القاهرة ــ «القدس العربي»: عقدت منذ أيام ندوة لعلاء الأسواني بعنوان «المثقف والسلطة في مصر» في دار ميريت في وسط المدينة. ومع بداية توافد الحضور جاء بعض رجال الأمن يتطلعون في الوجوه، ثم استقر اثنان منهما في النهاية خارج القاعة، أمين شرطة ومخبر، ليقوم أحدهما بتسجيل كلمات الأسواني ومناقشات الحضور كتابة! هذا الجو البوليسي غير المعهود أو في شكله المباشر يعد خطوة جديدة من طريق السلطة لإرهاب مَن يُعارضها، أو يحاول انتقادها.
من ناحية أخرى علق محمد هاشم صاحب دار ميريت بأن ما يحدث لن يجدي في منع المعارضين للنظام السياسي القائم، بل سيثيرهم للوقوف أكثر في مواجهة هذا النظام. وسنحاول في اختصار عرض أهم النقاط التي أثارها الأسواني عند حديثه عن المثقف العربي، والمصري بالأخص، ودوره في الردة الاجتماعية والسياسية التي نحياها الآن.
الدولة والحكومة
بدأ الأسواني بتعريف كلمة المثقف بأنها مشتقة من ثقّف، وهو فعل يُستعمل للرمح، وهو بمعنى إقامة عوج الرمح حتى يصيب الهدف. وهو ما يتنافى والاستعمال الاصطلاحي للمثقف المصري، أو أغلبية المُتفق وتسميتهم بالمثقفين من الكتاب والصحافيين. ويتضح الأمر في التفرقة بين السلطة الديمقراطية والديكتاتورية، حيث انفصال فكرة الحكومة عن الدولة في الحالة الأولى، فالدولة كيان معنوي أعلى من الإدارة، ومن هنا يصبح متاحاً انتقاد رئيس الجمهورية بصفته موظفا لا أكثر ولا أقل. على النقيض من الدول الديكتاتورية التي لا تنفصل فيها الحكومة عن الدولة ورئيسها، مسألة شخصنة الدولة في صورة الرئيس، وهنا يصبح انتقاد الرئيس بمثابة إهانة للدولة نفسها، وهو المُتبع في الأنظمة الاستبدادية، وبالتالي تأتي سلسلة الاتهامات، وعلى رأسها خيانة الدولة.
المثقف ودوره في العالم
للمثقف دوره كمواطن بداية، ودوره كصوت مسموع، لكونه حظي بتعليم أفضل، ففي الدول الديمقراطية تزداد المسؤولية بزيادة الوعي والتعليم. واستشهد الأسواني بمايكل مور ودوره من خلال أعماله ومواقفه السياسية، وانتقاده لشخص جورج بوش الابن. كذلك برنارد شو وانتقاده الحكومة البريطانية في حادث دنشواي، وألبير كامو وموقفه من الاحتلال الفرنسي للجزائر. فالأمثلة كثيرة ولا تحصى. الأمر الأهم أن ما يفعله المثقف في الغرب لا يعد بطولة، فهو واجبه في الأساس. المسألة تكمن في مدى الدفاع عن القيم الإنسانية. أما المثقف في مصر فالأمر مُختلف.
مهازل الدولة وجوائزها
تطرق الأسواني إلى جوائز الدولة في مصر، وأن ما يميزها هو الأوامر العليا التي تأتي للجان المُشكّلة من المثقفين لإعطاء الجائزة لهذا أو ذاك، فهي في الأصل جوائز الحكومة.
واستشهد في ذلك بحادثة تمت في عهد فاروق حسني وزير الثقافة وقت مبارك المخلوع، فاللجنة كانت متحيرة بين اسمين من الكتاب، وكانت في انتظار قرار فاروق حسني لاعتماد الجائزة، وكان خارج البلاد، فأعطوها لأحدهم، فعلم الوزير ووبخهم على الاختيار، فما كان من اللجنة الموقرة إلا أن أعادت التصويت حتى تعتمد النتيجة حسب تعليمات الوزير. الوزير الذي تباهى يوماً بأنه نجح في إدخال المثقفين المصريين إلى حظيرة الدولة ــ المقصود هو النظام السياسي ــ فالأغلبية كانوا يتلقون الأموال من وزارة الثقافة، كل حسب طاقته ومكانته، بداية من مرتادي المقاهي الأدبية والعمل بعقود في هيئة قصور الثقافة، حتى الكتاب الكبار الذين يصبحون من مستشاري وزارة الثقافة، وأعضاء العديد من اللجان الوهمية، أو الحصول على منح التفرغ التي يتقاتل عليها الكثيرون. ومن هنا بدأ القطيع في مسيرة تنفيذ الأوامر، إلا أن هناك العديد على العكس من هؤلاء، كصنع الله إبراهيم وموقفه من جائزة الرواية ورفضها. اللافت أن بعض مدّعي الثقافة قاموا بتوقيع بيان تضامن مع موقف إبراهيم، لكنهم في الوقت نفسه ضمن قطيع الحظيرة، وجاءتهم التعليمات بالتهديد، فعادوا سريعاً لكتابة المقالات التي تنتقد موقف الرجل، واستماتوا في الهجوم عليه.
