عقيدة أوباما… وعقدته

أثارت تصريحات الرئيس أوباما، التي نقلت من خلال الصحافي جيفري غولدبرغ في مجلة «أتلانتك» ردود فعل واسعة في الصحافة العربية. البعض من المعلقين والمحللين اعتبروها تصريحات انقلابية تستدعي القلق، وبدأوا يحاولون في المقابل نقض وتفكيك مقولات أوباما، وكأنه سيخصص أياماً من وقته لقراءة التعليقات التي امتلأت بالعتاب واللوم ومشاعر الصدمة من الكتاب العرب. وحتى لو كان الرئيس سيغادر المكتب البيضاوي مع نهاية العام، فإنه بالتأكيد سيواجه جدولاً مزدحماً يحول دون تخصيصه ما يكفي من الوقت للقراءة والتمعن في نظريات العلاقات الدولية والجيوبولوتيك، التي أسرفت الصحافة العربية في توظيفها وتقييفها على المقام الراهن.
أوباما سيبقى صاحب تجربة مسموعة، وسيحل ضيفاً على العديد من المنظمات والجامعات ومراكز الأبحاث، وربما يجد من يتبنون وجهة نظره في الإدارات الأمريكية المقبلة. لا يتحدث أوباما عن توجه ينوي تطبيقه، ولكنه يقيم ذاتياً خطوات اتخذها فعلاً، ولذلك لا تتناسب صيغة الصدمة أو المفاجأة أو استشعار الخيانة، التي صبغت ردود الفعل العربية للتعاطي مع تصريحاته، وأوباما يقوم بتسويق توجهاته للإدارة الأمريكية المقبلة، على أساس ربط ضمني بين نجاحه على المستوى المحلي وسياسته الخارجية التي أبدت قدراً كبيراً من الحساسية تجاه الخسائر، وبدت للمعتادين على نمط سياسي أمريكي يقوم على الهيمنة والنفس الإمبراطوري، مترددة ومرتبكة ومتهيبة، وهذه كلمات جديدة على قاموس السياسة الخارجية الأمريكية، وفوق ذلك الثقافة الأمريكية بشكل عام.
أوباما يقدم نفسه بوصفه رجلاً يمتلك خبرة واسعة بأنحاء أخرى من العالم غير الولايات المتحدة، وهذه الخبرة تأتت من المعايشة والاختلاط، ولم تكن نتاجاً لتجربة عسكرية مثل رؤساء سابقين، وربما يعتبر ذلك مصدر استعلائه على مستشاريه، الذين يشكلون نتاجاً لثقافة شعبية تؤمن بالتفوق الأمريكي والجانب الرسولي في الشخصية الأمريكية، وضمن هذا السياق يمكن تفهم الشعور الذي يصدره أوباما لفريقه والعاملين معه، خاصة من المختصين في الشؤون الخارجية، فعلى صفحات «أتلانتك» أيضاً يكتب نيل فيرغسون عما سمعه من بعض رجال البيت الأبيض حول سلوك أوباما، الذي يعتقد نفسه أذكى شخص موجود بالغرفة، أي غرفة، ويضيف فيرغسون بأن أوباما – بعد ما نقله غولدبرغ – يبدو أنه يعتقد نفسه أذكى شخص في العالم بأسره، وربما في التاريخ أيضاً. لكن هل يبدو أوباما بالفعل خارجاً عن المألوف الأمريكي لهذه الدرجة، وهل تمثل عقيدته الجديدة تخلياً عن مبادئ ترومان وأيزنهاور؟
أولاً، يجب أن تصارح الدول العربية نفسها بأنها لم تعد على الأهمية ذاتها التي كانت تشكلها قبل نصف قرن من الزمن، وأن الأمريكيين يرون، ومعهم غيرهم أيضاً، هذه الدول قابلة للدوران في أفلاك إقليمية بالوكالة لمصلحتها مثل إسرائيل وتركيا، وأخيراً إيران. النفط لم يعد يمكنه أن يدفع الأمريكيين أو غيرهم للزاوية، والبدائل متاحة، ربما ليست كثيرة أو وفيرة، ولكنها كافية للدرجة التي تجعل النفط يحرق أصابع العرب قبل الآخرين في أي منازلة على أساس التحكم في تدفقات النفط واستقرار أسعاره.
ثانياً، توجد مدرسة أمريكية كاملة ترى أن المنطقة الحيوية في المستقبل هي آسيا الوسطى، وبمفهوم أوسع أوراسيا، ولذلك لم يكن مستغرباً أن يرأس مستشار الأمن القومي الأمريكي الشهير بريجنسكي «لجنة سلام الشيشان»، وأن يسعى لإقناع حكومة بوش بالتدخل العسكري في الشيشان. وبريجنسكي نفسه، كان منظراً للتقارب مع إيران، وأحد الدافعين بقوة لتحقيقه، وبالتالي، فما يقدمه أوباما ليس بدعة، ولكنه انحياز لآراء بعض المتقاعدين الذين يمتلكون رفاهية النظر للمصالح الأمريكية خارج الصندوق التقليدي وحزمة الحلول الجاهزة ومنها الحلفاء القائمون.
