لطالما كانت علاقة الرواية العربية بالتراث علاقة متينة وجدلية، إذ أنّ توظيف التراث كان من أهمّ الإشكاليات التي واجهت الرواية العربية الحديثة، فحاولت أن تعقد مصالحة مع السرد الحكائي القديم، حيث كان غنيا بفضاءاته السردية. ومرت الرواية في علاقتها بالتراث بمراحل متعددة، من التقليد الباهت، الذي تجلّى في استثمار اللغة القائمة على السجع وتوظيف المحسنات البديعية إلى وعي جديد بالتراث، حيث عمد الروائيون إلى تأصيل الرواية بطرق جديدة وجمعوا بين التراث والتجريب، ونجحوا بذلك في تقديم رواية عربية الملامح، أحدثت تطورات على صعيد اللغة والأسلوب والتقنيات، واستفادت بمختلف إنجازات التجريب وتفاعلت مع الواقع وقدّمت نظرة نقدية للواقع الاجتماعي والسياسي من خلال هذا التوظيف الإيجابي له، وهذا ما يؤكده الناقد المغربي سعيد يقطين، إذ يقول «الرواية أكثر قدرة من الخطابات العربية الأخرى إبداعية وفكرية في التفاعل مع النص التراثي»، وفي هذا الإطار يمكن قراءة رواية «عشيق المترجم» للكاتب السوري الكردي جان دوست، وهو بالإضافة لصفة الروائي، شاعر ومترجم وهذه روايته الأولى باللغة العربية، حيث كتب أربع روايات سابقة باللغة الكردية منها «ميرنامة» التي ترجمت في ما بعد للعربية».
في «عشيق المترجم» يعيد جان دوست تشكيل الواقع العنيف والقائم على الحروب والإرهاب باسم الدين، حيث يرجع إلى فضاءات وأزمنة ماضوية الإمبراطورية العثمانية في أواسط القرن الثامن عشر، في فترة من فتراتها غنية بالتسامح والتعايش السلمي بين الأديان، من خلال قصّة مترجم يملي سيرته الذاتية على خادمه يونس ابن إيبش الألباني، التي تضمنت بعض وقائع من حياته وحياة شخصيات أخرى، واصفا فيها استعداداته وعائلته لرحلته إلى إيطاليا لتعلم اللغة الإيطالية واللاتينية، امتثالا لرغبة والده في أن يصبح مترجما. وهي رواية في 206 صفحات عن دار ورق للنشر منقسمة إلى سبعة فصول وستة عشر عنوانا، قدّمها جان دوست بطريقة سردية طريفة وبلغة شاعرية يغلب عليها النفس الصّوف.
توظـيف السرد الحكائي القـديم :
تطفح رواية «عشيق المترجم» بالحكايات، تطل عليك من كل حدب وصوب، ومن كل زوايا الرواية وأطرافها، فليس الترجمان الشخصية الوحيدة التي تملي سيرتها الذاتية على خادمها، إنما الليل يهمس للقرية، واللهب يتكلم للنار الفصيحة، والنار تثرثر لألسنة اللهب والسفن تملى حكاياتها على الموانئ والسماء تفشي بأسرارها للغيوم. الكلّ يملي حكاياته وقصصه في الرواية، وهذا ما يضفي جوّا من العجائبية والفانتازية التي كانت تمتاز بها أجواء ألف ليلة وليلة، هذا المنهل الذي انتهل منه جان دوست بغزارة في «عشيق المترجم». وإن كانت حكايات الليالي شفوية فإنّ جان دوست تجاوز ذلك هنا، وجمع بين الشفوي والمدون، إذ تقوم الرواية أساسا على التدوين، يقول الترجمان: «الحكايات طرائد يا يونس طرائد فخاخها القراطيس»، ثمّ كمّا شكل الله الكون في سبعة أيام، يعيد جان دوست في «عشيق المترجم» تشكيل عالمه الذي يتمناه في سبعة فصول وسبع ليال، أكمل فيها الترجمان الجزء الأول من سيرته الذاتية، بالإضافة لرمزية رقم سبعة في الليالي فإنّ معظم الاملاءات كان يقوم بها الترجمان في الليل، وهي سمة الليالي مع شهرزاد وشهريار، يقول في الرواية على لسان يونس «أمرك يا مولاي فالليل وسادة الحكايات كما تقول لي دائما». وبنيت رواية «عشيق المترجم» كما «ألف ليلة وليلة» من خلال حكاية إطار، وهي سيرة الترجمان إلاّ أنها احتوت على حكايات مضمنة: كحكاية بوزان الحوذي الكردي، الراهب الماروني وحكاية سراج، وغيرها وكذلك تضمنت حكايات رفاق الترجمان الذين رافقوه في رحلته إلى إيطاليا: شمعون النصيبيني، جرجس عبد المسيح وسابا السجال.