كوميديا لقاء الرئيس بالمثقفين
وعن لقاءات المثقفين بالرئيس ــ مبارك أول مَن استن هذا الكرنفال ــ يذكر الأسواني أنه يتم انتقاء الأسماء بعناية، كما كانت الأسئلة توزع عليهم قبل اللقاء. وذات مرّة سأل كاتب كبير الرئيس قائلاً: «المراقبون داخل مصر وخارجها يجمعون على أنك مطوّر مصر الحديثة بعد محمد علي، وهذا المجد الذي بلغته مصر في عهدك، هل يرجع لنبوغ سيادتك أو تربيتك العسكرية أو تفرد موقع مصر كدولة عظمى» فكان رد مبارك .. «تقدر تقول التلاتة مع بعض».
مثقفو الديكتاتور
يستغرب الأسواني من بعض من يصفون بالمثقفين من انبهارهم ببعض الحكام المستبدين، كصدام حسين والقذافي ومَن هم على شاكلتيهما. فبعد إصدار القذافي مؤلفه «الأرض الأرض، الواحة الواحة، وانتحار رجل الفضاء» اجتمع العديد من أساتذة النقد في مصر وأجروا حواراً في أتيليه القاهرة مع العقيد عبر «الفيديو كونفرانس»، يمتدحونه وعمله الإعجازي، حتى أن إحدى الكاتبات سألته ألا يترك الأدب العربي وحيداً، لأنه أعاد الأدب إلى استقامته، وناقدا كبيرا آخر سبّح بحمد موهبة العقيد، فتم تعيينه رئيساً لأبحاث الكتاب الأخضر. الكارثة جاءت واكتملت بمناسبة جائزة الرواية التي افتعلها القذافي ووفر لها مبلغاً ضخماً، وترأس اللجنة روائي ليبي مقيم في سويسرا ــ المقصود إبراهيم الكوني ــ وبعدما امتنع اثنان من الروائيين العالميين عن قبولها، بحجة أنها مقدمة من سفاح ــ الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو، الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي ــ لم تجد اللجنة إلا جابر عصفور الذي قبلها، رغم أن الجائزة للرواية. وبقيام الثورة وموت القذافي، قال عصفور إنه أعاد الجائزة ــ أعادها معنوياً ــ أما النقود فرفض إعادتها، واشترط بما أنها نقود الشعب الليبي، أنه لو أراد الشعب الليبي بأكمله استعادة النقود، فهو سيعيدها! وفي الوقت نفسه يقف عصفور ضد منع «ألف ليلة وليلة»، فهو موقف ملتبس، فكيف تدافع عن الحريات وتعمل وتتعامل مع نظام إجرامي واستبدادي؟
مأساة العقلية العربية
هذه الحالة من النفاق والتدني شغلت العديد من المستشرقين والباحثين الاجتماعيين. منهم من أرجع المشكلة إلى محمد علي، بداية من إرساله البعثات للخارج، وعودة المتعلمين وعملهم في ظِل الدولة، فالدولة اصطنعت فئة المثقفين منذ البداية، وبالتالي فهامش معارضة النظام الحاكم يكاد ينعدم.
رأي آخر يرى أن العقلية العربية الإسلامية أميل بطبيعتها لقبول الاستبداد. والتراث الإسلامي فيه الكثير من الأمثلة. ووفق مدارس الفقة أنه يجب إطاعة الحاكم المتغلب، الذي يستولي على السلطة، وبالتالي وجود حاكم مستبد شيء عادي في الحياة العربية. فالعقلية العـربية لا تحاسب الحاكم على طريقة توليه السلطة، بل على أداء الحاكم داخل هذه الـسلطة. والسؤال الذي طرحه الأسـواني هـو.. هل نحن ضد فكرة الديكتاتور في الأسـاس أم ضـده إذا ما ساءت عواقبه؟