في التاسع عشر من فبراير الحالي، نشر الصحافي الإسرائيلي باراك رافيد تقريراً حصرياً في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية عن اجتماعٍ سريٍ رباعي في العقبة جمع بين جون كيري وزير الخارجية الأسبق إبان فترة رئاسة أوباما ونتنياهو، والملك عبد الله الثاني والرئيس السيسي.
وقد قامت الرئاسة المصرية بالرد على ذلك، موضحة أن ما نشر من تفاصيل ذلك الاجتماع وما تضمنه من اقتراحات، منها ما هو مغلوط. مشددةً على كون الموقف المصري من القضية الفلسطينية يتنافى مع ما زعمه التقرير. لم تنف الرئاسة وقوع هذا الاجتماع، وقد تُحسد على كونها اهتمت بالرد من الأصل بما عهدناه منها من عدم الاكتراث وإيثار الصمت عن الخوض في ما يحرجها.
بيد أن ذلك الموقف لم يمر والحرج لم يبتعد كثيراً عن ساحة النظام، إذ في مفاجأةٍ أخرى صرح أفيغدور ليبرمان وزير الدفاع الإسرائيلي، بأن القوات الخاصة التابعة للختنشتاين استهدفت عناصر من تنظيم «الدولة الإسلامية» في سيناء، رداً على صواريخٍ كانوا قد أطلقوها فهبطت في الأراضي المحتلة، مؤكداً بذلك ما كان التنظيم قد أذاعه. من ضمن من نشروا هذا التصريح شبكة (آر تي) الروسية التي لا تعد بأي حال قريبةً لإسرائيل.
هذه المرة، لم تصدر الرئاسة نفياً أو توضيحاً رسمياً، على الأقل في ما أعلم وحتى وقت كتابة هذا المقال، لكنني قرأت في موقع «ديلي نيوز إيجبت» حواراً مع مسؤول سابقٍ بالمخابرات المصرية حددته بالاسم، ينفي فيه وقوع ذلك قائلاً، إنه في حال وقوع ذلك لكانت وسائل الدفاع المصرية تصدت لذلك الهجوم، مشيراً إلى أن اتفاقية كامب ديفيد لا تبيح مثل تلك التجاوزات. لن أعلق مفنداً على هذا الكلام.
بيد أن الخبرين والوقائع المحيطة بهما ينبغي ألا يمرا هكذا، ككل شيءٍ آخر يمر ويعبر إلى محيط النسيان الضخم في مجتمعاتنا التي لا تحب التدوين وتعادي التاريخ.
لا أريد أن أثبت صحة تقدير الحكومة المصرية التي تميت الحقائق والوقائع والأحداث والفضائح بالسكوت عليها، وعلى ذلك فثمة ملاحظات أود تسجيلها. وفقاً لمقال باراك رافيد (وهو من الناحية الفعلية ليس صاحب السبق في النشر وحسب، وإنما يوفر لنا السرد المفصل المتاح حتى الآن) فإنه يتبين دون لبس أن الحوارات والمباحثات والمشاورات كانت تدور بين كيري والإدارة الأمريكية من جهة ونتنياهو من جهةٍ أخرى، حيث نرى كيري مبادراً ونتنياهو مماطلاً مناوراً مجادلاً متملصاً وأوباماً متشككاً في جدية نتنياهو، وربما من الأدق أن نقول فاقداً الثقة فيه غير مصدقٍ، وربما غير عابئٍ، ومن ثم فهو يحيل نتنياهو بعد اجتماعٍ حفل بما بين الرجلين من فتور، إلى كيري ليواصلا اللف والدوران. كما نرى كم يؤثر الداخل الإسرائيلي والقوى والتحالفات السياسية الإسرائيلية على سير المفاوضات، أي مفاوضات، وربما ليس ذلك بالجديد إنما لزم التنويه والتذكير.
في المقابل، لا نجد ذكراً للقاءاتٍ مشابهة مع «القادة» العرب، فناهيك عن عدم حضور محمود عباس الرئيس الممثل المفترض للطرف الفلسطيني ذلك اللقاء الرباعي، فإن هؤلاء الآخرين ينتظرون، لا يبادرون ولا يبدو أنهم يداورون أو يفاصلون، هم مركونون، على الهامش، والدور المسند لهم هو الحضور والمصادقة والتوقيع حين يوافق نتنياهو. ربما يضيفون كلمةً هنا أو تفصيلةً هناك ويأخذهم الحماس فيطالبون «بحلٍ عادلٍ للقضية الفلسطينية»، إلا أنها جميعاً تظل معلقةً في الهوامش السخيفة والشكلية، ولن نتطرق إلى محورٍ آخر ألا وهو غياب القوى السياسية الداخلية بآرائها عن المشاورة والضغط ناهيك عن عملية صنع القرار.
