قد لا أجانب الصواب إذا قلت إنّ نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة في إسرائيل (17 مارس 2015) لن تأتي بجرار العسل واللبن للفلسطينيين، ولن تمنح الاستقلال لشعب ما فتئ يتنزّى في القيود منذ عقود موغلة في الدياجير، فمن العسير الربط دائما بين ايديولوجيات الأحزاب الإسرائيلية وبرامجها الانتخابية من ناحية، ومجمل الإسرائيليين من ناحية أخرى، بحيــــث يصعب التطابق بين الناخب الإسرائيلي وما يمثله نائبه داخل «الكنيست الإسرائيلي» عمليا.
والقضية ـ الفلسطينية- من القياسية في هذه النقطة، فقد ينجح «الليكود» بزعامة بنيامين نتنياهو لأسباب اقتصادية، أخفق فيها «حزب العمل»، وربّما يعود بعد حين، يقصر أو يطول «حزب العمل» إلى السلطة، لأنّ حكومة نتنياهو لم تنجح هي الأخرى في معالجة المشكلة الاقتصادية. وهكذا، فالجميع يفكّرون في «الأمر الجوهري» تفكيرا ضيقا محصورا بأزمات عابرة أو غائرة، ولكنهم يلقون بالعتب كله على أزمة الشرق الأوسط، من دون التفكير بحل تاريخي شامل لا يخضع للمزايدات أو المناقصات الانتخابية، ولا بالعلة والمعلول الاقتصادي.
ورغم الارتباط الصهيوني العميق بالغرب، فلا أحد من زعماء السياسة الإسرائيلية يفكّر بطريقة نيكسون مثلا في رحيل أمريكا عن فيتنام وانفتاحها على الصين، أو التفكير بطريقة ديغول في رحيل فرنسا عن الجزائر.. ولكن «إسرائيل» هذه التي يفكر فيها – البعض منا- لا وجود لها في العقلية الحزبية الإسرائيلية، حيث تصبح صهيون هي الحزب وحده ويصبح الشعب هو عدد الناخبين وحدهم.
وهي «مأساة سياسية من الدرجة الأولى» لأنّ حصــيلة الفكر الحزبي الإسرائيلي، هي المزيد من الأزمات العابرة أو الغائرة (في الاقتصاد مثلا) وبقاء الأزمة الجوهرية (الكيان والوجود) بلا حل حقيقي، مما يهدّد باستمرار الحروب وكأنّ «إسرائيل» دولة لا عمل لها في غير ميدان القتال، على حساب- الجماهير- الجائعة إلى السلام، لأنّه يعني ببساطة الأمن والرخاء.
إنّنا كعرب- وفي أحسن الأحوال- لا تتجاوز مقاربتنا لجوهر الصراع حدود «التصوير السياسي» إلى حدود تقديم البدائل، إذ نكتفي بتجسيم «الحائط الصهيوني المسدود»، الذي يحتاج إلى مبادرة في حجم الخروج الأمريكي من فيتنام والإقبال الأمريكي على الصين، أو في حجم الخروج الفرنسي من الجزائر.
فإسرائيل ذات الاقتصاد المفتعل، الذي يعتمد أساسا على المساعدات الأجنبية، تقيم أوثق العلاقات الاقتصادية مع دول أفريقية عديدة، بل هي تقيم أوثق العلاقات مع دول إسلامية كتركيا وإندونيسيا.
وإسرائيل التي يعتمد تسليحها على الولايات المتحدة، لدرجة أنّ الجسر الجوّي عام 1973 هو الذي أنقذها من الهزيمة الكاملة، هي نفسها التي تنتج الطائرات الحربية ويقال القنبلة الذرية، وتتاجر في السلاح، وتبعث بخبرائها العسكريين لتدريب الأفارقة. هذه العلاقات الوطيدة من شأنها تطويع الرأي العام الدولي للقبول بإسرائيل، لا كوجود فقط، بل كاستمرار توسعي أيضا، وهنا الخطورة.
إنّ الرأي العام في الغرب، وحتى في العالم الثالث، لا ينتبه إلى حقوق تاريخية. وحين تقع حرب مع العرب، فهو لا ينتبه إلى أصل المشكلة، بل إلى انعكاساتها على مصالحه الاقتصادية والأمنية، لذلك لا يدرك الرأي العام في العالم معنى احتجاب النفط عام 1973، إلا باعتباره»عدوان التخلّف العربي على التقدّم الحضاري للإنسانية»، ولا يفهم مشكلة الفلسطينيين إلا على أساس كونها مسألة إنسانية لبضعة آلاف من اللاجئين، وهكذا فإنّه لا يصدّق إلا إعلامه وسياسييه، وقلّما تتوفّر له قناعات خاصة مستقلة..
