العرب خاضوا كل معارك العصر الراهن في حقبتيه الكولونيالية وما بعدها. كانوا في معظمها أشبه بالمهزومين ومع ذلك فازوا بأضعف ثمارها التي كان عليهم أن يجعلوها من أعلى انجازاتهم. ومنها ولا شك معارك الاستقلالات الوطنية المؤدية، رغم عيوبها الكثيرة، إلى جلاء الاحتلالات الأجنبية عن كامل الأرض العربية، ماعدا فلسطين. ومنها كذلك، وهي الأهم حتى اليوم، معارك الصراع مع الغزو الصهيوني المسماة بحروب التحرير العربية، هذه التي لم تنجح في كبح هذا الغزو، لم تتمكن من إعادة قذفه إلى البحر، لكنها أوقفت تمدده خارج حدود فلسطين الجغرافية إلا نحو بقع من ضواحي لبنان والشام.
لقد قدمت الأمة العربية جيلين أو ثلاثة من رجالها كمناضلين أو شهوداً مرافقين لوقائع حروب التحرير، فهذه كانت طلائعهم يحركها سياسياً دافع واحد يتلخص في تحييّد القوى الأجنبية عن التدخل المباشر في الشأن الوطني الذاتي، بمعنى أن قصة الصراع العربي كانت مستقطبة ضد ما تعتبره عدواً خارجياً. وإذا كان هذا الصراع قد تلخص في مرحلة ما بعد نشوء الدول العربية المستقلة فيما دعي في اللغة السياسية المعاصرة بالاستعمار والصهيونية، فقد تناسى قادته، وفي مختلف مواقعه ومراحله، النصف الثاني من الكأس (النضالية) أي ذلك الصراع الآخر الموصوف بالداخلي. فالعرب كانوا دائماً منشغلين بأعداء الخارج. وإذا ما التفتوا نحو الداخل فلم يكونوا يرون فيما يسمونهم بأعداء الداخل إلا امتداداً لسطوة الأغراب. حتى يمكن القول أن حروب العرب كانت في مجملها حروبَ دولٍ، ولم تكن حروبَ شعوبٍ.
من هنا كانت الفعالية العامة للدولة محتكرة بأيدي الفئات العسكرية وحدها. الأمر الذي جعل السياسة توصف بأنها نشاطات عليا مقتصرة على الأنظمة الحاكمة. وما كان للأحزاب أن تمارس أدوارها إلا وهي ملحقة بالحكومات القائمة. فما كان للمعارضة ثمة فعالية مؤسسية قائمة بذاتها ما جعلها مولدة للانقلابات العسكرية التي سوف تستقطبها كلياً.
هكذا لم يتم لمشروع الاستقلال الوطني إنتاج نوع الحياة المدنية لمجتمعاته. فبقيت تلك الأقطار الصغيرة محدودة الإمكانيات الأساسية لنشأة الدولة العصرية لشعب ناهض ومؤسساتها الحداثية.
فالعسكرة لم تصادر الدولة لحسابها فحسب بل فرضت على تطور المجتمع حراكاً رأسياً بديلاً عن النموّ العضوي التكاملي على خطوط التقدم المستديم بقواه الخاصة. فقد تم حصار التنمية المدنية ضمن قالب هرمي مغلق، بحيث شدّ الجميع، كفئات وأفراد، إلى منطق حراك لولبي، صاعد هابط، أسيرٍ لذات الحركة والوجهة، وتكاد تغذيه اندفاعة القوة المفروضة عينها سواء نحو الذروة إلى حين، ومن ثمَّ بعدَها إلى الهاوية المظلمة إياها.
ما كان يتطلع إليه الوطنيون الأوائل من مكافحة الإستعمار الإحتلالي لبلدهم هو أن يفارقوا صيغة (رجال الاستقلال) الملاصقة لهم إلى صيغة رواّد النهضة أو الطلائع النهضويين. لكن صُدَف التاريخ أو شياطينه الخفية استطاعت أن تحفر الحفرة المظلمة في كل مرة ما ينشق فيها ثمة درب ما بين الاستقلال والنهضة. فبعد كل سقطة يتقهقر الاستقلال دون برجه العالي قليلاً أو كثيراً، ليصبح مجرد زخرف لامع على رؤوس أعدائه الأصليين، فحسب.
