على هامش الأزمة الترك روسية

■ منذ أسبوعين تقريباً وخبر إسقاط تركيا للطائرة الروسية يتصدر عناوين الأخبار. أفرد الإعلام الإقليمي والدولي مساحة لمناقشة تداعيات الحادثة وتأثيراتها على المنطقة، كما تمت استضافة العشـــرات من المحللين والمراقبين والمتابعين الذين قدموا تصوراتهم وفتاواهم حول القضية.
بعد كل ذلك السيل من المعلومات والتحليلات أصبح من الصعب الإتيان بما هو جديد على المتابع، حيث تمت مناقشة الموضوع بجوانبه الفنية وتأثيراته الاقتصادية بشكل مكثف، لكن متفاوت الموضوعية. هذا التفاوت نبع في الواقع من حقيقة امتلاك أولئك «المحققين» في غالبهم لمواقف مسبقة مع أو ضد تركيا أو روسيا، وهو ما يحجب النظر بشكل مفيد وعقلاني للقصة التي تبدو معقدة بالنسبة لما يمكن تسميته بـ»العقليات التابعة»، لارتباطها بمفهوم «السيادة»، التي هي منتقصة عند معظم دول المنطقة، التي ربما لم تكن لترى في عبور طائرة أجنبية لأجواء البلاد بلا إذن انتقاصاً حقيقياً لسيادتها، لاسيما لو كانت تلك الطائرة تابعة لدولة كبرى.
لكن تركيا لا تتعامل كدولة صغيرة، ولا تنظر لنفسها كدولة من غمار دول الإقليم، وهي لذلك تتعامل بحساسية مع جميع من يعاملونها كجزء من المنظومة المستباحة المسماة بالشرق الأوسط. روسيا التي لم تقرأ الحساسية التركية بشكل صحيح بدت مصدومة من الجرأة على إسقاط طائرتها. ربما كان سبب تلك الصدمة هو العلاقات التجارية القوية التي تربط بين البلدين والتي جعلتهما، رغم الاختلاف في وجهات النظر السياسية، يبدوان كحليفين، أو ربما كان سبب الصدمة هو حالة «الانتفاخ الروسي» التي جعلت أنصارها يصورونها كقطب جديد مقابل القطب الامريكي. تصوير اعتمد بقدر كبير على حالة «التمرير» التي يمارسها الأمريكيون تجاه الاجراءات والتدخلات الروسية في القوقاز والقرم وأخيراً سوريا.
(هذا الانتفاخ مثّله فلاديمير جيرونيفسكي رئيس الحزب الليبرالي الذي دعا إلى إلقاء قنبلة ذرية على اسطنبول بغرض تأديبها!) اللافت في التحليلات التي استمعنا إليها والتي تحاول الموازنة بين قوة الطرفين تكرار المتحدثين لحقيقة أن تركيا عضو في حلف الناتو، ما يعني أن روسيا إذا دخلت في مواجهة فإنها ستدخل مواجهة كبرى لن تستطيع تحمل نتائجها وكلفتها الاقتصادية والعسكرية. من الناحية النظرية، تركيا عضو أصيل في ذلك الحلف، الذي تأسس كمنظومة دفاع غربية مشتركة، لكن إلى أي حد يمكن الاعتماد الاستراتيجي على ذلك مقابل تهديد جاد؟
بالنسبة إليّ أعتقد أن تراجع روسيا عن التصعيد، لو حدث، لن يرجع لخوفها من انتقام الناتو، بقدر تحسبها للآثار الاقتصادية والأمنية التي يمكن أن تترتب على حالة عداء صريح للجمهورية التركية. حتى الآن اكتفت روسيا بتوسيع نطاق عملياتها في سوريا، ومحاولة توجيه نوع من الحرب الاقتصادية عن طريق مقاطعة المنتجات وتعطيل التصدير والأعمال المشتركة، لكن الاحتمالات تبقى دائماً مفتوحة على ما هو أكبر. الطريف في تلك القضية ذات الأبعاد الخطيرة والتأثيرات اللانهائية على استقرار المنطقة في حال تصاعدها أكثر هو انقسام الرأي العام العربي بين مؤيد ومعارض لهذا الطرف أو ذاك، فبالإضافة للتصريحات السياسية الرسمية سوف تظهر «هاشتاغات» تطالب بدعم الاقتصاد التركي لتعويض خسائره من أي مقاطعة روسية، في حين يدشّن أنصار روسيا «هاشتاغاً» آخر بعنوان: إغضب يا بوتين!
