على رغم مرور 56 عاماً على أول انقلاب عسكري في تاريخ تركيا الحديث، ما زال يشكل لغزاً كبيراً لم تنكشف كامل أبعاده إلى اليوم. الزمرة الانقلابية التي قامت بإعدام رئيس الوزراء الشعبوي عدنان مندريس واثنين من وزراء حكومته، لاقت دعماً جماهيرياً من اليسار، وقيل إنها كانت متأثرة بتجربة الضباط الأحرار في مصر بقيادة جمال عبد الناصر. لكن تحليلاً آخر لذلك الانقلاب العسكري، يستند إلى شهادات شهود على ذلك العصر، أخذ يبرز في السنوات القليلة الماضية، يتهم أصحابه فيه دوائر حلف شمال الأطلسي، أو المخابرات المركزية الأمريكية، بتدبيره.
في العام 1959 قام مندريس، يرافقه وزيرا الخارجية والمالية، بزيارة إلى الولايات المتحدة، طلب خلالها من الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت قرضاً بقيمة 300 مليون دولار بهدف استثمارها في مشروعات تنموية صناعية، كانت تركيا بأمس الحاجة إليها في ظل أزمة اقتصادية ـ اجتماعية كانت تنذر بانفجارات اجتماعية كبيرة، ظهرت بوادرها في السنوات القليلة السابقة. رفض روزفلت الطلب التركي قائلاً لمندريس، وفقاً لمرويات شهود، إن تركيا تلبي حاجات بلدان حلف الناتو من الغلال الزراعية، وعليها أن تبقى كذلك.
عاد الوفد الحكومي خائباً إلى أنقرة. واقترح أحد أركان الحكومة طلب القرض من الاتحاد السوفييتي. فتم تكليف وزير الصحة بمهمة مفاتحة القيادة الروسية بأمر القرض، أثناء وجوده في موسكو لحضور مؤتمر طبي دولي، أوائل العام 1960. وإذ تلقت الحكومة إشارة إيجابية من موسكو، أعلن مندريس، في شهر نيسان/ابريل، أنه سيقوم بزيارة رسمية إلى العاصمة السوفييتية، في شهر حزيران/يونيو القادم.
منذ أوائل شهر أيار بدأت مظاهرات طلابية يسارية تخرج ضد الحكومة. وفي 27 أيار/مايو تم الانقلاب العسكري واعتقل أركان الحكومة وصولاً إلى محاكمتهم والحكم بالإعدام على ثلاثة منهم.
وفقاً لهذه التحليلات، قررت واشنطن الإطاحة بحكومة عدنان مندريس قطعاً للطريق أمام زيارته لموسكو التي كان من المحتمل أن تؤدي إلى تقارب تركي ـ سوفييتي قد يصل حد خروج تركيا من الحلف الأطلسي، بعد أقل من عقد على انضمامها إليه. وفي ذلك العصر، في ذروة الحرب الباردة، كان تدخل المخابرات المركزية الأمريكية للإطاحة بحكومات دول من الأمور المألوفة. وهذا مما يعزز فرضية وقوف واشنطن وراء انقلاب 1960 العسكري الذي سيشكل فاتحة سلسلة من الانقلابات، شهدنا آخر حلقاتها في منتصف شهر تموز/يوليو الماضي.
مناسبة هذا التذكير هو رواج اتهامات مماثلة، هذه الأيام، بوقوف واشنطن باراك أوباما وراء الانقلاب العسكري الفاشل الذي هز تركيا والعالم، وما زالت ارتداداته مستمرة إلى اليوم. وتجاوزت هذه الاتهامات الإعلامَ والرأي العام إلى وزير في الحكومة القائمة، إضافة إلى «العتب» الذي وجهه أردوغان لقادة الدول الغربية الذين «انحازوا» إلى الانقلابيين والإرهابيين حسب تعبيره، ولم يعبروا عن تضامنهم مع الحكومة والشعب التركيين.
