوج اليوم إلى مثل هذا التمييز بين المفيد وغير المفيد، خاصّة أنّنا نترجم الشعر العربي وننقله إلى العربيّة، على الرغم من أنّ كلام عبد القاهر لا يخلو من بعض غموض. فهو يخرج غير المفيد من الاستعارة كلّيّا، أو هو يسمّيه استعارة تجوّزا، ويعتبره في موضع آخر من المجاز المفيد.
نحن مع الباحثين، إزاء قراءتين مختلفتين، فكمال أبو ديب وهو صاحب منزع بنيوي، لا يحتكم إلى الواقع التاريخي، فيجعل نصّ الجرجاني حديثا على نحو ما فعله أدونيس تماما، فقد كتب: «قراءة النقد الفرنسي الحديث هي التي دلّتني على حداثة النظر النقدي عند الجرجاني ، خصوصا في كل ما يتعلّق بالشعريّة وخاصيّتها اللغويّة – التعبيريّة».
وحمّادي صمّود أقرب إلى منهج تفكيكيّ لا يطمس سياق النصّ التاريخي والثقافي. ورأينا أنّ عبد القاهر لا يخرج تماما عن رواسم الفكر البلاغي القديم، والخيال عنده خيال مجازي وليس خيالا خلّاقا يقوّض الواقع أو يعيد صياغته. ومن الشعر وهو الكلام اللامحدود، كان يَمْتَحُ عناصر البلاغة المحدودة، وغاب عنه أنّ الشعراء كانوا يتركون، عن حدس شعريّ، حبل القول على غارب اللغة، ويؤسّسون بلاغتهم الخاصّة. إذن ربّما كان عبد القاهر في بحوث معاصرينا مجرّد استعارة لـ»حداثة» لا نملكها ولا نعيشها.. أعني الاستعارة التي بها نموت.. لا تلك التي بها نحيا.
٭ كاتب تونسي
منصف الوهايبي
لا شكّ عندي كقاريء أنْ أتلمس سعي كاتب المقال السّيـــد الدكتورمنصف الوهايبي ليكون مدرسة خاصة في نسقها ورؤيتها المعاصرة.وهذا شيء حسن…لذلك أحــرص قراءة ما يكتب برؤية المحبّ ؛ وأقول : أنّ قضية البلاغة العربية شأنها شأن ( البلاغة ) في اللغات الأخرى..
كاللغة الفرنسية ؛ ففيها المحسنات البديعية : ( La métonymie ) وفي اللغة الإنكليزية هناك الاستعارة : ( English Team ).
والعربية لها بلاغتها المكنونـة في علوم : البيان والبديع والمعاني.ولعلّ أروع منْ وصف حقيقة ومعنى البلاغة من المعاصرين مصطفى صادق الرافعي ؛ حينما سمّاها باللغة الخاصة ؛ التي تخرج من اللغة العربية العامة.أما عبدالقاهرالجرجاني في كتابيه ( أسرارالبلاغة ودلائل الإعجاز) فإنما هوكاتب مضى على ما جاء به ألف سنة ؛ وبالتالي لا يمكن الحكم على ما جاء به من بلاغة ( الحياة أوالموت ) وفق أساليب عصرنا الذي أصبح علم البلاغة : { لا يموت فيها ولا يحيى } على الرغم من أنّ ابن الأثيرفي كتابه : المثل السائرأعطى للبلاغة وظيفة هجومية :( إنّ مدارالبلاغة كلها على استدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم..).فهل يمكننا اليوم تحويل بلاغتنا إلى معين لنا لمواجهة الخصم ؟ والخصم هنا الغزوالثقافي والبلاغي والبياني واللغوي من يأجوج ومأجوج والروم ؟ حينها سنعيد لبلاغة الجرجاني الحركية ؛ سواء وفق المنهج البنيوي أوالمنهج التفكيكي للمدرسة ؛ لأنّ حظّ البلاغة من حظّ رجالها في لغة الأدب والفكروالثقافة والفلسفة والترجمة والحضارة.
لا شكّ عندي كقاريء أنْ أتلمس سعي كاتب المقال السّيـــد الدكتورمنصف الوهايبي ليكون مدرسة خاصة في نسقها ورؤيتها المعاصرة.وهذا شيء حسن…لذلك أحــرص قراءة ما يكتب برؤية المحبّ ؛ وهذا الحبّ لايعني عدم بيان الاختلاف إنما الاختلاف لا يفسد للودّ قضية ؛ لأنّ عندي الاختلاف في العلم ائتلاف في الفهم ؛ وصداقة الرّوح للروح.وأقول : أنّ قضية البلاغة العربية شأنها شأن ( البلاغة ) في اللغات الأخرى..كاللغة الفرنسية ؛ ففيها المحسنات البديعية ( La métonymie ) وفي اللغة الإنكليزية هناك الاستعارة ( The metaphor)
والعربية لها بلاغتها المكنونـة في علوم : البيان والبديع والمعاني.ولعلّ أروع منْ وصف حقيقة ومعنى البلاغة من المعاصرين مصطفى صادق الرافعي ؛ حينما سمّاها باللغة الخاصة ؛ التي تخرج من اللغة العربية العامة.أما عبدالقاهرالجرجاني في كتابيه ( أسرارالبلاغة ودلائل الإعجاز) فإنما هوكاتب مضى على ما جاء به ألف سنة ؛ وبالتالي لا يمكن الحكم على ما جاء به من بلاغة ( الحياة أوالموت ) وفق أساليب عصرنا الذي أصبح علم البلاغة : { لا يموت فيها ولا يحيى }على الرغم من أنّ ابن الأثيرفي كتابه : المثل السائريعطي للبلاغة وظيفة هجومية :( إنّ مدارالبلاغة كلها على استدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم..).فهل يمكننا اليوم تحويل بلاغتنا إلى معين لنا لمواجهة الخصم ؟ والخصم هنا الغزوالثقافي والبلاغي والبياني واللغوي من يأجوج ومأجوج والروم ؟