الناصرة ـ «القدس العربي» ـ وديع عواودة: رغم اختلال موازين القوى، لا تسارع إسرائيل إلى مواجهة عسكرية شاملة مع غزة لأن تجارب الحروب السابقة أحرجتها وتسببت لها بخسائر في جنودها ومدنييها وفي هيبتها وصورتها. في العدوان الأخير على غزة المعروف بـ «الجرف الصامد» عام 2014 لم تجرؤ إسرائيل على الاجتياح البري إلا في نهايتها وبشكل محدود وقد تورطت في 51 يوما من القتال وتعطلت خلالها مرافق حياتية كثيرة وحتى مطار اللد الدولي لمدة يومين جراء صواريخ المقاومة. ولذا فهي غير راغبة في المغامرة بتجربة مماثلة، وفي المقابل هي غير معنية برفع الحصار عن غزة والقيام بتسوية معها رغم توصيات الطبقة الأمنية بضرورة توفير أفق لأهالي القطاع يخرجهم من القفص ومنحهم ما سيخافون على خسارته كميناء ومعابر ومصادر حياة. وكشفت «القناة العاشرة» أمس أن نتنياهو رفض مجددا تقريرا وتوصيات من الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى رغم أنها وليدة حسابات الربح والخسارة لا الاعتبارات الأخلاقية، تدعو لإخراج غزة من طنجرة الضغط القابعة فيها لأن انفجارها يمس بمصالح إسرائيلية. وتشير هذه التوصيات إلى أن إنهاء محنة غزة سيخلص إسرائيل من «أوجاع رأس» ومن مصدر مشاكل يمس صورتها في العالم.
وحسب القناة هناك رهانات غير معلنة لدى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية في اقتراحها بناء ميناء لغزة يخضع لرقابة دولية، مفادها أن ذلك سيساعد على المزيد من التجزئة والانفصال وتفتيت الفلسطينيين لجماعات وضرب وحدانية الشعب الواحد. لكن قادة الاحتلال وعلى رأسهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يرفضون ذلك ولا تخلو اعتباراتهم من حسابات شعبوية وانتخابية وخوفا من ردود فعل في أوساط اليمين الذي يتنافسون على ثقته، كما تؤكد القناة العاشرة. لكن القناة تغفل أحد أهم الاعتبارات لدى حكومة الاحتلال في مواصلة تضييق الخناق على غزة خاصة في السنوات الأخيرة في ظل تعاون بات مفضوحا مع مصر. إسرائيل تتطلع لكسر إرادة الفلسطينيين بالحديد والنار وفق نظرية «كيّ الوعي» المشابهة لنظرية «الصدمة والترويع» التي استخدمها الغزاة الأمريكيون أثناء احتلال العراق. ولذا فهي تمضي في الضغط على غزة باعتبارها آخر معاقل المقاومة المسلحة التي تهدد إسرائيل، وترى طبقتها السياسية بعكس طبقتها العسكرية أن الحصار بالذات يخدم فكرة «فرق تسد» تكريس الانقسام الفلسطيني الداخلي وتفتيت الفلسطينيين بالاستعانة بـ «خطوات اقتصادية» في الضفة الغربية المحتلة على شكل عصا للقطاع وجزرة للضفة. ولذلك فإن إسرائيل مستعدة للاستخفاف بالعالم وبردود فعله في ظل انشغال العالم بحاله وازدواجية معاييره وانحياز الولايات المتحدة الأعمى وغير المسبوق لها والنابع من نفوذ المسيحيين الصهاينة أو المتجددين ورغبة دونالد ترامب بالوفاء بوعوده لهم.