إذا كان اتهام واشنطن بالتحريض على الانقلاب أو تدبيره، يفتقد إلى الأدلة – أو لا تكشف الحكومة التركية عنها، في حال وجودها، لأسباب مفهومة – فعتب أردوغان، بالمقابل، له ما يبرره. فقد تأخرت واشنطن والعواصم الأوروبية الحليفة في إعلان مواقف حازمة ضد المحاولة الانقلابية، وبدا كما لو أنها كانت تنتظر نجاح الانقلاب لتعترف به. بل إن صحفاً أمريكية توقعت انقلاباً عسكرياً ضد الحكومة، منذ عدة أشهر، مقدمةً له مبررات في سياسات الحكومة التركية الداخلية والخارجية. واللافت أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو أول رئيس دولة يتصل بأردوغان مهنئاً بفشل المحاولة الانقلابية، ومعلناً تضامنه مع الحكومة التركية. مع العلم أن العلاقات بين البلدين كانت قد وصلت إلى ما يشبه الحرب الباردة، ولم يبدأ تطبيعها إلا قبل أقل من شهر من المحاولة الانقلابية. ويستعد الرئيس التركي لزيارة موسكو في التاسع من الشهر الجاري.
زيارة عدنان مندريس لم تتحقق، لأن انقلاب أيار/مايو 1960 قد أطاح به. مقابل زيارة أردوغان المرتقبة التي ربما حاول الانقلابيون قطع الطريق عليها من خلال الإطاحة به في ليلة 15/16 تموز الطويلة، إذا صحت المقارنة في تحليل حاذق قدمه الكاتب اكدوغان أوزكان في موقع T24 الأخباري.
يركز أوزكان في، تحليله المذكور، على حادثة إسقاط طائرة السوخوي الروسية على الحدود السورية التي شكلت نقطة انعطاف كبيرة في العلاقات الروسية – التركية، من جهة أولى، وفي الانخراط التركي في الصراع السوري، من جهة ثانية، متسائلاً عمن اتخذ القرار المشؤوم بإسقاط الطائرة، ذلك القرار الذي سيكلف تركيا الكثير، ويضطرها في النهاية إلى الاعتذار على لسان الرئيس أردوغان بالذات.
فقد كانت الذريعة التي تم تسويقها لإسقاط الطائرة هي أنها اخترقت المجال الجوي لتركيا لمدة 17 ثانية! وفي رأي الكاتب أنه كانت لدى تركيا خيارات أخرى كملاحقة الطائرة وإرغامها على مغادرة الأجواء التركية بدلاً من استهدافها بصواريخ. لعل من اتخذ القرار بإسقاط الطائرة توقع تضامناً أمريكيا – أطلسياً مع حق تركيا في الدفاع عن حرمة أجوائها. بل من المحتمل أن تكون بعض الدوائر في الإدارة الأمريكية شجعت على ذلك، بالنظر إلى أن الاختراق الجوي الروسي لم يكن الأول، بل سبقته عدة حوادث مماثلة من غير أن تنتهي النهاية نفسها. وكان التضامن الأطلسي مع تركيا في وجه التهديدات الروسية، بعد إسقاط السوخوي، فاتراً كحاله اليوم بمناسبة الانقلاب العسكري الفاشل. فالتصريحات الأمريكية والأوروبية تركز على نقد الانتهاكات في عمليات التطهير التي تقوم بها الحكومة ضد جماعة فتح الله غولن المتهمة بتدبير المحاولة الانقلابية، أكثر من اهتمامها بنجاة تركيا من عقابيلها الوخيمة. أخيراً، يوحي أوزكان بمسؤولية رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، أو بعض أركان حكومته، باتخاذ قرار إسقاط الطائرة الروسية. وذلك من خلال تذكيره بأن حكومة داوود أوغلو كانت قد تشكلت للتو وبدأت مهماتها في اليوم نفسه الذي أسقطت فيه الطائرة. بالمقابل لم يمض شهر واحد على تشكيل حكومة خلفه بن علي يلدرم حتى بدأت المبادرات الودية التركية تجاه موسكو.
قد تحافظ هذه الافتراضات على غموضها، ولا تنكشف الحقائق قبل مرور سنوات، كحال الانقلاب العسكري في العام 1960. فالدولة العميقة عميقة بأسرارها، ما لم تفضحها وثائق ويكيليكسية. فهل تشكل زيارة أردوغان المرتقبة إلى موسكو بداية لإعادة تموضع تركية على المستوى الاستراتيجي كما يتوقع البعض؟
٭ كاتب سوري
بكر صدقي
الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت توفي عام 1919 وربما تقصدالرئيس ايزنهاور