في السابع عشر من مارس 2003 أعلن جورج بوش أن الحرب على العراق قد صارت وشيكة. بالنسبة لمفكرين مثل مايكل بايبر (1960 – 2015) فإن اختيار هذا التاريخ الذي يوافق أحد الأعياد التقليدية عند اليهود لم يأت على سبيل المصادفة، وإنما جاء تدليلا على العلاقة الوطيدة التي تربط السياسة الأمريكية بالصهيونية، استناداً لإيمان وعقيدة متطرفة ترى في خدمة الدولة اليهودية نوعاً من التقرب إلى الله عبر محاباة «شعبه المختار».
سوف يلقى كتاب مايكل بايبر «كهنة الحرب الكبار» الذي يوضح فيه بإسهاب فكرته هذه رواجاً. أما كاتبه فسوف يدفع ثمن أفكاره خلال حياته وحتى بعد وفاته، وحتى اليوم فإن الويكيبيديا، الموسوعة العالمية الإلكترونية، تعرّف بايبر بأنه أحد منظري نظرية المؤامرة، وذلك على سبيل التقليل من قيمة ما توصل إليه في كتبه ومدارساته.
على كل حال فإن بايبر لم يكن أول أو آخر من تحدثوا عن ذلك الارتباط بين الدين والسياسة، وتطبيقاته على تدخلات الولايات المتحدة الخارجية، خاصة غزوها للعراق. هنا يمكن الاستدلال كذلك بكتابات ستانلي هيلر والبروفيسور بول غوتفيرد، وكلاهما يهوديان، حول تلك الحرب. اعترف الكاتبان بدور اليهود في التحضير للحرب داخلياً وخارجياً، وأوضحا ذلك بالتفصيل عبر عدد من المقالات والمحاضرات المنشورة.
من الكتب التي يمكن أيضاً التذكير بها في هذا السياق كتاب «أمريكا المختطفة» لجون جي ميرسهايمر. حين تقرأ هذا الكتاب يمكنك أن تدرك إلى أي مدى وصل حنق المثقفين والمفكرين الأمريكيين على السياسة الأمريكية، التي بدت لهم مختطفة من قبل ممثلي الصهيونية في الولايات المتحدة، أو ما اصطلح على تسميته باللوبي اليهودي الذي تغلغل في أهم مفاصل الدولة.
يقدم الكتاب أمثلة لأسماء بارزة من داخل الوسط الصهيوني، عملت في إدارة الرئيس كلينتون، بل كانت مكلفة بملفات متعلقة بشؤون الشرق الأوسط والتفاوض مع الفلسطينيين، وهي الأسماء التي ستكون حاضرة في اجتماع كامب ديفيد عام 2000. يقول الكتاب إن هذه العادة، أي عادة الاستعانة ببعض الصهاينة لإدارة الملفات المتعلقة بالكيان وبشؤون المنطقة، سوف تستمر مع الرؤساء اللاحقين، خاصة جورج بوش الابن. لعلنا نتفق هنا حول ذلك مع إضافة تفصيل بسيط وهو أن هذه العادة لم تنقطع حتى الآن.
يشرح الكتاب أيضاً كيفية سيطرة العناصر المؤيدة للكيان على الإعلام، كما على مراكز البحث الأمريكية، وهي، وإن كانت حقائق دأب الجميع على ترديدها، إلا أن أهميتها تكمن في كونها تأتي من مبدأ «وشهد شاهد من أهلها» فتوضح كيف يقع الرأي العام الأمريكي فريسة لتلك الشبكة الجهنمية من المصالح المتشابكة التي يقودها رأسمال جشع وعقيدة متطرفة.
لكن الكتاب يحوي غير ذلك من الحقائق التي قد لا يتصورها القارئ من قبيل أن الحركات الصهيونية والجماعات المتحالفة معها في الداخل الأمريكي قد شكلت اتحادات لمراقبة المناهج الأكاديمية، وحتى سلوك الأساتذة باسم مراقبة الحرم الجامعي أو ما يسمى «كامبوس ووتش» وتعمل هذه الآليات والتنظيمات بشكل مباشر على محاصرة كل نشاط معادٍ للكيان، أو مدافع عن الفلسطينيين، كما تعمل وبشكل منتظم على استهداف الأساتذة الأشد عداء، بل مؤسساتهم الجامعية نفسها في بعض الأحيان، أما التهمة الأسهل دائماً فهي الاتهام باللاسامية ومعاداة اليهود.
انتبه كثير من الباحثين ومنذ وقت مبكر لتلك الخدعة، التي حاول عن طريقها الغرب إقناعنا بعبثية الربط بين العقيدة الدينية والسياسة، ورغم ذلك فحينما وضعت مجلة «البيان» التي كانت تصدر في لندن عام 1995 عنواناً افتتاحياً مثيراً هو: «أمريكا تنتخب الإنجيل» بدا العنوان غريباً على الكثير من القراء لإحساسهم بأن في الأمر مبالغة. في الواقع فقد كان ذلك مقالاً للدكتور عبدالله عمر سلطان اقتبسه من تعليق تلفزيوني أمريكي على نتائج الانتخابات الأمريكية. شهد الحراك الانتخابي حينها تقدم الجمهوريين ببرنامج يجعل من الصلاة في المدارس والأماكن العامة إحدى أولوياته، ما جعل صحيفة «الايكونومست» تصفهم بـ»حزب الله الأمريكي». سأترك جانباً المقالات والكتب التي كتبها عرب ومسلمون، لأتوقف عند كتاب آخر عنوانه يفضح مضمونه ولا يترك فرصة للتخمين، وأعني بذلك كتاب السياسية والدبلوماسية الأمريكية مادلين أولبرايت «الجبروت والجبار.. تأملات في السلطة والدين والشؤون الدولية».
لقد تحدثت السياسية الأمريكية في هذا الكتاب عن إيمانها بالله وعن توجيه ذلك الإيمان للسياسة الخارجية الأمريكية عبرها وعبر شخصيات أخرى نافذة منهم، بل كلينتون الرئيس الأمريكي الذي قدّم للكتاب.
وفي هذا المؤلّف الذي هو عبارة عن مذكرات لمسيرة حياة سيدة أثّرت كثيراً في تاريخ عالمنا الحديث نكتشف كيف كانت، ومن حولها، مسيّرين بما يعتقدون أنه جوهر الإيمان ورغبة الله. وحتى حينما تشرح فصل الدين عن الدولة فهي تشرحه على طريقتها التي لا تقصي الدين نهائياً عن الحكم والدولة، وأكثر من ذلك فهي تدلل على أن هذه ليست فلسفتها الخاصة، بل فلسفة ثبّتها التاريخ الأمريكي منذ نشأة دولته الحديثة على تلك الأراضي: «وجد كل رئيس من جورج واشنطن إلى الرئيس الحالي، أن من المناسب ذكر الله في سياق ما في خطاب حفل التنصيب. وعبّر معظمهم عن الشكر على النعم التي وهبت بها أمريكا، ورأى كثير منهم أن الله سيواصل تأييده للولايات المتحدة ما دامت سياساتها أخلاقية وعادلة. وقاد العديد منهم الأمة في الصلاة في أوقات الأزمات الوطنية، ووجد بعضهم سبباً لبحث طبيعة إيمانهم الديني في المناسبات العامة، فقد ذكر الرئيس كولدج مسيحية أمريكا كإثبات على نواياها الحسنة (إن الفيالق التي نرسلها تحمل الصليب لا السيف سلاحاً) وأعلن أن تنصير الإنسانية هو الغاية الوطنية لبلده (إن الدولة العليا التي نسعى إلى الحصول على تأييد كل البشر لها ليست ذات أصل إنساني وإنما إلهي)».
أما العلاقة مع الإسلام فهي علاقة حذرة لا تجعل السيدة أولبرايت تصرح بمعاداة ذلك الدين لمجرد الاختلاف والتنافس الحضاري، بل على العكس، تدعو لاحترامه واحترام قيم السلام والتعايش فيه، وهي تتحدث طبعاً عن الإسلام «الصحيح»، بحسب وجهة نظرها، الذي يمثله أشخاص مثل الزعيم التركي كمال أتاتورك الذي فصّلت في مدحه والثناء على تجربته واستشهدت بوصفه للدين: «خنجر مسموم موجّه إلى قلب شعبي». كان منطق أولبرايت غريباً بلا شك، فعبارة كهذه، إن صحّت، لا تعني أن أتاتورك كان مع الإسلام الحضاري المعتدل كما تريده، ولكنها تعني بوضوح أنه كان ضد الدين جملةً!
كاتب سوداني
د. مدى الفاتح