بيروت ـ «القدس العربي»: تتألق الصورة الفوتوغرافية في موعدها السنوي الرابع على التوالي في بيروت في مهرجان «فوتوميد». صور من حوض المتوسط تحاول اللقاء مع الشعوب بعد فشل الآخرين. فما حطمته السياسة والحروب من مشاعر وحقائق يمكن للصورة أن تقوله. بقي الكثير لم تقله تلك الصور التي غطت أرجاء بيروت في معارض توزعت في اتجاهات أربعة إلى عدد من الغاليريهات، ويستمر حتى الثامن من شباط/فبراير. غياب صارخ لصورة تعبر عن أنين هذا البحر الذي أخفى في أعماقه أسرار مئات ومئات من البشر الهاربين من الظلم والموت. البحر الذي صار مدفناً مائيا أشاح المنظمون العين عن التراجيديا التي يجسدها حاضره. وفي السؤال أين هي تلك الصورة التي صارت خبراً إعلامياً شبه يومي؟ جاء الجواب أننا حاذرنا الفخ السياسي؟ وهو ليس بالجواب الشافي.
كثيرون يجذبهم مهرجان «فوتوميد» من الدول العربية، وايطاليا، وفرنسا وحتى سويسرا. فليس بالضرورة أن تكون العين متوسطية الولادة، فمن المشاركات مصورة سويسرية أرخت عدستها الطريق العتيق بين تنورين ودوما في الشمال. يتميز المهرجان بألق واضح للأبيض والأسود اللون البكر للصورة. إنها الحياة في صورة تنبض ببشر وحجر ومشاعر. هواة ومحترفون، كل منهم يبذل جهداً في لعبة الضوء كأصل للصورة.
للمعرض عناوين ثلاثة هي الصورة السينمائية، مدينة بيروت والشعر من تحت الأنقاض أو محطماً. دانيال عربيد مخرجة لبنانية ارتبط اسمها بأفلام ناجحة ومثيرة للجدل وآخرها «باريسية». نفترض أن تكون الصور التي تشارك بها تحت عنوان «فتيات مثيرات» هي الأكثر تعبيراً عن السينما كثيمة أرادها «فوتوميد» في نسخته الرابعة. أولت عربيد اهتماماً لافتاً للمرأة في أفلامها، وهو اهتمام يتكرر كذلك في صورها. تضحك عندما نسألها وماذا عن تحطيم القواعد وتقول هو صيت اكتسبته ورضيت به بناء لمقولة والدتي «صيت غنى ولا صيت فقر». الكاميرا رفيقتي أصور خلال التحضير لأفلامي قبلها، خلالها وبعدها. أصور أصدقائي، الممثلين الذين أعمل معهم، واللحظات المفصلية من كل فيلم. أصور بطريقة حرّة، أشق طريقي كمصورة، وفي لحظة الشعور بضرورة التصوير أفعل دون إدعاءات كثيرة.
40 صورة لدانيال عربيد في «دو بيروت» تنتظر الجمهور الذي سيقارن بين عينها كمخرجة تلتقط اللحظات الحساسة جداً، وكمصورة تقدم موضوعاً للمتفرج. صورها تجسد اللحظات الهشة في أفلامها. صورت ممثلاتها، فظهرن وكأنهن لوحات زيتية، وكأنها فنانة تجسد حركة الموديل وأحاسيسها. إذ ثمة مشاعر متداخلة في صورها. عدستها قريبة من المشاعر وخاصة عند النساء. صور فتياتها جريئة كما صورها في أفلامها وخاصة «باريسية» حيث راحت بطلتها نحو قمة التجريب في حياتها الشخصية، دون التفات إلى أي نظرة فضول من أحدهم. أما لقطاتها للمدينة خلال الليل ففيها عين المخرجة المحترفة للعبة الضوء والعتمة. معرضها الأول كان في باريس في غاليري «سينما» وامتدّ لشهرين. تخبرنا عربيد أنه ترك المراقبين يقولون لها «كم تشبه أفلامك صورك»! وتضيف: صورتي تحكمها السرعة والضوء، واجتهد لالتقاط التعبير الداخلي.
المصور الإيطالي سيرجيو ستريزي الذي رحل سنة 2004 بعد أن رافقت عدسته كبار المخرجين موثقاً أفلامهم، كانت صوره محرضاً أساسياً كي يحمل «فوتوميد» 2017 ثيمة السينما، وله صورة الممثلة مونيكا فيتي صاحبة النظرات الغامضة التي شكلت صورة المعرض الأساسية. جميع الممثلين بدءاً من خمسينيات القرن الماضي رغبوا في صورة من عدسته المثيرة للاهتمام. أما تعاونه الذي أنتج غزارة غير مسبوقة في الصورة السينمائية فكان مع أنطونيوني بخاصة في أعماله الرائعة «الليل، الخسوف والصحراء الحمراء». ستريزي كان يهوى التحدي تماماً كما هو أنطونيوني. صور ستريزي التي أتيح لنا معاينتها تقدم الأبيض والأسود بأناقة وبساطة، والألوان الحيوية بإغواء ملحوظ. من ترك المشاعر تخترق حاجز الصورة، كان له أيضاً إثارة القلق فينا من صورة مدينة خالية من أهلها ومن كل حياة. المصور الإيطالي القدير تمكن من ترك الوحدة الكامنة في شخصيات بعض المخرجين أن تصرخ معبّرة. وكانت للنساء في الأفلام حصة كبرى من عدسته ومعهن القراءات التي قالت ان الصورة لديه تتميز بالخصوبة.