ثالثاً، الصين هي العدو المقبل للولايات المتحدة، وتهديد الصين يحتاج إلى تمركز مختلف عما طبقته أمريكا في الحرب الباردة، حيث كانت رقعة الصراع ممتدة لتشمل أي نظام يفكر في الانضمام للمنظومة الشيوعية، سواء كان في أمريكا اللاتينية أو افريقيا جنوب الصحراء، الصين حالة مختلفة، وتطويقها يكون على الأرض المتاخمة وفي الحدائق الخلفية لنفوذها، وبذلك تكون ايران موقعاً متقدماً للمواجهة المحتملة مع الصين. فالصين تمتلك تطلعاً لتأمين تنافسها مع الهند في المستقبل، وباكستان تعتبر منصة أساسية في الاستراتيجية الصينية، وعلى الرغم من العلاقات المتميزة بين باكستان ودول الخليج والولايات المتحدة، إلا أن الاقتصاد الباكستاني مرتبط عضوياً بالصين، والأمن الباكستاني من منظور استراتيجي يعول على الصين أكثر من أي طرف آخر. ما يقدمه أوباما لا يشكل تهديداً، ولكنه جملة من التحديات التي يجب أن ننظر إلى أنها تحمل في داخلها فرصاً متعددة وغير مسبوقة، طبعاً إذا لم يصطبغ الأداء العربي في جوانبه السياسية والاقتصادية بإحساس الفجيعة، فالعلاقة مع الأمريكيين ليست زواجاً كاثوليكياً، والفحولة السياسية الأمريكية تراجعت لدرجة مشابهة لما كانت تمثله بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وعلاقة العلة والمعلول التي ربطت معظم الأنظمة العربية مع الأمريكيين كانت وهمية وقائمة على اجتهادات مغلوطة، ففي النهاية كان التدخل الأمريكي في الربيع العربي انشائياً بدرجة واضحة، وأوروبا التي استشعرت بأن مصالحها مهددة بادرت لتضرب ليبيا ولتتبع أمريكا في تحالفها ضد القذافي، ويمكن لأوروبا أن تعيد التجربة في أماكن ومواقع أخرى، والحرب على «داعش» شهدت منعطفها الرئيسي بعد ضربة باريس، التي تبدو في المرحلة الماضية أكثر إيجابية وقدرة على الاستجابة من الأمريكيين.
التقدم الروسي بدوره كان انعكاساً للفراغ الذي أحدثته السياسة الأمريكية، وربما يحاول أوباما في مقابلته، أن يقدم تبريرات للسياسة الأمريكية الجديدة، التي تترجم احباطاً أمريكياً من تجارب فاشلة في التدخل الخارجي أكثر مما تعكس تعففاً عن التدخل في سوريا، كل ما في الأمر أن الأمريكيين يبحثون في هذه المرحلة عن انتصارات سريعة، ويريدون تكرار نموذج بنما، حين حطت طائراتهم لتلقي القبض على الديكتاتور مانويل نورييغا في عملية شبه سينمائية. لا يبدو أن الإدارة المقبلة تريد أن تستمع لأوباما أو أن تكرر تجربته، في الحالتين تتصف شخصيتي – ترامب وكلينتون – بوصفهما المرشحين القريبين من البيت الأبيض بكثير من الجرأة، قياساً بأوباما الذي يبدو أن أطياف موقعه التاريخي تؤرقه، وتجعله يلجأ للتبرير في تفسير سياسته الخارجية، فأوباما يريد أن يكون رئيساً تاريخياً، والأمر لا يتعلق كثيراً باعتقاده الشخصي بأنه الأذكى أو الأكثر خبرة، فكل ما في الأمر أن الرئيس يتجنب أن يخرج بوصمة فشل كبيرة تجعل التاريخ يتذكره من خلالها، أكثر مما يستحضر مكانته التي حققها بوصفه أول رئيس أسود للولايات المتحدة، أو بوصفه الرئيس الذي تمكن من تحقيق مكاسب كبيرة للفئات الفقــــيرة والمضطهدة، ويبدو أن ترامب يستفيد اليوم من تردد أوباما ومنهجه الضبابي في الإدارة الخارجية وتعمده لعدم الوقوع في أخطاء جديدة أو مغامرات تصبغ فترتيه الرئاسيتين، وتستفيد السيدة كلينتون أيضاً من هذه الأرصدة التي يوفرها أوباما بين الناخبين الأمريكيين الذين يبحثون عن مكتسبات اقتصادية واجتماعية، ولكن تبدو كلينتون إلى حد بعيد متحررة من المخاوف الخاصة بأوباما، ومستعدة بصورة أكبر للاستجابة للتحديات الخارجية، وربما من موقع عقدة نفسية أخرى كالتي تحرك أوباما إلى حد ما، عقدة المرأة الحديدية.

٭ كاتب أردني

سامح المحاريق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية