عدوى الشعر

حجم الخط
9

في مقدور القارئ الحصيف أن يحزرهم واحدا واحدا، هؤلاء الذين أصبحوا شعراء وأدباء بالعدوى، سواء كانوا من المشتغلين في الصحافة الثقافية أو من المذيعين، حيث تبدأ المسألة باستعانتهم بذوي الاختصاص من أجل صياغة أسئلة، أشبه بوصفة شاملة تصلح لكل من يستضيفونهم، ونادرا ما ينفق معظم هؤلاء ولو قليلا من الوقت والجهد لاستقراء نصوص الضيف وليس قراءته أفقيا فقط، والمفارقة أن من يفعلون ذلك ويحرصون على تطوير وترقية أدائهم المهني يتلقحون ضد العدوى كي لا يصابوا بما أصيب به الغراب الذي حاول تقليد مشية الحمامة، ففقد المشيتين معا.
أما إغواءات العدوى فهي تتطلب أولا ضعفا في المناعة المهنية والشخصية لدى من يتعرض للإصابة، وهنا أتذكر عبارة لإدمان عن الشعر باعتباره سيئ الحظ لأن قماشته كما يقول هي الكلام به، الكلام الذي نشتبك في الخصام ونتدفأ به في العلاقات الحميمة، وهو أيضا الكلام الذي نشتري به سلعة ما ونطلب به شرابنا وطعامنا، وبهذا المعنى فإن الفنون التي قماشتها ليست الكلام كالفن التشكيلي والباليه والموسيقى تعتبر محظوظة، لأن مجال الاشتباك فيها بين الموهوب والموهوم يكاد أن يكون معدوما، رغم أن من يترجمون كل شيء حتى صمت التمثال إلى كلام يهمشون اللوحات والموسيقى حين يترجمونها إلى لغة، ولعل هذا ما دفع موسيقيا طلب منه أن يشرح معزوفته، فأعاد عزفها وصمت.
إن ظاهر الفن والقرائن المصاحبة لمن يمارسونه يبدو سهلا، بحيث تكفي بضع أدوات كي ينال المرء الاعتراف، والحقيقة بعكس هذا تماما، لأن الإبداع يُنجز في ذروة العزلة، ويكون المرسل إليه مُتخيّلا وأحيانا يكون المطلق، بحيث تكون الأنوثة المطلقة هي البديل عن امرأة بعينها وكذلك الصفات الأخرى حتى لو كانت لشجرة، والقول المأثور عن الشجرة التي تحجب الغابة والغابة التي تحجب الشجرة يقبل تأويلات لا نهاية لها ومنها أن تحجب الأنوثة المرأة، والذكورة الرجل، كما يختفي الجميل وراء الجمال.
ما يغيب عن ضحايا الإصابة بعدوى الكتابة على اختلاف حقولها هو أن الإنسان يحتاج إلى ولادة ثانية كي يغير مجرى حياته، لكنه في هذه الولادة القيصرية العسيرة يكون قد ناب عن أبيه في إنجاب نفسه وناب عن أمه في الحمل أيضا، وفي الثقافة العربية ثمة ظواهر تستحق الحفر في هذا المجال، ومنها المجال المغناطيسي لبعض الألقاب ومنها لقب الشاعر، وإن كان لقب الروائي أو الروائية قد بدأ ينافس لقب الشاعر في العقود الأخيرة.
لهذا ما من تفسير لإقبال زعماء سياسيين على الكتابة إلا تلك المغناطيسية الموروثة للألقاب الأدبية، وحين يكتب جنرال مجموعة قصصية يتردد في نشرها حتى الهواة فذلك أمر يتطلب تحليلا سايكولوجيا، وهذا ما تكرر عندما كتب زعيم سياسي آخر روايات لا نعرف عدد من تناوبوا على إعادة صياغتها، بحيث انتهت في النسخة الأخيرة إلى طلاق بائن بين المؤلف والرواية. وحكاية الشغف بالألقاب في عالمنا العربي تطول، ورغم كثرة دلالاتها إلا أن أهم دلالة لها هي أن المواطن الفرد المجرد من الألقاب لا قيمة له، إذ لا بد من إضافة صفات تميزه عن بقية الناس لهذا حمل البعض من الساسة وحتى الأدباء ما لا يطيقون من الألقاب، وعندما حاول أحدهم إسقاط هذه الثقافة على جان بول سارتر شعر الرجل بالفزع وصاح بأحد أصحابه طالبا منه أن يقتسم معه هذه الحمولة الباهظة، وقال كلمته الشهيرة بل الخالدة: إن له لقبا واحدا هو القارئ ولا شيء آخر.
المصابون بعدوى الكتابة من خارج سلالتها غالبا ما يصبحون راديكاليين وغلاة، فهم أكثر ملكية من الملك وأكثر كاثوليكية من البابا، ومرد هذه الراديكالية وهذا الغلو إلى إحساس دفين بأنهم طارئون وثقافتهم برمتها تتسم بـ»البعارة»، واستعير هذا المصطلح من فلاحي قريتي، فهم يطلقونه على من ينتظرون نهاية المواسم، خصوصا موسم الزيتون وبعد اكتمال القطاف يذهبون لالتقاط ما تبقى من الثمر، وله اسم يليق به في معجم الفلاحة رغم عدم معرفتي بجذره الاشتقاقي هو القرقيع، لأنه يوحي بالصخب وبمن يتحولون إلى ظواهر صوتية كالطبول بسبب امتلائها بالهواء.
إن ظاهرة هذه العدوى ليست جديدة لكنها أصبحت أكثر وضوحا وانتشارا بسبب الفائض الفضائي وسُعار الميديا التي تحتاج إلى علف على مدار اللحظة وليس الساعة فقط، وهناك حقيقة قد تعيننا على إضاءة هذه الظاهرة من مختلف الزوايا، هي أن العسل المغشوش أكثر حلاوة من العسل الطبيعي، وعصير البرتقال المصنّع أكثر برتقالية من البرتقال ذاته، وأظن أن النقد يحذر من الاقتراب من الشعراء والكتاب بالعدوى لأنه يحاول ما أمكن أن يتقي راديكاليتهم وغلوهم وما يرشح من إحساس المريب الذي يوشك أن يقول: خذوني أو بمعنى آخر أعيدوني إلى مهنتي.

