عتمة الكلمات تذكرت ماريكا

حجم الخط
5

اسم هذه المرأة اختفى من المكان. شارع المتنبي الذي كان بيتها محته جرافات «سوليدير» ومشروع إعادة إعمار المدينة. القباب العثمانية التي كانت تحفة للناظرين، والشرفات المسورة بالحديد المشغول بالزهور أخلت مكانها لساحة شاسعة يملؤها الفراغ.
تذكرت يوم ذهبت اليها مع مجموعة من الأصدقاء لالتقاط صور خراب بيروت، من أجل إعداد ملصق لمسرحية مقتبسة من رواية «رحلة غاندي الصغير»، وكيف وقفنا مشدوهين أمام اسمها الذي كان يتدلى معلقاً على لافتة من النيون تكاد تسقط عن الشرفة. أحسست أن ما يسقط عن الشرفة ليس الاسم وحده، بل المرأة اليونانية التي أشعلت خيال الناس في بيروت، بجمالها الساحر، وبيتها، والحكايات التي رويت عنها، وصارت أشبه بالخرافة.
ماريكا لم تكن بيروت، مثلما كتب بعض الأدباء الذين مزجوا بين المدينة وأحد أسمائها التي لا تحصى. فالمدينة التي فتحت ذراعيها للاجئين كانت أرض لقاء. بيروت ليست مومسا. إنها مدينة، وماريكا لم تكن سوى مومس عرفت ان تميز بين مهنتها وقلبها. قلبها كان للمدينة أما جسدها فكان نصباً للرغبات. عرفت ماريكا كيف تميز بين الجسد والقلب، ولم تعط جسدها وقلبها إلا لرجل واحد أحبته، وأتت اليوم تبحث عنه في التراب المغطى بالأسفلت.
الاسم الذي كان عنواناً للرغبة، حيث تنحني فيه الألف على الياء، صار ظلاً للوحة الجسد الأنثوي عندما يتسع للكون، ويصبح مفتوحا على الحياة مثل حرف النون.
تذكرت ماريكا لأنها ليست بيروت، وهذا هو سرّ المرأة وسرّ المدينة. ولا مجال للخلط بين السرين. كل سرّ يحمل في داخله عوالمه الشاسعة التي لا تحد، وتنمو على ضفافه طفيليات تدّعي الانتماء اليه، لكنها تظل خارجه، لأنها ليست من طينة من يحمل عبء الأسرار وجماليات المعاني.
تذكرت ماريكا لأن بيروت خانتها، المدينة التي خانها الجميع تخون نفسها، وكانت خيانة بلا جمال. قالت إنها كانت تتوقع الخيانة بل تنتظرها، فالإنسان خائن بطبعه، لكن المدينة التي خانت ماريكا، وهدمت قناطر بيتها، وحطمت اسمها، وجرفت شارع المتنبي، كانت تعرف انها تخون نفسها أيضاّ، وهنا تقع خطيئتها التي لا تغتفر.
قالت ماريكا انهم جميعا يدّعون حب المدينة والانتماء اليها، لكنهم يكذبون. فالذي يحب المكان لا يدوس الذاكرة. «الذاكرة يا ابني كالبشر تمشي، وكالبشر تتنفس الهواء، وكالبشر ترفض ان تُهان».
قالت ان الذين لا يعرفون ان بيروت كانت مدينة اللاجئين اليها من الخوف والقتل والاضطهاد، لن يعرفوا بيروت، وسيدوسون على ذاكرتها، وهم يعتقدون انهم يعيدون بناءها.
«اليها لجأ سكان جبل لبنان خلال الحرب الأهلية الطائفية الأولى عام 1860، واليها نزح الدمشقيون في العام نفسه خوفاً من المذابح، انها مدينة الأرمن والفلسطينيين والسوريين مثلما هي مدينة اللبنانيين، ومن يقل غير ذلك فهو يخون بيروت ويدوس على ذاكرتها وعلى ذاكرة موتاها».
و»لكنك مومس»، قلت، «منذ متى تعظ القحبة في الأخلاق»؟
قالت انها لا تعظ، ولا يهمها الأخلاق، «الأخلاق يا صديقي هي ابنة الحقيقة، وانا مضطرة اليوم للدفاع عن الحقيقة ، بعدما استبيح كل شيء».
«أما مهنتي فلا علاقة لك بها، انها مهنة بنات الفقراء والغرباء، هل تعرف من أنا وكيف وصلت إلى بيروت؟ انت لا تعرف ولن أخبرك، لكن تأكد انني ما كنت لأمشي اليوم وحيدة في عتمة ليل بيروت، لو رأيت فيكم إنساناً واحداً يدافع عن حقيقتكم وحقيقة مدينتكم. أعرف انكم أولاد هذا الخراب، لكن مأساتكم وذلكم ليسا مبرراً مقنعاً لتشويه مدينتكم وقذفها من الحقيقة إلى الأسطورة، أساطيركم هي بلواكم، وبدل ان تروا في بيروت مدينة الغرباء الباحثين عن فضاء الحرية، تقومون بتحنيط المدينة في الأسطورة، وتدفنون ذاكرتكم في جثة الكلمات».
لم أستطع أن أقول شيئاً، نظرت إلى المرأة كي أجيب فلم أعثر عليها، كأن الظلام ابتلعها، وأخذها إلى حيث لا أدري. ثم اكتشفت انني كنت كمن يحاور نفسه، أنا التائه وليست هي، انا من يبحث بين التراب عن أرواح الموتى، كي يستظل بها ويأنس اليها، أنا من يشعر بالخيانة. داسوا على ذاكرتي، وها أنا أقف وحيداً على رصيف العتمة.
بيروت اليوم لا تملك ذاكرة، ذاكرتها مدفونة مع الموتى ومغطاة بالإسفلت، وسوداء بأضواء براقة تحجب الرؤية عن العيون.
ماريكا ليست الموضوع، فهذه المرأة هي مجرد ذاكرة، وقد تكون من صنع الخيال، لكنها حاضرة من أجل ان تمنعنا من النسيان.
خيالنا بنى لها هالة محاطة بمصابيح صغيرة، تدلنا على كاتدرائية القديس جاورجيوس أو سيدنا الخضر، وهناك في سماء الكنيسة الذي تضيئه عيون أيقونات القديسين المفتوحة على الدهشة أمام سر الموت، هناك علقت ماريكا أجمل ثريا يشتعل فيها النور.
نور هذه الثريا التي دمرتها الحرب لم ينطفئ يوما، لا لأن ماريكا كانت قديسة، بل لأن الحقيقة تضيء وتبدد عتمة الكلام.
قالت إنها ترى العتمة في كلامنا.
كنت اعتقد أن الأصوات لا ألوان لها، إلى أن وقفت ليلة أمس وحيدا قي ساحة البرج، والتقيت بتلك المرأة التي شرحت لي أن العتمة الكبرى هي عتمة الكلمات.