ولم تتردد إسرائيل بشن هجوم عنيف على مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، بسبب قراره المُتعلٌّق بفتح تحقيق دولي مستقل ضد الانتهاكات الإسرائيلية في قطاع غزة، منذ بدء مسيرات العودة الكبرى في 30 آذار/مارس الماضي. وتقدّم رئيسُ الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، صفوف السياسيين الإسرائيليين الذين هاجموا القرار، حيث كتب في صفحته في «فيسبوك»: «لا جديد تحت الشّمس، مجلس حقوق الإنسان يؤكد مرة أخرى أنه مُتلوّن ومُنافِق، وأن هدفه هو مُهاجمة إسرائيل، وحماية الإرهاب». مضيفا: «إسرائيل ترفض القرار الذي كان معروفا بالنسبة لنا مسبقا، وسنواصل حماية مواطني الدولة وجنودها وفق حقّنا المشروع في الدفاع عن النفس». وقال وزير الأمن، أفيغدور ليبرمان، في حسابه على موقع تويتر: «إسرائيل تتعرض لهجوم مزدوج، هجوم إرهابي من غزة وهجمة نفاق برئاسة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة». وانضم ليبرمان لنتنياهو في استثمار تصريحات اعتبرها البعض غبية حول هوية ضحايا المذبحة داعيا «للخروج على الفور من مجلس حقوق الإنسان، والتصرف بحزم حتى تنضم الولايات المتحدة إلى هذه الخطوة». ويبقى السؤال هل فعلا سيتخذ المجتمع الدولي خطوات عملية تردع إسرائيل عن مواصلة انتهاكاتها بحق المدنيين الفلسطينيين أم سيكتفي بضريبة شفوية كما حصل في الماضي وربما في المستقبل أيضا؟
مثل هذه الحالة الإسرائيلية العربية والدولية تعني بقاء غزة داخل قفص إسرائيلي ـ مصري ـ دولي والاقتراب من حرب جديدة تكون أكثر دموية لأن «طنجرة الضغط» ستنفجر حتما دون تنفيس حالة الاحتقان والنار المتصاعدة. ويلتفت عدد قليل من قادة الرأي العام في إسرائيل لمسار الانفجار الحتمي محذرين من عواقبه والتذكير بأن غزة باقية وأن أهلها جيران لإسرائيل في نهاية المطاف وعليها البحث عن طريقة للتعايش معها، أما بقية قادة الرأي العام فيبدون بلادة إحساس وسط تبني ما تتبناه المؤسسة الحاكمة ودفاع مستميت عن الجيش الذي ما زال الأكثر أخلاقية في العالم في نظرهم.
في الناحية الأخلاقية هناك قلة قليلة جدا من الإسرائيليين ممن تجرؤ على قول الحقيقة وتسمية الأشياء بتسمياتها والاحتجاج على جرائم الاحتلال بحق أهالي غزة، ومن هؤلاء الصحافي اليساري حجاي مطار الذي أكد وجود سبل أخرى بديلة للقتل منها إنهاء حالة الحصار، التفاوض مع حماس، والتعامل المتسامح مع مظاهرات غزة بصفتها «السجن الأكبر» في العالم. وتنعكس عدوانية إسرائيل المنتشية بقوتها المفرطة بين يديها بتعاملها الفظ مع مواطنيها من فلسطينيي الداخل حيث حملت شرطتها أمس بالهراوات أمس على متظاهرين في حيفا داخل أراضي 48 لخروجهم في مظاهرة تكافل مع غزة تحت شعار «يا غزة لا تهتزي كلك كرامة وعزة». وأقدمت الشرطة على مداهمة منظمي المظاهرة واعتقالهم من منازلهم في مداهمات ليلية، وقبل أيام لم تتورع شرطتها عن الاعتداء على نوابهم في الكنيست بالضرب خلال مشاركتهم في مظاهرة في القدس احتجاجا على نقل السفارة الأمريكية. وهذه نتيجة طبيعية لنظرة إسرائيل للمواطنين العرب فيها كأعداء وطابور خامس لا كمواطنين ومدنيين يمارسون الحد الأدنى من حقوقهم السياسية بالتظاهر والاحتجاج.
11HAD