٭ كاتب أردني

عدوى الشعر

خيري منصور

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أحمد بيه / المانيا:

    الكاتب الفيلسوف المتألق دائماً خيري منصور وبعد الجميل من التحايا والشكر على هذا الموضوع المهم والطرح الرائع
    أرى ان السبب من وراء شغف البعض بالألقاب إنما يعود الى انقطاع الاتصال الروحي أو التلاقح ما بين الذات وطبيعتها عند هؤلاء , ما أدى الى اضمحلال الفكر الإبداعي لديهم , الأمر الذي يتطلب منهم اللجوء الى آليات عجيبة لتعويض ما ينتابهم من شعور بالنقص ومنها الشغف بجمع الألقاب بحيث يشعر المواطن العادي المجرد من الألقاب بالدونية ومن ثم تسهل السيطرة عليه , وخير مثال على ذلك شغف مارشال مصر بجمع الألقاب للدرجة التي جعلته يلغي كل قرارات الرئيس المنتخب مرسي والمؤقت عدلي منصور عدا تلك المتعلقة بترقيته الى فريق أول ومن ثم الى مشير

  2. يقول عمر:

    /.. وحكاية الشغف بالألقاب في عالمنا العربي تطول، ورغم كثرة دلالاتها
    إلا أن أهم دلالة لها هي أن المواطن الفرد المجرد من الألقاب لا قيمة له ../ اه
    السيد خيري منصور .. وضعت إصبعك على الجرح الحقيقي فعلا ..
    هذا هو المرض الحقيقي الذي يعاني منه المتعلمون المتثاقفون في مجتمعاتنا العربية ..
    يعني في حدا غير العربي المصروع بيكتب عن حاله “د. فلان” أو “أ. د. علان” .. ؟!
    مع أن هذا يحدث فعلا حتى على المستوى الفردي في مجريات الحياة اليومية .. ؟!

  3. يقول مروان:

    أسألك بالله يا أستاذ خيري منصور، هل تسمي هذا المقتبس شعرا حقيقيا ؟؟؟
    “ولدي…يا قطعة من كبدي…
    بل كبدي؛ ماذا يكون في يدي…
    والهوا حرّمه منْ يعتـدي؛ يا ولدي.
    ولدي يا قطعة من كبدي بل كبدي…”
    ومع ذلك فالشخص الذي كتبه يقدم نفسه على أنه شاعر من العراق وعلى أنه دكتور أيضا
    في الواقع يلزمنا الكثير للشفاء من هذه الأمراض العضال حتى نرقى إلى مرتبة الإنسان !!!

    1. يقول عمر:

      أخ مروان .. هذا المقتبس الذي يدعي صاحبه بأنه “شعر” .. !!
      ومع ذلك فهو في الواقع منشور في هذه الصحيفة تحت هذا العنوان “الكبير”
      “تسونامي الطفولة الغرقى” في تاريخ 5 أيلول 2015 باسم “جمال البدري” شاعر من العراق .. !!

  4. يقول جاسم:

    بارك الله فيك يا أستاذ خيري منصور على هذا المقال الذي يعالج موضوعا حساسا جدا كالهوس بالألقاب. وأذكر هنا أن أخانا الأستاذ حي يقظان تحدث أكثر من مرة عن هذا المرض المستشري في مجتمعنا العربي (أي الهوس بالألقاب) قبل أكثر من ثلاث سنوات (بالمناسبة غيابه ملحوظ جدا هذه الأيام). فمن العرف الأخلاقي في أي مكان من هذا العالم هو أن الناس هم الذين يخاطبون الشخص المعني باللقب الذي يليق به، وليس العكس المضحك بأن هذا الشخص هو الذي يقدم نفسه باللقب الذي يحاول أن يفرضه على الناس.
    وإلى الإخوة المعلقين عمر ومروان وأحمد.. للأسف الشديد شعر مبتذل كهذا الذي يسميه صاحبه “شعرا” يجعل حتى القضايا الكبيرة التي يتحدث عنها غاية في الابتذال، شاء هذا الذي يدعي أنه “شاعر” أم أبى .. !!