وقد اعتمد جان دوست، كما الليالي على الخيال وقصص الحب والعجيب، فامتزجت الرواية بحكايات تثير الدهشة والتشويق «كان خيال الترجمان العجوز لا يزال يطفح بالحكاية»، وقد اعتمد دوست أيضا على تقنية التقطيع السردي التي اشتهرت بها الليالي، إذ يتوقف العجوز المترجم عن الإملاء في أوقات معينة ليترك السارد عنانه للوصف، وقد تركز هنا على وصف المكان، خاصة الطبيعة التي اتسمت في تلك الفترة باكتساح الثلوج في تلك القرية الصغيرة حيث «يسرد البياض عن البياض». وكما يقول عبد الفتاح كيليطو إنّ الليالي تفترض مستمعا أي باثا ومتقبلا، فان جان دوست هو كذلك ينقل روايته لمتلق وهو القارئ، فكان يراوغه بعدم إكمال بعض الحكايات كما كانت تفعل شهرزاد، وذلك لإضفاء التشويق يقول بوزان الكردي للترجمان «الحكايات لا تنتهي أيها الفتى سأقصّ عليك ما جرى …وكيف شفيت من جنوني بعد ان تؤوب من سفرك إن شاء الله». وقد كثرت هذه الحكايات المؤجلة في الرواية: حكاية الحوذي بوزان حكاية الراهب الماروني حكاية أحد الرفاق، والكثير من الحكايات توقف عن املائها المترجم بإرادة من الكاتب.
ووجود هذا المتلقي المستمع في الليالي جعلها مليئة بالحكم والدروس، كذلك نجد في «عشيق المترجم» هذه الحكم والدروس، خاصة لخدمة الموضوع الأساسي، وهو إنارة بعض المفاهيم الخاصة بالدين والإيمان والعلاقة بينهما، والمفاهيم التي قامت عليها كل الديانات وهي التسامح ونبذ العنف، لذلك نجد أن جان دوست يعود للحكاية المثلية بالإضافة لليالي .
الحكاية المثلية:
من أبرز وظائف الحكاية المثلية هو الترميز والنزعة التعليمية، وقد جاءت الحكايات المثلية على لسان الراهب الماروني، الذي يوجه خطابه إلى فتيان اللغة، أقصد الترجمان وأصدقاءه الذين رافقوه في الرحلة إلى إيطاليا، ومن ورائهم يبعث الكاتب برسالته إلى شباب اليوم، وكان في خطابه هذا النفس التعليمي يقول «ولو أوغلت فيه لوجدته كفرا محضا مثله كمثل حبّة الجوز أعجبها بهاء قشرتها …..». كما أنه اعتمد على الحكاية المثلية على لسان الحيوان وأجواء ابن المقفع إذ يقول «زعموا أنّه يعيش في إحدى الآبار القديمة ضفدع هرم يقضى نهاره بالسباحة….».
ولا يفوت جان دوست في أن يعود بنا في روايته إلى أجواء الصحراء والشعر الجاهلي من خلال قصص الحب والعشق التي عرفت بها تلك الفترة، حيث جن بعض الشعراء حبا وشغفا، كمجنون ليلى مثلا، من خلال قصة الحوذي بوزان الذي تيم بمياسة، الفتاة العربية الجميلة وجن بحبها، رغم رفضها له يقول «صرت كالمجنون أدور حول نفسي وأصيح مياسة مياسة ….». ويقول أيضا «سألت الأثافي والطلول الدارسات».
