في السابع من أكتوبر 1970 أكمل مجلس الأمة المصري الإجراءات الدستورية وأقر ترشيح نائب الرئيس محمد أنور السادات رئيسا جديدا لمصر. وفي اليوم نفسه ذهب السادات للبرلمان ليعلن برنامجه، وقال في بيانه بتلك المناسبة «جئتكم على طريق عبد الناصر، واعتبر أن ترشيحكم لي بتولي رئاسة الجمهورية هو توجيه بالسير على طريق جمال عبد الناصر».
بدورهم، وكما هي العادة، خرج المصريون بمزحة سياسية ساخرة مفادها، أن السادات يسير على طريق عبد الناصر لكن بالاستيكة «الممحاة». الفكرة نفسها توجد في متابعة التعامل الرسمي والإعلامي المصري مع ثورة 25 يناير، التي يسير عليها الجميع بالممحاة، سواء من أجل مسح الثورة نفسها لدرجة المطالبة بإلغاء شهر يناير وبدء العام من شهر فبراير، تجنبا لما يسببه للبعض من حالة إحباط، إلى محاولات مسح مطالب الثورة بتنفيذ عكسها على الأرض، أو بمحاولة تقزيمها وتحويلها إلى سطر في كتاب التاريخ كل دوره أنه أنتج أخطاء أفرزت 30 يونيو بوصفها، كما قال الرئيس السيسي في كلمته للشعب بمناسبة يناير، ثورة تصويب مسار وتصحيح مسيرة.
تبدو صورة الممحاة في المشهد واضحة، ونحن نتابع مشاركة السيسي في الاحتفال بعيد الشرطة في 23 يناير والكلمة التي وجهها بمناسبة ثورة يناير في اليوم التالي. يبدو التناقض واضحا وفي الخلفية جدل مستمر حول اليوم والمناسبة التي يفترض الاحتفال بها، فهل ٢٥ يناير هو عيد الشرطة أم ذكرى الثورة؟ طريقة صفرية تسعى لتعظيم الثورة أو الشرطة، في حين يتم تناسي أن الدولة هي المعنية، وأن عيد الشرطة مثل الثورة لا يرتبط بيوم أو لحظة ولا يخص أفراد في المشهد الحالي بقدر ما يخص جزءا من تاريخ مصر وحاضرها ومستقبلها. أن نحتفل بالثورة لا يعني أن نسقط ذكرى عيد الشرطة المرتبط بدوره بالصمود والدفاع عن الوطن، خاصة أن ممارسات البعض لا تسقط القيمة التاريخية للحدث. كما أن الاحتفال بعيد الشرطة لا يعني إسقاط الثورة لأن عدم تحقق أهدافها لا يسقطها ولا يقلل من إنجازاتها التي حركت مياه البركة الراكدة، وأكدت أن الاستقرار الظاهر لا يعنى الرضوخ والقبول ولا يضمن ديمومة الاستمرار والثبات.
يبدو الاحتفال بثورة يناير عبر كلمة «حدث ثانوي» في مشهد يوم 25 يناير مقابل الاحتفال بعيد الشرطة الذي يمثل بدوره الحدث الرئيس الأصيل، وهو ما يعد بدوره تعبيرا عن تعقيدات كثيرة في المشهد المصري، كما يظهر ما يراد مسحه وما يراد نقشه على الحجر وترسيخه.
جاءت كلمة السيسي بمناسبة الثورة معلبة ومحافظة على درجة صوت شبه ثابتة، وهو يحاول الالتزام بالنص المكتوب، بالمقابل شارك الرئيس في الاحتفال بعيد الشرطة في أكاديمية الشرطة وسط أفراد وزارة الداخلية وأهالي الشهداء وأسرهم، بمن فيهم أطفال الشهداء من مختلف الأعمار. مثلت كلمة الثورة حالة نظرية خالية من الحياة والبشر، حيث غاب الجانب الإنساني للثورة لا صور شهداء ولا أسر ولا مصابون ولا حديث عن التزام تجاه أحد أو وعود بالعلاج في الداخل والخارج، واهتمام بأبناء الشهداء كما حدث في احتفال عيد الشرطة، الذي كان الحديث فيه حيا وإنسانيا وهو يشكل لوحة من البشر والحزن وقصص المعاناة والفقد والصمود والابتسامات والدموع. ظهرت الفجوة واضحة بين الحديث عن بشر بصفتهم العامة المرسلة في حالة الثورة وبشر بصفتهم المؤسسية المرتبطة بجهاز له قيمته ومكانته المراد استمرار ترسيخها في الواقع المصري.
