يغيب في الغالب الأعم، الأدب الجزائري المكتوب باللغة العربية عن الزخم السجالي الذي لا يكاد يخمد حتى يشتعل أواره من جديد، بين الكتاب الجزائريين الفرانكفونيين حول مسألة الهوية الوطنية ومسار تشكلها عبر التاريخ، بين متحفظ ورافض لمعالم التأسيس السياسي لها، مع بوادر ظهور الحركة الوطنية، على اعتبار أن التنصيصات التي كانت تجعل من اللغة العربية والدين الإسلامي قدح الذات المعلى، إنما كان يراد منها التدليل على المائز الصحيح، بين كيان الوجود الوطني الخاص والواقع الاستعماري، ذلك لأن الاستعمار نفى في كل خطاباته السياسية منها والثقافية وجود ذات جزائرية، رابطا إياها بحالة الاكتشاف الاستعماري، على شاكلة ما فعل كولومبوس مع العالم الجديد!
طبعا التطور المتصل والمتواصل للخطاب الروائي الفرانكفوني، أفرز جيلا جديدا من الكتاب ليس يقطع، في مرجعيته، فقط مع الهوية التي نصت عليها مواثيق الحركة الوطنية وترجمتها المشروعات المجتمعية للدولة الجزائرية المستقلة، على شاكلة ما يكتب بوعلام صنصال وكمال داود، بل صار يميل إلى الانتصار لطروحات المدرسة الاستعمارية، وهو ما جعل روائيا مزدوج اللغة كبوجدرة ينتفض مؤخرا ضد هاته الزمرة، التي صارت تتكاثر وتتفرع طمعا في العالمية التي لا تضمنها مع الأسف اللغة العربية المحاصرة بين ظهراني أهلها وأدعياء نصرتها ومناصرتها.
والحديث عن الغياب شبه الفاضح عن جدل الهوية ومأزق استقلال الذات الذي أدرج ضمن سياق التعريب، باعتبار اللغة العربية كانت مرجعا للذات الوطنية قبل تفجر أسئلة القلق الوجودي الوطني، من خلال مدرسة وأكاديميات الاستعمار، التي واكبت وتلت فترة تواجده على أرض الجزائر، يقودنا إلى محاولة رصد إشكالية التعريب ومعاركه الأيديولوجية، السياسية والقانونية في الجزائر، فنشير هنا إلى افتراءات بعض المهتمين بهاته القضــية من أنصار لغة موليير والمستريبين من التيارات الإسلامية والدينية، حين يضعون حركة التعريب في غير سياقها المشروعي الصحيح، بالقول إنه إذا كان هناك سعي للتعريب، فمعنى ذلك أن المجتمع الجزائري لم يكن عربيا ولا معربا! في خلط مقصود ومتقصد لمفهوم يجتاز المستوى الوظيفي للتعبير اللغوي، ليصل إلى أسمى نطاقات الاستعمال الحي للغة الحية في مؤسسات التنشئة وقيادة المجتمع.
لكن ما أعاق مسار التمكين للعربية في الجزائر لم يكن فقط المؤامرات والتواطؤات الحاصلة اليوم من قبل أذناب فرنسا وحسب، بل السياق الشعبوي المبتذل الذي حمله المشروع بحد ذاته، التعريب كان في مواثيق وتوصيات الدولة ينمو سواد حبره على بياض الورق، بيد أنه عمليا يتعثر، بل ويُفرض بشكل عشوائي حتى يعطي الانطباع بأن اللغة العربية أعجز من أن تبني الإنسان الجزائري العصري والمعاصر، الذي يكون بوسعه حمل مشروع بناء الدولة الجزائرية المستقلة، لأن جل قادة هاته الدولة كانوا ممن يناصبون لغة الضاد كامل ودائم العداء، ويتواصلون في ما بينهم بغيرها، أي الفرنسية، في اجتماعاتهم، وحتى في أنسهم في المقاهي والملاهي!
ومع التحول في الوعي الوطني وانفلاق كتلة معنى الوجود الأحادي للذات الوطنية الذي جسدته إرادة دولة الحرب، التي دامت لثلاثة عقود بعد الاستقلال، صار التعريب يُمثل في عين الآخر رديفا للأسلمة. طروحات نادت بها تيارات اليسار والعلمانية البربرية، التي تكونت لغويا وفق المشروع التعريبي العشوائي، وعبرت عن عدائها ولا تزال باللغة العربية ذاتها، من خلال المستويات والطروحات الكبرى في جل فضاءات المعرفة والأدب، في وقت ظل الخطاب المقابل، أي الديني والإسلامي عموما تراثيا مستريبا من كل ما هو جديد متعال باللغة القديمة التي تعيد إنتاج الماضي ولا تبرحه حيث الآفاق المتجددة بنسق متسارع متصارع.
كل ذلك يجعلنا ندرك أن الحضور الواسع والكبير للكتاب الديني (التراثي) وهيمنته على وعاء المقروئية العربية، كان سبب هذه الإعاقة المعرفية التي طالت هاته اللغة، لأنه حرمها من أن تقتحم عوالم أوسع في خطابات المجتمع الأدبية والثقافية والسياسية، بالشكل الذي يمكنها من الصمود أمام موج الافتراء والنكران والتنكر، الذي تفتريه أقلام أزلام الاستدمار وأصواتها الصائحة في الفضائيات الباردة من خلف البحار.
لكن ما سبب الانحباس، حتى لا نقول الانحسار المطرد، الذي عرفته المقروئية العربية بضرب الصفح عن هيمنة الكتاب الديني (التراثي) على سوق الكتب؟ هل هذا ينفي وجود نخبة معربة بخيلة حتى لا نقول عديمة الإنتاج الأدبي والفكري، الذي يسترعي اهتمام المتلقي؟ أم أن التعريب العشوائي قتل أصلا نشاط المقروئية واستحال بسببه المجتمع إلى هذا الوضع من التردي في الوعي على كل المستويات؟
الحقيقة هي أن لكل من هاته العناصر أثره في تغييب العربية عن سجال الهوية أدبا وفكرا، في مقابل الجرأة والاندفاعية الكاسحة لكل صمت أو تابو من قبل المعبرين باللغة الفرنسية، فالمدرسة وكل مؤسسات التنشئة التي حمّلت اللغة العربية أوزار فشل مشروع عشوائي لبناء مجتمع متحرر تاريخا عن فرنسا، مثلما حرر جغرافيته منها، ظهرت أعجز من أن تصنع الإنسان القارئ المستهلك للمعنى كما يستهلك المادة، وطالما أن استهلاك المادة فاق نظيره المعنوي الذي تماهى في اللغة، فإن كل رمزيات المادة ومصدرها الغربي الفرنسي، فقد استحالت لغة المدرسة أسيرة فضائها المكاني، أي النطاق المدرسي بالمعنى الوظيفي، حتى لو تحدث بها الإعلام أو وظفت في المنتج الأدبي بوصفها إكراها تاريخيا وليس اندراجا تعبيريا فيه.
ما همش العربية في نطاقات السجالات الكبرى المرتبطة بتطور الوعي والتنشئة المجتمعية، هو غياب الديني عن هاته النطاقات، باعتبار أنه المعرب الأقوى والأوسع باللغة العربية، بيد أنه، وكما أشرنا، منته في حدود تراثيات الإنتاج الثقافي مستميت في إعادة إنتاج السرديات القديمة، وحريص على آلية التأصيل وفق خطابها واقعا مختلفا ومتجددا عن واقع ولحظة انبلاج تلكم السرديات، الديني مستريب من الأدب، فهو متجاهل متحامل على كل ما يُبدع في وعاء اللغة، ويرى ذلك رجسا من عمل الشيطان ما لم ينتصر لإيحاءات السرديات القديمة الكبرى الأخلاقية! لذلك فهو غير معني بعوالم التعبير الفني عن فلسفة التحول في التاريخ الوطني من جدل في سؤال الذات إلى آخر، بل هو لا يرى التعريب كشرطية لإعادة إنتاج مرجعيته الذاتية، كونه لا يؤمن بشرطيات التاريخ، إنما يراه حكما فقهيا أي دينيا خالصا، فلا نكاد نرى لنخبه المتكلمة والكاتبة على حد سواء، رؤى وجهودا تتناول مسألة التعدد اللغوي والتحقيب التأريخي للجزائر ككيان ولغة ودين، فكل ما سبق الفتوحات غير معني بدائرة ضوئه في بعد تام وشامل عن بُنى ومعنى القطرية.
إذن هي متاهة يضيع فيها الوعي الوطني بين سابح في موج الريح منفصل لغة وفكرا عن كل محطات التخلق الوطني ومستعصم، مستعقم في قواقع الماضي، حيث الأشياء الصامتة تربض قرونا عددا على لسانه وعقله فلا يعدوها، كل ذلك صنعته لحظة الفشل المدوية لمشروع الدولة والمجتمع الذي أنيطت به المدرسة الجزائرية، من يوم حُملت مشروع تعريب (عشوائي) أريد به الإساءة للعربية أكثر منه الإساءة للمدرسة التي شرعت ترتكس مرة أخرى في سياق تخبطاتها مع وزيرة تنظر غربا هاته المرة ماضية بمشروعها بأبناء المجتمع هاته المرة إلى التغريب (العشوائي).
٭ كاتب جزائري
بشير عمري