الياس خوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سعادة - الصين:

    واو مدهش ..استاذ كبير.. هل يوجد تعبير اقوى من هذا ..

    “خيالنا بنى لها هالة محاطة بمصابيح صغيرة، تدلنا على كاتدرائية القديس جاورجيوس أو سيدنا الخضر، وهناك في سماء الكنيسة الذي تضيئه عيون أيقونات القديسين المفتوحة على الدهشة أمام سر الموت، هناك علقت ماريكا أجمل ثريا يشتعل فيها النور.
    نور هذه الثريا التي دمرتها الحرب لم ينطفئ يوما، لا لأن ماريكا كانت قديسة، بل لأن الحقيقة تضيء وتبدد عتمة الكلام.
    قالت إنها ترى العتمة في كلامنا.
    كنت اعتقد أن الأصوات لا ألوان لها، إلى أن وقفت ليلة أمس وحيدا قي ساحة البرج، والتقيت بتلك المرأة التي شرحت لي أن العتمة الكبرى هي عتمة الكلمات.”

  2. يقول Saleh Oweini:

    Shukran ustad ELias!
    .
    “الاسم الذي كان عنواناً للرغبة، حيث تنحني فيه الألف على الياء، صار ظلاً للوحة الجسد الأنثوي عندما يتسع للكون، ويصبح مفتوحا على الحياة مثل حرف النون.”

    Saleh Oweini
    stockholm

  3. يقول محسن . عون - تونس:

    ليس نثرا / هذا شعر يستقي منه الشّعور / ليس وصفا / هذا لوح نابض عبر العصور.
    الحمد لله، أمّتنا بخير ما بقت بها هذي القلوب. و شكرا أستاذنا أحييتنا أكرمك الله و حيّاك. سلام

  4. يقول علي النويلاتي:

    نعم وكانت بيروت عاصمة حرية العالم العربي، مأوى وملجأ أحرار العرب هرباً من أنظمة قمعية فاسدة مجرمة، تضمهم بين ذراعيها برأفة وحنان. لك ياشعبنا العربي اللبناني كل حب وإحترام وتحية.

  5. يقول Ahmad ismaeil. Holland:

    كلام نثري مدهش وجميل ورائع بكل معنى الكلمة.. كلام نثري مؤثر يقطر شعرية وشاعرية في الوقت نفسه..
    بارك الله فيك يا أستاذ إلياس
    وسلم عقلك ودام قلمك

إشترك في قائمتنا البريدية