وفي غياب التأثير العربي، بل في حضور النزاعات العربية المستمرة، التي يعي منها أنّ لا رأيا عربيا موحّدا يناصره، وفي حضور التنازعات العربية المستمرة، التي يعي منها أنّ العرب سيوافقون إسرائيل في النهاية، وبالتالي لماذا- يزايد- علينا ونحن أصحاب المشكلة إن لم نكن سببها؟ من هنا، فإنّ ما يسمى الرأي العام العالمي قد وقف منذ 1948 إلى جانب إقامة دولة يهودية في فلسطين، ثم ترجم تأييده الحار لهذه الدولة بالدعم المادي والمعنوي المتصل لحمايتها وجودا وكيانا، وبالطبع كان هذا الموقف المستمر يعادي ضمنيا الطموحات العربية لاسترداد فلسطين أو قبول التقسيم، إو إقامة دولة فلسطينية في القطاع (غزة) والضفة الغربية من نهر الأردن، حسب تسلسل التنازلات العربية، وقد لعبت- في السابق-الاشتراكية الدولية، وعلى يمينها الليبراليون وعلى يسارها الراديكاليون دورا مؤثرا في استمرار هذا الدعم لإسرائيل. ومهما قيل عن المشروع الصهيوني ووعد بلفور والانتداب البريطاني في فلسطين، فإنّ الحرب الكونية الثانية وما رافقها من «مجازر» نازية لليهود في الغرب، هي الإطار الحقيقي والثابت لدعم «الرأي العام العالمي» المتواصل لإسرائيل.. فالوطن القومي لليهود – حسب هذا الرأي- ضمانة مؤكدة،وحماية «إسرائيل» واجب حتمي.
وإذن؟
إنّ فكرة الدولة الفلسطينية إذن، هي محور المصلحة الأوروبية الغربية المباشرة في إيجاد صيغة «الاستقرار» المنشود لهذه المنطقة الملتهبة بين مناطق العالم الإستراتيجية. ولكن هذه الدولة ترتبط لدى – الغرب- بقبول عربي واسع للدولة اليهودية فكرة وكيانا، وكذلك بتعديلات جغرافية هنا وهناك، لمشروع التقسيم القديم. وهذا أمر له أهمية في قياس التذبذب الفكري الغربي، حين تفرض بعض المتغيرات نفسها، وكأنّها «الأمر الواقع» الذي يستحيل تجاوزه، بل يستدعي «تفكيرا جديدا» يبدأ غالبا من نقطة الصفر.
والمغزى الكامن هنا، هو أنّه من حقنا الحذر دائما في قراءة العقل الغربي، خاصة في ما يعنينا، لأنّه في الأغلب لا يكون تفكيرا استراتيجيا ثابتا أصيلا يمكن الرجوع إليه، أو الإطمئنان له كفكر نهائي في الموضوع.
ما أريد أن أقول إنّ حماية المشروع الصهيوني في إقامة دولة يهودية وضمان بقائها أمر لا يهم غرب أوروبا والولايات المتحدة وحدهما، بل هو شأن دولي يرى من وجهات نظر مختلفة، أنّ هناك قومية يهودية تهددت بالدمار الشامل أكثر من مرّة، أقربها الحرب العالمية الثانية، وأنّ الدولة العبرية وحدها هي الضمان الممكن للشعب اليهودي ضد الإنقراض. وهذا أساس ثابت في التفكير الغربي، والأمريكي بوجه خاص لا سبيل لتجاهله أو تجاوزه في طريق البحث عن حل.. والحل، هو إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة في ظل سلام شامل ودائم في المنطقة كلها، وإلا فالحرب الجديدة مقبلة لا ريب، فحين لا يكون هناك سلام حقيقي لا يعود لحالة اللاسلم واللاحرب إلا هامش ضيق سرعان ما ينفجر في ميدان القتال اللانهائي..
ولكن- الغرب- يعتقد مخلصا أن العرب والفلسطينيين خطَوا خطوات عملية عديدة خلال السنوات الأخيرة لإقامة السلام الدائم. ومازال- يعتقـــد- أنّ بإمكانهم أن يقدموا المزيد..
فهل من مزيد؟
٭ كاتب صحافي وعضو باتحاد الكتّاب التونسيين
محمد المحسن