ما يُصطلح عليه بحقبة النهضة الثانية الموصوفة بولادة أنظمة دول الاستقلال، هذه الحقبة لم تشهد قيام دول بقدر ما بَنَتْ معسكراتٍ، لم تخرّج رجالاً نهضويين بل أصنافاً ممن سَموّا أنفسَهم بالمناضلين أو الطليعيين، وإلى جانبهم تحشيدات الجنود المرتزقة والمتطوعين. هذه الحقبة التي لم تعمر إلا حوالي نصف قرن ادّعت أنها تحمّلت أعباء إعادة (الأمة العربية) إلى خارطة العالم المعاصر.
تلك كانت، ربما، فضيلَتها الكبرى. لكنها كادت أن تفرض على مواطنيها الأعضاء الانحصارَ ضمن خارطتهم الجيوسياسية القائمة كما لو كانت هذه الخارطة تعادل المآل الأخير لتاريخ وجودهم الإنساني والحضاري معاً.
سوف يقال عن هوية الحقبة أنها لم تكن تُعنى إلا بتغذية نوع الحروب الصغيرة ما بين حدودها القطرية المضطربة من جهة وضداً على سياسة إسرائيل الكبرى داخل إقليم المشرق خاصة، من جهة أخرى. لم تكن حقبة نهضوية حقاً، رغم موقعها التاريخي التأسيسي لعالم عربي معاصر جديد.
إذ كانت زراعة إسرائيل في أحد جذور المنطقة أشبه باصطناع مزرعة الأشواك المسمومة حول كل حديقة زهور يانعة يمكن أن تنبثق في صحارى المنطقة. كانت حقبة حروب استهلاكية شاملة للبشر والحجر، يمتنع فيها النصر لأصحاب الحق دائماً، وتتوقف في الوقت عينه كل أسباب الفوز والمناعة للغزاة الطارئين وحدهم.
هل نقول إن دول المشرق قد شُغلت منذ نشأتها الأولى، بإحباط مشروع إسرائيل الكبرى، أي بوقف تمدد الغزو جغرافياً وليس باجتثاثه وجودياً من أصوله.. غير أن هذه الحقيقة لم تلبث أن أصابها الانحراف الأدهى في قصة هذه المرحلة.
فالغزو الأجنبي تحول سريعاً إلى أشكال وأهوال من غزو الداخل الموجّه إلى ذاته. حدث الفارق العظيم للدولة المشرقية الرئيسية من كونها الأداة الموضوعية لمقاومة مخططات الغزو، والصراع المادي المباشر ضدها، إلى كونها أداة تسلط واستحواذ على موارد شعبها، واستثمار لا محدود في قوى إنسانها المقهور.
فحين يقال إن الجهادية التالية هي الرديف الأخير للغزوة الصهيونية المستديمة، ينبغي ألا يعتبر ذلك التوصيف من أصداء المبالغات السياسوية. فليست العلاقة بينهما هي علاقة صانع بمصنوع، لا يجمع بينهما كونهما من طبيعة الغزو الشمولي هما معاً، وهادفين إلى خلاص كل منهما من كيانه الدولتي والمجتمعي معاً، رغم ما توحي به الظواهر السريعة للحدث التاريخي الثقافي الذي يلف حقبة النهضة الراهنة. ذلك أن التعارض بينهما تأسسيٌّ وليس صدفوياً أو عبثياً فقط.
لا يكفي أن يكون التفارق بينهما جِهوياً، ما بين الداخل والخارج. إذ أن الغزو الجهادي لن تكتمل حلقاته قريباً، بينما يمكن للغزو الصهيوني أن يتابع فَرْضه لأجندته التقليدية بإثارة كل الكيانات القطرية القديمة، وتفريعاتها الحديثة ضد خرائطها السلطوية المتعارضة فيما بينها منذ الأمس وحتى بعد كل غدٍ ممكن. وأما الغزو الجهادي فهو لن يقتصر على إعادة إنتاجه لعدته الدهرية من فتن المِلل والنِحل المتناسلة من بعضها، لكنه سيجعل من ذاته الحارسَ الأمين المحافظ على قاعدة الانحطاط الذهبية، وهي حرمان كل نهضة عربية سابقة أو لاحقة من إنتاج لحظة تنويرها، حتى لا يعرف أيُّ جيل سابق أو آتٍ لماذا هو مرصود فقط للانحطاط ومن ثم للانهيار. لماذا عصرُه لا يملك إلا شعاراً واحداً هو فشل التنوير.
٭ مفكر عربي مقيم في باريس
مطاع صفدي