الأكثر إزعاجاً من كل ذلك هو ما ذكره رافيد من حرص السيسي على تحاشي أي مواجهة مع نتنياهو و»نصحه» لكيري بأن يلجأ لأسلوب الإقناع عوضاً عن الضغط والإكراه.
في حقيقة الأمر لا أشك كثيراً في صحة وقوع اللقاء أو القصف الإسرائيلي في سيناء بغض النظر عن نفي الخبير الأمني المصري الذي أتركه ينزلق لما قد أطلق عليه «كلام فض مجالس» تأدباً، لكن يبقى السؤال الأهم: لماذا يفضح الإسرائيلون الأمر؟ ولماذ هذا التوقيت؟ يقيناً يدرك من يسرب كم يسبب ذلك من الإحراج للطرفين المصري والأردني في ما يتعلق بالاجتماع والمصري في شأن التعدي على السيادة في سيناء.
لماذا «يحرق» الإسرائيليون السيسي بهذه الصورة بكل ما تحمل الكلمة من تصغير وتحقير وإهانة، على الرغم من تصريحاته عن السلام الدافئ مع إسرائيل والتنسيق المستمر؟
كثيرةٌ هي التحليلات الممكنة التي لن تخرج في رأيي عن حيز التكهنات، ما لم تفصح قيادةٌ إسرائيلية عنه، وهو ما لن يحدث على الأغلب الأعم. في رأيي أن الإجابة تكمن في السؤال: أن ساسةً أو أطرافاً فاعلةً في إسرائيل تتعمد إحراق الرئيس السيسي، لتحجيمه وتصغيره أمام العرب (المرهقين المنكفئين فعلياً) وشعبه، لسلبه من أي زهو أو ورقة توتٍ من التشبث بالسيادة الوطنية أو الانتصار للقضية الفلسطينية، ولئلا تحدثه نفسه بتفعيل الدور المصري الإقليمي، ولو من باب إعادة امتلاك أوراقٍ يستطيع اللعب والمناورة، وربما، الضغط بها. لن تقبل السياسية الإسرائيلية بأي قوةٍ أو دورٍ إقليمي حقيقييٍ في محيطها، ولا تقبل بالرؤساء إلا عراة، معلقين تماماً برضاها ودعمها وتسويقهم أمريكياً. هي لا تحترم أحداً منهم وبعد أن يبذلوا كل شيء ويتنازلوا عن كل شيء وتحصل هي على ما تريده منهم، تلقيهم على قارعة الطريق كخرقةٍ قديمة أو امرأةٍ لم تعد لها حاجة. لنذكر دائماً أن ترامب قد أطلق يد إسرائيل حين قال إنه راضٍ عما يرضي الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، ولما كنا نعلم قلة حيلة (وقيمة) المفاوضين الفلسطينيين «المعتمدين» فإن ذلك يعني ببساطة تمرير إرادة إسرائيل.
لا بد أن أعترف بأنه ليس في الوقائع، كما رويت ما يدهشني، فليست لدي أي أوهام عن طبيعة النظام المصري (أو الأردني أو أي نظامٍ عربيٍ آخر) ، فليس ثمة تناقض بينهما كما أدرك تماماً أن تلك الأنظمة وقد تحللت من كل ثوابتها واختلت بوصلتها لم تعد معنيةً بالحقوق العربية والأرض العربية البتة (بفرض أن بعض تلك الأنظمة اهتمت يوماً ما) وهي الآن بصدد إعادة ترتيب تحالفاتها لتصبح الشراكة والتنسيق الأمني مع إسرائيل واقعاً معلناً نصفق ونطبل له ويصبح العدو إيران والشيعة عموماً، لكن ما يحز في صدري هو مدى ما تردينا إليه من هوان على يد تلك الأنظمة المتسلطة والعسكرية المنهارة التي تستأسد علينا وتنكفئ تماماً أمام إسرائيل مفرطةً في كل شيء،كل شيء سوى الكراسي والمكاسب المالية على حساب الشعوب.
يوماً ما، سُخر من الرئيس مرسي وفُضح ووجه إليه أقسى اللوم والتقريع على «عزيزي بيريز». لست بصدد الدفاع عنه أو عن جماعته لكن لا بد من تقرير أن حرجاً كذاك كان من الممكن التملص منه بقول أن تلك جملة بروتوكولية؛ في المقابل وبعيداً عن المزايدة من حقنا أن نسأل ونتساءل ما هو الرد على فضح ذلك الانكفاء والتنسيق الأمني والإحراج للرئيس السيسي من «عزيزه» نتنياهو؟
كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل