عزت الدوري والبعث النقشبندي المتصالح مع الجهاديين 

حجم الخط
6

■ كلمة عزت ابراهيم الاخيرة تضمنت لغة غير مسبوقة في أدبيات البعث، الإشادة بتنظيم «القاعدة» والدولة الاسلامية بالاسم، والإقرار بالدور الريادي للفصائل الاسلامية المسلحة .
ولو عدنا اياما قليلة لوجدنا ان مفردات البعث العراقي في وصف الدولة الاسلامية كانت تتراوح ما بين الحركة الارهابية المتطرفة التكفيرية وبين انها متواطئة مع ايران والمالكي لتشويه الثورة .
انه تحول نحو مصالحة فرضها واقع الصراع في العراق بين البعث العراقي والتيار الاسلامي الجهادي، الذي طالما كان قادته ملاحقين امنيا من نظام صدام، قبل ان تصبح الحاضنة السنية لهذا التيار الاسلامي هي الوحيدة التي حمت البعثيين والعسكريين، بعد سقوط النظام في العراق.
كما انه اعتراف لحقيقة طالما حاول البعثيون في للعراق إنكارها وهي، تضاؤل دورهم الاجتماعي والعسكري في العراق لصالح التيارات الاسلامية السنية والشيعية حتى قبل سقوط بغداد، فالفاعلون في العراق اليوم هم خصوم البعثيين العراقيين التاريخيين من الطرفين، الدعوة الشيعي الذي كان حزبا محظورا، والتيارات الجهادية السلفية التي كانت ملاحقة ولو بدرجة اقل تحت مسمى «الوهابية» .
يبرز اليوم تيار تجديدي من البعثيين معظمهم قيادات شابة داخل المناطق السنية يدفعون باتجاه هذه الصبغة الجديدة المتصالحة والمتحالفة مع الاسلاميين السنة، بينما ينظر بعض البعثيين الشيعة بغضب لهذا التقارب كون بعثيتهم مبنية في احد أركانها على الحساسية البالغة من الاسلام السياسي السني، وقد هاجم احد الأصدقاء من البعثيين الشيعة خطاب الدوري بعنف، وتبرأ صراحة من قيادته لانه تحول لـ»بعث داعشي»،
هذا التحسس البالغ لدى البعثيين الشيعة من التقارب مع التيارات الجهادية ليس موجودا عند معظم البعثيين السنة، فهم يعرفون ايضا ان كثيرا من البعثيين والعسكريين في مناطق الجنوب انضموا لأحزاب طائفية شيعية، بل ان قادة الجيش العراقي الحالي الموالين للمالكي هم شيعة كانوا ضباطا وبعثيين سابقين.  
أتذكر قياديا وسطياً في الحزب من جنوب العراق كان من اشد المنظرين لفكر البعث وكان شديد التحسس من الاسلاميين، وقبل سقوط بغداد بسنوات وعندما كنت اتحدث معه ان رصيد الاسلاميين في الشارع يزداد وان الترهل بات مستشريا في الحزب وظاهرة التكارتة (من تكريت) صارت طاغية، لم يكن يجيبني الا بمقطوعات من كتاب «في سبيل البعث» لميشيل عفلق، ويقول لي اقرأ ما سأكتبه غدا في جريدة «الثورة»، وبعد سقوط بغداد بأسابيع وجدت له عمودا ثابتا في جريدة لحزب الدعوة الشيعي وباسمه الصريح ولا داعي لاذكر مضمون المقال .. 
ان ما فعله الدوري وجيش النقشبندية هو تأكيد لسنية بعث العراق مقابل علوية بعث سوريا. وهو اقرار بتلاشي فكرة البعث القومية العلمانية امام «الانتماءات العميقة» لمجتمعاتنا الطائفية العقائدية في المشرق العربي.
وعندما كنا نتحدث عن ذلك منذ سنوات سقوط بغداد كانت حالة «الانكار» من بعض قيادات البعث تسيطر على ذهنيتهم لتعطل اي محاولة من بعض القيادات الشجاعة لإجراء مراجعات جريئة حقيقية في فكر وخطاب البعث، في محاولة لإبقائه حيا وسط المتغيرات .
ما حدث اليوم للبعث كان مؤشرا وبوضوح منذ سقوط بغداد وحتى ما قبل السقوط بسنوات، من قبل بعض القيادات التي كانت تدرك المآلات، لكن قدرتها على التغيير محدودة، بعد سقوط بغداد بايام بحثت عن الدكتور الياس فرح الناطق باسم القيادة قومية لحزب البعث وأحد رفاق ميشيل عفلق مؤسس البعث، لاجده لاجئا في كنيسة بحي 52 ببغداد قرب الجامعة التكنولوجية، وبعد ترتيبات امنية مشددة من الكنيسة استطعت اللقاء به، كان الدكتور الياس، وهو قامة فكرية قومية فريدة، يشعر بألم بالغ من سقوط النظام ويعيش حذرا امنيا بعد انتشار الميليشيات الشيعية التي اخذت تغتال البعثيين، وقريبا منه زمانيا ومكانيا اغتيل الفنان الكبير داوود القيسي برصاصة في رأسه وامام باب بيته.
تحدث الدكتور الياس بصعوبة عن اسباب انهيار الحزب والدولة، وكان وقتها مريضا.. تخرج الكلمات منه بصعوبة، ولكن باعتقادي ان ما كان يؤلمه اكثر هو انه لم يجد سوى الكنيسة ليلتجأ اليها، وهو مفكر حزب البعث الذي كان يحكم العراق بأكمله بمئات المقرات والمعسكرات الحصينة للحزب والدولة والجيش واجهزة الأمن. بعدها بايام.. التجأ قائد البعث عزت ابراهيم الى تكية نقشبدنية.. رفاقه الصوفية وفروا له الحماية هو الاخر.. مستفيدا من علاقاته القديمة بهم، رغم ارتباطه الأقدم بالحزب والدولة، لكن الدوري بدا حاذقا وهو يؤمن لنفسه كيانا سيحميه يوما ما اكثر من بعض رفاق حزبه الذين لم يستطيعوا حماية انفسهم، رغم انهم امتلكوا مقدرات دولة كالعراق، كان للنقشبندية فيها مؤسسة او اثنتان لا أكثر، لكن النفوذ المجتمعي هو الاهم، حيث العصبيات التي تحمي الدول ومن دونها تسقط. ومن يعــــرف احـــمد ابن عزت الدوري، يعرف كيف انشأ الاب اولاده، لانه سيـــجده شــابا متدينا طيب الخلق، اسلامي الانتماء اكثر منه بعثي العقيدة، اما البعثيون الشيعة فمن بقى منهم بالجنوب التجأوا الى عشائرهم وحسينياتهم، حيث اولاد عمومتهم واقرباؤهم السادة يمنحون صكوك الغفران من «البعث الكافر».
تكية وحسينية، كنيسة وجامع، كم حارب فكر البعث هذه الرموز وحاول تهميش دورها لصالح مجتمع علماني، لكن قادة البعث لم يجدوا الحماية الا في ظلالها.
مجتمعاتنا ظلت بدائية الروابط، قبلية طائفية، وفشلت كل الافكار السياسية الحديثة في الحلول والإبدال.. ربما لان النسخة العربية من هذه الافكار القومية واليسارية وحتى الليبرالية كانت مبتورة الصلة بالتاريخ وعلى عداء مفرط مع الهوية الدينية العميقة لشعوبنا. قد ينظر البعض الى فكرة البعث كتجربة تعايش حاولت جمع العرب المشرقيين باختلاف انتماءاتهم العقائدية، لكن البعض استخدمه كقناع ليس اكثر لإخفاء «نوازع الهوية الكامنة»، ولتحييد عصبيات فرعية من دون جدوى،، فلم يتخلصوا منها، وظلت تسكنهم الى ان عادت للظهور لتفشل التجربة ويسقط القناع ويسقط معه مئات الاف من القتلى في سوريا والعراق.