بدا الأمر أشبه بتشجيع فريقين يلعبان الكرة. أشبه بمشهد أطفال بائسين بملابس بالية في مدينة فقيرة وهم يشجعون فريقاً أو لاعباً أوروبياً لا يعلم أساساً بوجودهم. لحسن الحظ لم يساير كلا القائدين، حتى الآن على الأقل، تلك الرغبة الطفولية لدى بعض أنصارهما في الدخول في مواجهة مفتوحة غير مدروسة العواقب.
النقطة التي لم يولها من استمعت إليهم الاهتمام الكافي هي تلك المتعلقة بموقف الولايات المتحدة من الأزمة. كان موقفاً غريباً وشديد البرود، ففي حين بدأت التصريحات تشتعل بين الطرفين، وبدأ الإعلام يتحدث عن مواجهة القيصر مع السلطان، كانت الولايات المتحدة تتحدث بهدوء عن ضرورة الانحياز للدبلوماسية والتمسك بالقانون الدولي، وهو موقف لا يتماشى مع ما اعتدناه من الدولة الأكبر التي قد تذهب للتدخل في أي مكان في العالم بدون انتظار إجماع دولي.
الموقف الأمريكي الذي كان متماشياً مع سياستها السورية وسياساتها الجديدة في المنطقة، يدل بوضوح على عدم عزمها الدخول في مواجهة مع روسيا بسبب تركيا، وهو ما يعني بالضرورة أن الاعتماد على الناتو، الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة، لن يكون منطقياً، خاصة أنها رغم مساندتها لوجهة النظر التركية، لم تلبث أن لامت حليفتها، بشكل غير مباشر، باعتبار أنها لم تستشر قبل القيام بعملية الإسقاط، وهو ما يجعلنا نشكك في الرؤية التي كانت تقول إن عملية الاسقاط تم افتعالها بضوء أخضر غربي، من أجل جر روسيا إلى مواجهة، حيث أن الواضح هو عدم نية الحلف ولا دوله التورط في سوريا، لا من أجل عيون تركيا، ولا من أجل أي سبب سياسي أو إنساني آخر.
هذا يقودنا من ناحية أخرى لتفكيك النظرة السائدة التي تتحدث عن الارتباك الأمريكي أو عن ضعف شخصية أوباما. بالنسبة إلي فأنا لا أرى الرئيس الذي استطاع بنجاح الخروج من المستنقع العراقي، والتحضير للخروج من الآخر الأفغاني، عبر سياسة انسحاب متأنية، مرتبكاً. كما أنني لا أرى في سياسته التي تتوجه للاهتمام بالدول الآسيوية النامية على حساب الدول العربية، أي إشارة تنم عن ضعف وتراجع، بقدر ما أراها سياسة لإعادة الترتيب الواقعي للأوليات، خاصة أن المنطقة العربية لم يعد لديها فعلاً الجديد ولا المزيد لتقدمه للاقتصاد الأمريكي، الذي بات هو الآخر يبحث عن مصادر جديدة للدعم وللشراكة الموضوعية.
علينا ألا ننسى أن جزءاً مهماً من حملة أوباما كان قد تعلق بوعود التخفيف من التدخلات العسكرية التي كانت، وما تزال، من أهم المطالب الشعبية للأمريكيين، وهو ما يجعلنا نفهم إصرار الولايات المتحدة على الحل السياسي في سوريا، ورفضها أي دعوات للتدخل المباشر حتى ولو كان دعوة لإقامة منطقة عازلة أو آمنة. من هنا يأتي التناقض بين وجهتي النظر التركية والأمريكية، فبينما تكون سوريا بالنسبة للأوائل منطقة استراتيجية ذات أولوية، تبقى بالنسبة للأمريكيين مجرد أرض بعيدة بلا أهمية يمكن مقايضتها مع الروس أو الانتظار ببرود نتيجة ما ستسفر عنها الفوضى هناك.
ختاماً أقول إنه سواء كانت الدول الكبرى في حالة من التنسيق وتبادل الأدوار تجعلها تخسر هنا وتربح هناك، كما يزعم البعض، أو كان هناك تراجع حقيقي للامبراطورية الأمريكية لصالح مراكز قوى جديدة كروسيا، فإنه لن يكون للمجموعية العربية، بحسب المعطيات الحالية، أي دور مهم في قيادة الأحداث خلال المستقبل القريب، وإن أقصى حدود لدور أغلبهم لن يتعدى أن يكون مجرد حجر على طاولة لعب الكبار.

٭ كاتب سوداني

د. مدى الفاتح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خليل ابورزق:

    مقال جيد وموضوعي الى حد كبير

إشترك في قائمتنا البريدية