تظهر انسنة الاحتفال بعيد وشهداء الشرطة بوصفها ضرورة لتعظيم دور الشرطة واستعادة مكانتها التي كانت قبل الثورة وتكثيف الخوف من فكرة الثورة ذاتها لتأكيد أن 30 يونيو آخر الثورات. فالاحتفال والكلمة رسائل مهمة للمواطن بما تحمله من كلمات مباشرة وغير مباشرة، وما تقدمه من مشاهد وصور. كما أنها تعبير واضح عما تمثله ثورة يناير من إشكالية للنظام، فهي ضرورة لتأسيس شرعيته الممثلة في 30 يونيو، ولكنها تحد للوجود يقتضى العمل على تشويه فكرة الثورة بوصفها وسيلة إيجابية للتغيير والتأكيد على أن الفكرة يجب ان تنتهى عند 30 يونيو حتى لا تتكرر، وهو ما يبرز أهمية الحديث عن «انحراف المسار» الذي حدث لثورة يناير وما مثلته 30 يونيو من ضرورة للتصحيح. واقع يؤكد أن ثورة يناير مكروهة في ذاتها، لما تمثله من فكرة مهددة للكراسي، خاصة عندما تستمر الأوضاع التي أفرزتها أو تتعاظم كما هو واقع الحال في المحروسة. بالمقابل تمثل الشرطة جزءا مهما من حماية النظام واستقرار الأوضاع في الوقت الذي تساعد عملية المقارنة بين وجودها وغيابها في مرحلة ما بعد الثورة على تعظيم المخاوف من الفوضى وتعظيم قيمة الحفاظ على الاستقرار، وما يرتبط به من الحفاظ على الوضع القائم. لهذا كان من الطبيعي التركيز على ضحايا الشرطة ودورهم في حماية 90 مليون مصري، وعلى ضرورة الأمن من أجل تحسين مستوى المعيشة وتوفير فرص العمل والاستثمارات وربط كل هذا باعتباره اكتشافا ناتجا من غياب الأمن المرتبط بدوره بثورة يناير الحاضرة، بوصفها بوابة عدم الاستقرار وغياب الأمن، والإرهاب وما يرتبط به من زيادة التحديات التي تزيد من قيمة ما تقوم به الشرطة والجيش من أجل الدفاع عن المواطنين وضمان أمنهم.
وفي حين مثل الحديث عن يناير مدخلا للحديث عن ضرورة 30 يونيو وإنجازات حكم السيسي خاصة مع تقديم 30 يونيو بوصفها تصويبا لثورة يناير، مثل عيد الشرطة فرصة لتجديد الحديث عن التفويض في تأكيد غير مباشر على ضرورته وقيمة ما حققه في ظل عدد الشهداء من رجال الشرطة والتحديات التي تواجه مصر. وبهذا استخدم السيسي تلك الأحداث، وسط حالة من الجدل عن توفر الأجواء لثورة ثالثة من عدمها وتزايد الغضب وأسبابه، ليؤكد على أهمية أحداث وقضايا إشكالية ارتبطت بوجوده في المشهد السياسي خاصة 30 يونيو والتفويض الذي حصل عليه في 26 يوليو 2013 لمواجهة الإرهاب، أو أي عنف محتمل، وقدمت له فرصة للدفاع عنهم مع أحيائهم بوصفهم ضرورة.
ولكن الاحتفال والخطاب مثلا معا فرصة لحديث متناقض عن البرلمان ودوره والموقف منه. ففي حين أعتبر في خطاب الثورة أن انتخاب مجلس النواب مثل إنجازا بوصفه الاستحقاق الثالث لخريطة الطريق الذي اكتمل به البناء الديمقراطي والتشريعي، مؤكدا على قيمة المهمة الملقاة على عاتق النواب ومطالبا أياهم بممارسة دورهم في الرقابة والتشريع مع تعهده بمساندتهم ودعمهم وتوفير «مناخ ايجابي وحر في إطار الاحترام الكامل للدستور وما نص عليه من فصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية» في وصفة تعد رسمية وبراقة كان الرئيس قد حرص عبر مدخل الحديث عن التفويض في خطاب عيد الشرطة في اليوم الأسبق إلى توجيه النقد للنواب بسبب رفض قانون الخدمة المدنية.
اعتبر السيسي موقف النواب غير مسؤول ولا يتماشى مع المهمة التي استدعي من خلالها لتولي مهمة الرئاسة ولا المطالب بالإصلاح التي يطالب بتحقيقها، مطالبا النواب بدراسة الموضوعات «كويس» وهو ما يحمل اتهاما ضمنيا للنواب بعدم الدراسة وعدم المعرفة وعدم تقدير اللحظة ولا المسؤولية، والأهم عدم احترام تفويض الجماهير وكأنه يطالب بتفويض آخر في مواجهة البرلمان أو يخرج التفويض القديم – الذي يتم توسيعه دوما- ويعيد استخدامه لتجديده وتأكيد أن هناك معارك فعليه بينه وبين من يفترض أنهم نواب الشعب وأن تفويض الشعب يجب اختيار الصناديق ومعرفة الرئيس تسود معرفة النواب وحكمته تعلو على المجلس، كل هذا وهو يؤكد أنه لا يتدخل في عمل البرلمان ويتعهد في اليوم التالي باحترام الدستور والفصل بين السلطات.
تظهر الممحاة واضحة في الحديث عن ثورة يناير مقابل 30 يونيو، وعن الحرية والديمقراطية مقابل ما سماه دور الدولة في تحقيق التوازن بين الحقوق والحريات في إطار «واع من الحرية المسؤولة»، وفي الحديث عن احترام الدستور والفصل بين السلطات مع توجيه النواب إلى فوقية التفويض على كراسيهم. تظهر الممحاة واضحة وهي تؤكد أن الديمقراطية مجرد مسيرة مستمرة مثل محاربة الفساد، أما التفويض فضرورة مستمرة ودائمة في مواجهة أعضاء السلطة التنفيذية والتشريعية وفى مواجهة الشعب نفسه الذي كلف بالدور ولكنه يبدو أحيانا غير راغب في القيام بما يقتضيه التفويض من قبول بشد الحزام اقتصاديا وسياسيا في حين أن عليه أن يقبل ويطالب مبتسما بنصيبه من الحزام الذي لا يمكن حذفه من المشهد بالممحاة.
٭ كاتبة مصرية
عبير ياسين
مصر الان … سمك ..لبن …تمر هندى