كما أعطى جان دوست مكانا لأدب الرحلة، حيث أن هذه السيرة يملي فيها العجوز الترجمان بداية رحلته إلى إيطاليا، رحلة من أجل العلم وتبادل الخبرات بين الغرب والشرق، وشكلت الرحلة العنصر المركزي في مجرى الحكي يقول الراهب الماروني: ستعودون لتفيدوا ملتكم وتنقلوا إلى العربية ما في خزائن الإفرنج من كتب نفيسة «وهذا الذي جعل الكاتب يطعم روايته بأدب المآكل في بعض مكامن الرواية ولا ننسى تضمين بعض من آيات النص القرآني ومن الكتب المقدسة الأخرى.
هكذا استطاع جان دوست أن يجعل من روايته مرسى ترسي فيه جميع الأنواع السردية، بدون أن تحس بتصنع، وكانت هذه الأنواع تتعايش في ما بينها وخدمت الموضوع الأساسي وهو التسامح ونبذ العنف. لذلك كانت لغته متناغمة مع هذا التراث، وقد اختار فيها جان دوست الكلمات بعناية فائقة، فكانت انسيابية وشعرية إلى أقصى حد ربما كانت نوعا ما اعتراضا عن الواقع العنيف أولا، ثم لتتماشى ثانيا مع التوظيف الصوفي في الرواية الصوفية في الرواية: تقوم رواية «عشيق المترجم» أساسا على الحب وهو مفهوم صوفي بامتياز الحب بين العاشقين والحب بين البشر والحب بين الله وعباده، وهذا ما يلخصه جلال الدين الرومي، أحد رموز التصوف بقوله «أدين بدين الحب». وقد حضرت الفلسفة الصوفية في الرواية عن طريق اللفظ، أي الكلمة الصوفية بكامل ثقلها الدلالي وكثافتها الرمزية، الحب والعشق والكشف والرؤية. كما حضرت المفاهيم بحمولة دلالية جديدة تحتفظ بعمق الرؤية الصوفية وتنفتح على الدلالة المعاصرة يقول الترجمان، «كان يشبه من جهة كثرة أسفاره الدراويش والصوفية من الذين يزهدون في الدنيا.. إلا انه يختلف عنهم بحديثه الكثير وكلامه المستمر عن الحب»، بالإضافة إلى ذلك وجدت في الرواية الكثير من الرمزيات التي تشير إلى فلسفة التصوف في التوحد مع الله، وهي رمزية الفراشة التي تحترق بنار السراج «وأرهقتنا هاتان الفراشتان بالطواف حول السراج الوهاج»، أو رمزية المرآة . لكن هل منع هذا التوظيف التراثي جان دوست في إنتاج رواية حديثة؟
الرواية والتجـريب:
رغم أن مفهوم التجريب متحرك ومتطور كلّ آن إلاّ أننا نعتبر أن رواية «عشيق المترجم» رواية تجريبية بامتياز، باعتبار أنها اعتمدت على تقنيات الرواية الحديثة، فمن الصفحات الأولى يعلن جان دوست على لسان الترجمان، أنه سيكون مختلفا في تدوين سيرته الذاتية: سأكون مختلفا عن الكلّ فلا خير فيمن يتبع الأوائل حافرا على حافر بدون إعمال فكر وشحذ خيال «ولذلك فلن نجد الراوي نفسه الذي نجده في الأدب القديم، أولا أن هذا الترجمان يملي سيرته الذاتية وهذا جنس حديث وغير معروف في أدبنا العربي بالمفهوم الذي وضعه جينات أو جورج ماي، مما يجعل الرواية تعيش في فضاءات حديثة، ثم أن الرواية اشتملت على تعدد الأصوات وهو من أبرز تقنيات الرواية الحديثة فقد أعطى جان دوست لكل شخصية صوتا تعبر عن نفسها وعن حياتها. كما أن الترجمان في سرد قصة حياته اعتمد على السرد غير الخطّى فبدأ من الشيخوخة إلى الشباب أو المراهقة ثم الطفولة. واعتمد جان دوست على المراوغة ليس من خلال الحكايات المؤجلة فقط، وإنما منذ العنوان الذي كان عتبة ناجحة لأنها ملغزة وضبابية فمن هو عشيق المترجم يتساءل القارئ؟ ليكتشف في نهاية الرواية أن العنوان ليس مركبا إضافيا وإنما مركب بدلي، أي أن عشيق هو اسم الترجمان الذي عرف باسم عشيق المترجم، ثم أن اعتماد الكاتب على مفاهيم الصوفية يعتبر من أهم الركائز التي تعبر عن حداثة الرواية وهذا ما جعل من لغته رغم رمزيتها وشعريتها بعيدة عن الغموض والمحسنات البديعية، فكانت لغة تتماشى مع الرواية الحديثة ببساطتها وعمقها اللغوي وابتعد في هذه الرواية عن الاستطرادات يقول على لسان الترجمان «الاستطراد آفة المصنفين».