بيروت من عناوين المهرجان وشاهدناها في مواضيع كثيرة وبعدسات محلية وأجنبية. تجسدت المدينة عبر صور ليلية تناقض حالة الضوء مع جوليو ريموندي. في رأيه ضاعت بيروت التي كانت. اندثرت هويتها المعمارية والشعبية. لكنها في الليل تعود إلى أصلها. تصبح أكثر إنسانية وهدوءا. وهذا ما قالته صوره عن بيروت ليلاً والتي التقطها بين 2009 و2010. صور فيها دفء المدينة، حتى وإن تخلله القلق في أحيان كثيرة. في رأي ريموندي الذي عرفناه من خلال قراءة مجموعة صوره أن بيروت التي صورها ليلاً تشبه بيروت التي كان يعرفها قبل الحرب الأهلية. إنها أجواء المدينة في العتمة وغياب الكهرباء. فهل هو الزمان المعلق الذي ينتظره بعض من عرف بيروت من قبل؟ ربما.
آثار الحرب على السوريين لم تعد حدثاً طارئاً في لبنان، بل من صلب الحياة العامة. كاميرا جورج عودة راحت إلى الحالة الإنسانية للشبان اليافعين السوريين المنتشرين في كل لبنان. صورة لثلاثة منهم أظهرت كماً من الترابط والتضامن فيما بينهم. هم دون شك يقولون دون أن ينطقوا أنهم يحاولون الانتماء للبيئة التي انتقلوا إليها حديثاً. جورج عودة قدم صوراً عفوية، أظهرت عمقاً في نظرات أصحابها.عفوية لم تستفز الإنسان الذي صوبِت العدسة نحوه، فعودة تميز بعين الأخوة التي يحتاجها من ترك بيته إلى أرض جاره وأخيه.
كريستين علوي فرنسية مغربية قضت ابنتها الشابة في تفجير إرهابي في واغادوغو في المغرب قبل سنة. هي مصورة منذ زمن طويل وأطفالها الثلاثة يدفعونها لعرض أعمالها. تقول لنا: قبل ستة أيام من موت ابنتي ليلى المفجع قالت لي: «ماما اخترت لك 16 صورة وعليك إيجاد طريق لعرضها مع أخرى من اختيارك يجب ان تنظمي معرضاً». وتتابع علوي: هذا صعب جداً بالنسبة لي. فليلى هي قيمة معرضي وليست موجودة، جميع أصدقائي قالوا يجب تحقيق رغبتها وها أنا أفعل. صور كريستين التي التقطت في سبعينيات القرن الماضي بين المغرب ونيويورك حيث استقرّت العائلة لسنوات، فيها الكثير من العواطف، وتجمع بين البشر ومشاهد حية لأمكنة متنوعة. عبرت علوي عن تقديرها لأن يجمع «فوتوميد» شعوب المتوسط من خلال مشاعر الصورة في وقت يزداد فيه التباعد للأسف.
حسب المصور اللبناني طوني حاج عضو اللجنة المنظمة لمهرجان «فوتوميد» فإن عنوان كل معرض تحتمه الصور التي قُدمت من قبل المصورين من حوض المتوسط. هذا العام غلبت صور تذكرنا بالسينما من عقود مضت خاصة من قبل مصورين ايطاليين. المهرجان يتيح فرصة ابراز صور من المتوسط سواء كان المصور ينتمي إليه أو بعيد عنه. ولأننا حيال عنوان سينمائي كانت مونيكا فيتي الممثلة الإيطالية المعروفة في الفيلم الأول بالألوان للمخرج أنطونيوني هي نجمة البوستر. وأضاف: نهتم في اختياراتنا بتقديم موضوعات تمكن الجمهور اللبناني من التواصل معها، والأهم هو المزج بين الصورة العالمية والمحلية.
مدير مكتب السياحة في باريس ونائب رئيس «فوتوميد» لبنان، سيرج عقل رأى أن مهرجان الصورة يعمل لتقريب الشعوب وتواصلها ولو عبر الصورة. وتعود أهميته لكونه يجمع بين المحترفين والهواة من المصورين. وفي الدورة الرابعة استقطب مصورين من ايطاليا، اسبانيا، سويسرا، تونس والمغرب وغيرها. لسنا بصدد عرض للصور فقط يقول عقل: بل كذلك تبادل الخبرات وتشجيع الهواة عبر ورشات عمل وتدريب. ويتيح المهرجان للمصور اللبناني أن يتعرف إلى غيره، وأن يقدم صورته للآخر. وبالسؤال عن غياب صورة الموت اليومي التي تترصد الهاربين عبر القوارب في المتوسط يقول عقل: لم يكن الموضوع غائبا عنا كلجنة منظمة، وكذلك الحرب القائمة في سوريا كبلد متوسطي. لكننا وجدنا ضرورة لتسليط الضوء على الصورة الإيجابية. حاذرنا الموضوع لأننا حاذرنا السياسة في لحظة ما!
زهرة مرعي