  5. يقول مزهر جبر الساعدي / العراق:

    الاستاذ المحترم: في المقدمة أنا أن أحترم بدرجة كبيرالكاتب وما يكتب، أعني به كاتب المقال: المقال في المجمل صحيح بما ذهب إليه. لكن من المهم ان نعرف حقيقة مهمة وهي في غاية الأهمية: أن العالم الآن هو عالم الثوره المعلوماتيه، أتاحت بطريقة واسعة جداً سبل النشر الرقمي بالذات. أغرت الكثيرين في الكتابة والتعبير عن ما يجول في النفس، ومن ثم أتسعت الدائرة لتشمل الشعر مع جميع السرديات. والاستاذ العزيز هو من فك هذا الأشتباك عندما أورد رد سارترأن لقبي هو القارىء. أذاً القراء هم من وهنا اعني القراء القراء أستاذي: صفة قاص، روائي، شاعرأو اي صفة ابداعية اخرى. أما بخصوص الدكتور الشاعر الأستاذ جمال البدري: لايمكن باي حال من الأحوال أقتطاع جزئية من قصيدة ومن ثم البناء عليها سلبا او ايجابا من دون تناول القصيدة بالكامل وكان الأجدرلمن اقتطع هذا المقطع ان يكتب تعليقه عندما نشرت القصيدة او يكتب قراءة نقدية ويرسلها الى ذات الجريدة.. تحيتي مرة اخرى للأساذ خيري مع بالغ ودي ومحبتي

  6. يقول مروان:

    إذا كان الأمر بهذه النظرة الكلية حقا، فما على من يطلب النظر إلى “القصيدة” ككل سوى أن يتأكد من أنها لا تعدو أن تكون رصف كلام مباشر مقفى بقافية مصطنعة ومقحمة لا تضفي عليه سوى صفة الابتذال بكل معنى الكلمة، وسواء كان الطالب المعني مدافعا تحت الاسم جمال البدري نفسه أو تحت أي اسم آخر:
    “لــو أنّ روحــي بيـــدي
    لافتدت كلّ وجيـع كمدِ
    بل كلّ طفل شارد عن بلدي.
    ولـــدي: يا قطعة من كبــدي
    بل كبدي؛ مليون طفل قتلوا
    لأنكم…يا ولــدي
    رصيد هذا البلدِ.
    ولدي…يا ثورة الأمل المؤجلِ
    بل ثورة على غدر الغدِ…
    ولدي …يا ولدي :
    لو كلّ حيّ قتلوا
    في وطني
    فسوف يبقى بلدي
    يهابه مـنْ يعتدي.
    قل يا ولدي :
    يا لعنة الله على كلّ أثيم معتدِ”
    فالشجاعة الحقيقية تقتضي بأن صاحب الحق الفعلي هو الذي يدافع عن حقه باسمه الحقيقي لو كان صاحب حق بالفعل، ودون أن يلجأ إلى المرواغة والتحايل من خلال انتحال اسم آخر !!!

  7. يقول أحلام:

    أرى أن هذه الألقاب تزداد يوما بعد يوم… ربما بحسب التضخم المالي الذي يعقب الحروب… !!
    كنا بلقب “الشاعر” على الحاف… وصرنا بألقاب “الدكتور” و”الشاعر” و”الأستاذ”… وشو كمان… ؟؟
    المسكين الذي يصر على تلقيب نفسه بأي من هذه الألقاب… حقا… مصاب بنوع من أنواع جنون العظمة… !!

  8. يقول مزهر جبر الساعدي / العراق:

    الأخ مروان أنت لم تأت بجديد في التعليق على التعليق وثانيا أن الرجل لم يكتب أي شىء حتى هذه اللحظة.
    أنا قرءت القصيدة ولا أدعي أن القصيدة جيدة لأني لست بناقد وأصلاً لست بشاعر. لكن في هذا الحيزمن الممكن عندما نقول أن القصيدة ضعيفةأو أنها ليست بقصيدة علينا نأتي بالدليل من خلال أبراز عدم ترابط كلمات الشطر أو عدم ترابط الأبيات مع بعضها وهذا العمل لم تقم به حتى اللحظة فقط كتبت: رصف كلام مباشر،مصطنع، مقحم، مبتذل خالي من المعنى. القصيدة مثما فهمتها أراد شاعرنا البوح لأبنه الألفتراضي لأن الأبن في القصيدة والأب كليان الوجود في الفقد والوجع قبل الغرق والذي هو المعادل الموضعي للضياع. من رماد التيه ومن بقايا الوجود بعد الأمحاء الممنهج ينبثق من الأستلاب والتغريب والقتل من جميع ما هو كائن الآن، ما سوف يكون ولو بعد زمن بما يجعل للوجودمعنى خارج الوجع والدم والأغتراب عن المكان. تحيتي لك وكذلك للأستاذ الشاعر الدكتور جمال البدري وقبل الأثنين لأدارة تحريرالجريدة.

إشترك في قائمتنا البريدية