٭ كاتب فلسطيني

وائل عصام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول غادة الشاويش:

    وائل عصام هذا مقال قيم جدا في علم النفس السياسي والاجتماعي لقد كان رائعا عميقا تحليليا يدل على قلم مفكر بل ودقة فيلسوف نا جح الى حد ان عمقه اخذ بلبي
    وزارة المستضعفين عاصفة الثار ام ذر الغفارية جريحة فلسطينية منشقة عن المنظمة التي تطلق على نفسها اسم حزب (الله )

  2. يقول مصطفى السلطان:

    السلام عليكم
    مقال جدا رائع و تحليل قريب للواقع من ناحية التحليل النفسي للمناخ و المجتمع السياسي في منطقتنا رغم تحفظي على بعض نقاط المقال .
    الا انه فسر بشكل رائع بعض التناقضات السياسيه التي كانت ومازالت على الساحه..ممكن اكبر سياسه العراق تجاه البعث السوري و البعث العراقي .
    تحياتي

  3. يقول ثائر:

    أنسيت أن الاسد وصدام قاما بؤد البعث بالطائفيه تاره وبالقبليه والولاء تارة اخرى, البعث برئ من هؤلاء اللذين شوهوا صورته.

  4. يقول أحمد السامرائي:

    أجدت وأصبت ووصلت الى كثير من الحقائق والتي كنا نحذر منها في السابق ونحن مستقلون ! وقلنا لهم ونحصناهم وخصوصا قبل احتلال العراااق بأن هناك اختراقت في اجهزة الدولة طبعها الانتقام من الشعب بأسم البعث والحزب والدولة وغيرها !!! لم يعطونا أذانا صاغية وصرنا نعيش في العراااق حينها ونحن بلا غطاء وبلا امان من الجميع ! فالاختراقات كانت في حزب البعث من قبل الاحتلال وبسنوااات طويلة وبانت التعنصرات والطائفية بعدها وبهذا الشكل المبتذل …. عجبتني كلماتك الحقيقية (تكية وحسينية، كنيسة وجامع، كم حارب فكر البعث هذه الرموز وحاول تهميش دورها لصالح مجتمع علماني، لكن قادة البعث لم يجدوا الحماية الا في ظلالها) … واسمح لي بأستعارتها وهي تماثل ما قلته انا سابقا أن حزب البعث تشرذم وانقسم بين العمامة الأصولية الصفوية وبين العمامة الاصولية السلفية !!! كلاهما متطرف وطائفي ولا يمت الى الاسلام الحنيف بشيء … وهذا أخطر ما في الموضوع وعلى مستقبل الامة العربية بشكل خاص بكل قومساتها واديانها المتسامحة … مع وافر الاحترام والتقدير لكل الاراء من يخالفنا او يوافقنا الرؤية والطرح

  5. يقول احمد الباسم:

    هذا المقال برغم اعتماده على مؤشرات ظاهرية معروفة وتبدو منطقية وصحيحة غير انه يخطأ في حساب النتائج. بتقديري ان فكر اي حزب لايتشابه في كثير من الاحيان مع التجربة.اخطاء التجربة نادرا ماتكون بسبب الفكر بل بسبب مؤثرات اخرى او بسبب انفصال الفكر عن الممارسة.البعث تنطبق عليه هذه الفرضية. ومعروف تماما ان تجربته بالعراق شابها الكثير من الاخطاء..ما اريد قوله ان فشل التجربة لايعني فشل الفكر دائما .. والحصيلة المنصفة هي النظر للايجابيات والسلبيات لكل مرحلة .. والسؤال المطروح الان والذي يجب علينا جميعا ان نتمثله هل ان تجربة البعث وهو خارج السلطة وهو يعاني من القتل والمتابعة والتنكيل ويقود بذات الوقت جزءا من مقاومة الاحتلال حتى اللحظة الراهنة دون ان يتخلى عن مسؤليته النضالية ..هل باقدامه على التحالف مع المحاربين الاسلاميين سيجره لموقع الاسلاميين ام انه سيعمل على تخفيف تطرف الاسلاميين وزجهم بمشروع تحرير العراق؟..اقول هذا وانا ادعو الكاتب باعطاء الاهتمام لمسيرة الحزب بمجراه العام دون غض النظر عن التجارب الفردية لبعض الاشخاص

  6. يقول خليل ابورزق/ الاردن:

    البعث انتهى عندما اتخذ الانقلاب العسكري سبيلا للوصول الى الحكم و تولى قيادته عسكر سطحيو الثقافة بداية من امين الحافظ الى حافظ اسد الى صدام حسين

إشترك في قائمتنا البريدية