دلالات الروايـة
لم يرجع جان دوست إلى السرد الحكائي القديم وإلى التاريخ ألا ليتكلم على الحاضر، فهذه الرواية ليست إحياء للتاريخ إنّما هو «إحساس حاد بالزمن»، حسب عبارة الروائي جمال الغيطاني، ولم يكن إلا لخدمة الفكرة الأساسية التي ارتكزت عليها الرواية وهي إعادة مفهوم التسامح ونبذ العنف في معارضة للواقع المتردي الذي يعيشه عالمنا العربي الإسلامي، حيث انحدر انحدارا سلبيا في كل الميادين الاجتماعية والسياسية والثقافية، ولم يعد منتجا إلا للعنف والجهل والإرهاب، وقد أعاد جان دوست تشكيل هذا الواقع من خلال الوقائع التي عاشها الترجمان أو في حديث رفاقه فهو أولا ينبثق من عائلة مركبة من أب مسلم وأم مارونية وما ينتج عنه من تسامح، هذه الأم التي تذهب إلى الكنيسة كما إلى المقام لتتبارك بهما وللدعاء لابنها بالتوفيق «وصلنا بعد هنيهة قصيرة إلى المقام الغارق في جلال ورهبة تفرض الخشوع على الزائرين الذين تنوعت عقائدهم ومملهم ونحلهم، كما هي متنوعة غاياتهم ومقاصدهم «،هذا التسامح الذي كان موجودا تلخصه الأم عندما تقول لابنها «الله كبير يا ولدي ولا يسعه بيت واحد»، ثم من خلال قصته مع استر اليهودية التي أحبها حبا كبيرا فالحب لا يعترف بالأديان واختلافها». كانت قبلة لم تسأل عن دين أي واحد منا. ثم قيم التسامح الذي جاء في خطاب الراهب الماروني الذي تشك في انتمائه إلى الدين المسيحي لكثرة استشهاده بالقرآن، ومعرفته الكبيرة بالإسلام وقيمه السمحة، وجاء خطابه موجها لفتيان اللغة ومن خلالهم إلى شباب اليوم الذين لم يعد يعرف جوهر الدين، وإنما سيطر عليه الجهل والتطرف والإرهاب. هذا الشباب الذي يمتطى سفن الموت عوض العلم وقد تطرق في خطابه إلى أهمية الإيمان وعلاقته بالدين «إن الدين يختلف باختلاف معتنقيه، لكن الإيمان واحد..»، وركز على أهمية العقل فهو الموصل إلى الحق. وأضاف أن التطرف لا يؤدي إلا إلى الموت والاندثار «إن الدين ترياق لكنك لو زدت في مقاديره أو جهلت به أصبح سما». غير أن جان دوست وإن تحدث عن التسامح إلا انه يؤكد من خلال أحداث الرواية أنه غير كاف، فلابد مع التسامح من المساواة ليعم الحب والخير وذلك من خلال فشل قصص الحب في هذه الرواية قصة الترجمان مع استر اليهودية وقصة بوزان مع مياسة.
الخاتمة :
وهكذا أكد جان دوست أن الأدب يستعيد حيويته عندما يعود إلى الماضي عودة «لإنارة المستقبل للماضي»، كما يقول نيتشه، فلم تكن هذه الرواية إلا رواية الحاضر والمستقبل بامتياز هي رسالة إلى الشباب الذي زاغ عن المعنى الحقيقي للدين، فأنتج التطرف والموت كما غابت في الرواية الأبعاد الايديولوجية، فكانت رواية تنتصر للإنسان مهما كانت انتماءاته وعقائده ونجح في التفاعل مع التراث وأنتج رواية عربية الملامح وكما يقول الناقد سالم دمدوم «ليس النص الأدبي العربي الأصيل المؤثر هو ذلك الذي يقلد الأدب الغربي، بل هو على النقيض من ذلك النص الذي يقوم على تهجين شكل الرواية الأوروبي بالموروث العربي.
ناقدة تونسية
ابتسام القشوري